أنت هنا

تبعات كرسي الإفتاء
6 شوال 1427

لكل منصبٍ تبعاته التي يستمدها من طبيعة العمل الذي يتعاطاه القائم به، ثم تعظم التبعة بقدر عظمة ذلك المنصب، إذا تقرر هذا؛ فما الظن بمنصبٍ ينطق فيه القائل باسم الله تعالى، ويترجم فيه عن الحق سبحانه، ويقوم فيه مقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمته، وما الظن بقلمٍ هو أعلى الأقلام، ولسانٍ هو أشرف الألسنة، الظنُّ أنْ لا منصب يسمو فوق هذا المنصب، حاشا منصب النبوة.
لقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ناسٌ من أمتي عُرِضوا عليَّ غزاةً في سبيل الله، يركبون ثبجَ هذا البحرَ، ملوكاً على الأَسِرَّة، أو مثل الملوكِ على الأَسِرَّة) [البخاري (2636)، ومسلم (1912)].

ولئن كان المقصود بهذا ـ أصالةً ـ: الغزاة في سبيل الله تعالى، فإن لأهل العلم، "المستبحرين" في فقه الشريعة، ووارثي علوم الأنبياء، الماضين على سبيل "الجهاد" العلمي؛ من هذا الشرف الباذخ والمقام الشامخ؛ بقدر استبحارِهم فيه، وبمقدار نصرتهم لهذا الدين، فهؤلاء بالكتب، وأولئك بالكتائب.
لقد كانت كراسي الدرس والفتيا من الأمرِ الأول، وكان يقال للعلماء قديماً: الكراسي بما كانوا يعلِّمون الكتاب وبما كانوا يدرسون، وَ " لأنهم المعتمَد عليهم " [تفسير القرطبي (3/276)].

وكان الملوك والأقيال والرؤساء يتفاخرون باحتفاف كراسي العلماء بين أيديهم، قال الشاعر:
يحف بهم بيض الوجوه وعصبةٌ *** كراسي بالأحداث حين تنوبُ
أي: "علماء بحوادث الأمور"اهـ منه.
ألا ما أجل ذلك الوصف الذي أطلقه إمام الحرمين على المنتصب لإفتاء الناس، يقول: "المفتي مناطُ الأحكام، وهو ملاذُ الخلائق في تفاصيل الحرام والحلال "اهـ [البرهان (2/1330)]، فما أحرى أهل الفتيا أن يتدبروا هذه الإضاءة من فقيهٍ أصولي كبير.

لقد كانوا يُعظِّمون هذا المنصب، ويرون أنْ لا يعتلي الكرسي إلا من أمضى دهوراً في الدرس والبحث والتنقيب في حِلَق العلم ومعاهده، ومدونات الفقه وكراريسه، حتى تختلط هذه بلحمه ودمه، حتى إنهم كانوا يقولون: "التاجرُ مَجْدُهُ في كيسِه، والعالِم مَجْدُهُ في كرارِيسه "، ويتفاضل الناسُ عندهم بقدر تفاضلهم في هذه المنزلة، كما قيل: "خير هذا الحيوان الأناسيّ، وخير الأناسيّ الكراسيّ"، [أساس البلاغة؛ للزمخشري، مادة (كرس)].

وإذا كان كرسي الإفتاء بهذه المثابة من الفضل وسمو الرتبة، فإن له كذلك من الذِّمام والتبعات ما ينبغي للمتسنمين له أن يستحضروها عند كل جولة من جولات الإفتاء، وكل حلقةٍ تلفازية يعقدونها لأجل ذلك، بل عند كل سؤالٍ يتصدَّون للجواب عنه.

كيف وهؤلاء هم وُرَّاث النبوة، وفي صحيح مسلم [(2/597)]، من حديث أبي رفاعة أنه قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يخطب: يا رسول الله رجلٌ غريبٌ جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل علي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وترك خطبته، حتى انتهى إليَّ، فأتي بكرسي حسبتُ قوائمَه حديداً، قال: فقعد عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها.

إنَّه ليس المقصود بكرسي الإفتاء "هنا": ذلك المقعد الذي يمتطيه المفتي حين يمارس دوره في إفتاء الناس، وإنما المقصود هذه الوظيفة ذاتها، بكل ما تحمله من مسؤوليات تقتضي الالتزام بالأخلاق اللائقة بهذا المنصب السامق.
إذا تقرر ذلك فهذه إلماعةٌ إلى شيءٍ من أخلاقيات كرسي الفتيا وتبعاتِه:

أولاً: نشوة الكرسي:
إن لكرسي التصدُّر ـ أيّ كرسي كان، وبالأخص كرسي الإفتاء ـ نشوةً خاصة، يشعر بها صاحبها بمجرد استوائه عليه، أوَليس قد ظاهى الملوك باعتلاء الكراسي، وصار مملي الأسئلة عليه كالوزير بين يدي الملك!.

لا؛ بل ربما غبطه بعض الملوك على ما هو فيه، كما قال الخليفة المأمون للقاضي عمر بن حبيب العدوي:" إن نفسي ما طلبَت مني شيئاً إلا وقد نالته، ما خلا هذا الحديث، فاني كنت أحبُّ أن أقعد على كرسيٍّ، ويقال لي: من حدَّثَك؟، فأقول: حدثني فلانٌ، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين فَلِمَ لا تُحَدِّث؟، قال: لا يصلح الملكُ والخلافةُ مع الحديثِ للناس "اهـ [تاريخ بغداد (11/199)].

وما لنا نعجب من اهتزاز الكرسيِّ نشوةً وطرباً، والسؤالاتُ تنهال على هذا المفتي من كل حدب وصوب، تستفتيه في كل شيء، من الذرة إلى المجرة!.
ولربما قال في مسألةٍ بغير ثبت، جرَّاءَ هذه النشوة المطربة، ثم لما استفاقَ؛ راجعها في مظانها فتيقن صواب نفسه، ففرح بذلك فرحَ الطبيب ببرءِ مريضه، ويا ويحَه إن أدرك أنه قد اختبط!

قال الإمام الشافعي: "من تكلَّفَ ما جهل، وما لم تثبته معرفته: كانت موافقته للصواب، إن وافقَه من حيث لا يعرفه: غير محمودة، والله أعلم، وكان بخطئِهِ غير معذور، إذا ما نطق فيما لا يحيط علمُه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه "اهـ [الرسالة (53)].

إنه إنما تصلح الدنيا بصلاح كُرْسِيَّي العلم والولاية، "وإذا خانَ أهل الأمانات، وفسدَ أهل الولايات؛ كان الأمر كما قال الأول:


بالملح يُصلَح ما يُخشى تغيُّرُه فكيف بالملحِ إن حلَّت به الغِيَرُ"

[سراج الملوك؛ للطرطوشي (167)].

ثانياً: استقلال الكرسي:
ينبغي أن يكون معتلي كرسي الإفتاء منحازاً إلى الحق لا غير، منتصراً له على كل ما سواه، مستعملاً في فتاويه العدل والإنصاف والاستقامة، لا يجنح إلى باطل، ولا ينحاز إلى جهةٍ غير جهة الحق المحض، هذا مقتضى النزاهة التي هي عنوان الإمامة والجلالة في الدين، وهل ابتُلي الأئمة، وأُلهِبَت ظهورهم بالسياط إلا من أجل ذلك!

ومن لطيف ما لاحَ لي هنا مما هو من مُلَحِ العلم لا من صلبِه، أن النحاة يقررون أن لفظة " كرسي " غير منسوب، فالياء فيه ليست للنسب، قلت: فكذلك ينبغي للمفتي أن لا يكون منسوباً إلى غيرِ جهةِ الحقِّ، نزاهةً واستقلالاً، وأن يستحضر أنَّ لهذه السُّدَّة حرمةً وذِمَاماً، وأن يكون مقامه أشد امتناعاً من لِبْدَة الأسد.

إنه لا أضرَّ على الخلق من أن تُمنع كلمة الحق من أن تأخذ طريقها إلى الأسماع، وأن يُحجز أهلها عن النطق بها، لقد قال بعض الفقهاء: إنَّ تشديدَ الشرع على الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا يزكونها؛ ناشئٌ من أنَّ بهما قوامَ الدنيا، ونظامَ أحوالِ الخلق، فإنَّ حاجاتِ الناس كثيرةٌ ولا تنقضي إلا بهما، بخلاف غيرهما من الأموال، فمن كنَزَهما فقد أبطلَ الحكمةَ التي خلقهما اللهُ لها، قالوا: "كمن حبس قاضي البلد، ومنعه أن يقضي حوائج الناس " [مغني المحتاج (1/389)].

ثالثاً: فتون الكرسي:
وكما أن للكرسي نشوةً وفتنةً، فله أيضاً فتونٌ وابتلاء، ولكل صاحب سلطان ابتلاء، فأما فتنة العلماء في كل عصر فإنها بالمحل الذي لا يخفى.
ومعلومٌ ما حصل للأئمة: أبي حنيفة حين ضربه ابن هبيرة، وحين خالف أهل الأمصار في مسائل الفقه، ومالك بن أنس حين أفتى بعدم لزوم الطلاق للمكره، فجرَّدَه جعفر بن سليمان، ومدَّه، وضربه بالسياط، ومُدَّت يدُه حتى انخلعَ كتفاه، والشافعي حين كتب الرد على مالك في مصر، وأحمد حين خالف مذهب السلطان في القرآن، وغير ذلك من الابتلاءات بسبب قلم العلم، وكرسي الفتيا.

ولئن كان هذا السبيل محفوفاً بالفتون من قِبَلِ العامة والخاصة، فإن خير ما يستحقبه الفقيه الصبر واحتمال الأذى، لقد قال نافع بن الأزرق الخارجي لرفيقه يوماً: قم بنا إلى هذا الذي نصب نفسه لتفسير القرآن بغير علم حتى نسأله ـ يعني ابن عباس ـ، وردَّ ابنُ عباس عليه أبلغ ردٍّ في قصةٍ مشهورة، وروى الطبري أنه قال لابن عباس: "يا أعمى البصرِ، أعمى القلب، تزعم أن قوماً يخرجون من النار، وقد قال الله _جل وعز_: "وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا" [سورة المائدة (37)]، فقال ابن عباس: ويحك اقرأ ما فوقها، هذه للكفار "اهـ[تفسير الطبري (6/228)].
ولَكَم يحتاج الفقيه هذا الخلق عندما يلتقي بأصحاب الوجوه الثخينة.

ومن فتون الكرسي: الفتيا بغير علم ارتماءً واعتماءً، ولما كتبَ أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي ـ رضي الله عنهما ـ أنْ (هلمَّ إلى الأرض المقدسة)، فكتبَ إليه سلمانُ: (إنَّ الأرضَ لا تقدِّس أحداً، وإنما يقدِّس الإنسانَ عملُه، وقد بلغني أنك جُعلتَ طبيباً، فإن كنت تبرىءُ فَنِعِمَّا لك، وإن كنت متطبباً فاحذر أن تقتل إنساناً فتدخل النار)، فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما، وقال: (متطبِّبٌ والله، ارجعا إليَّ، أعيدا عليَّ قصتكما) [الموطأ (2/769)، تاريخ دمشق (21/441)].
قال الشربيني الشافعي: "فما بالك بمن ليس بطبيبٍ ولا متطبِّب "اهـ [مغني المحتاج (4/372)].

رابعاً: اعتدال الكرسي:
للكرسي أربع قوائم، وما من نقصٍ في قائمةٍ منها؛ إلا ويتبعه جورٌ في الجانب الذي يقابلها، ويكون ذلك الجور بمقدار نقصان تلك القائمة عن الاستواء.
وكذا يُتحرَّى في شأن الفتيا النمط الأوسط، فإن المفتي البالغ ذروة الدرجة هو " الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال "[الموافقات (4/258)].

إنَّ شأن الفتيا مختلف عن شأن الدرس الفقهي العام، فإن أهل العلم يقررون في كتب الفقه من متون وشروح أصول المسائل وفروعها على سبيل الابتداء، فأما في مجال الفتيا فإن الفقيه لا يُسأل عن أصل المسألة ـ غالباً ـ، وإنما يُسأل نازلة خاصة، هي من موارد الاشتباه، ولعل في تضاعيفها ـ عند التأمل ـ ما يستدعي الترخيص أحياناً، أو الحمل على العزيمة أحياناً أخرى، والأصل أن تُلزمه العزيمة إن كان يصلح لها، وتصلح له، وإلا فلا مناص من الترخيص، وقد قيل: العذر مع التعذر.

ولقد تطالعنا الكراسي الفضائية ببعض ما عناه القائل:



تطالعنا بتلفيق الكلامِ فتاوى البعض في حِلِّ الحرامِ
بأنقالٍ على وهنٍ بناها كبيت العنكبوتِ على الثمامِ
محاولةٌ لها أصلٌ قديمٌ وكان بها أبو بكرٍ حذامِ

إنَّ شأنَ العامة ـ وبالأخص النساء ـ أن يراجعوا المفتي المرةَ إثرَ المرة، كيما يظفروا منه برخصةٍ، والحازم هو الذي يرعى مراضي الحق، لا شهوات الخلق، وقمينٌ به أن يقول إذْ يراجعنه فيما لا يحلُّ: "إنَّكنَّ صواحبُ يوسف".

خامساً: تعاضد الكراسي:
ما من شك في أن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب، هذا هو الأصل، وبالأخص فيما يتعلق بالفتيا العامة، التي يصدر الناس جميعاً عنها، وقد قال الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ لابن مسعود وأبيٍّ ـ رضي الله عنهما ـ حين اختلفا في مسألة: (فعن أي فتياكما يصدر الناس) [ابن أبي شيبة (3188)].

وما أحسن ما نزع به الفقيه أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني صاحب الشافعي في كتابه: فساد التقليد، حين اقترح طريقةً لفض النزاع بين فقهاء العصر، بأن يجمعهم الإمام، فيناظرهم في أدلتهم، "ويأمرهم بالإنصاف والمناصحة، ويحضهم على القصد به إلى الله، فإن الله تعالى يقول: "إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا" [سورة النساء (35)]، فبذلك يتبين لهم النظر للكتاب والسنة "اهـ [نقله عنه: البحر المحيط؛ للزركشي (6/232)].

ومن لطيف ما يُستفاد من اللسان العربي أن لفظ " كرسي " غير مهموزٍ، بل يُنطق بالياء، كما قرره أبو محمد ابن قتيبة، خلافاً لمن زعم عكس ذلك [تأويل مختلف الحديث (80)]، قلتُ: فاللائق بأهل العلم أن يُصانوا عن " الهمز " واللمز، وأن يربؤوا هم بأنفسهم أيضاً عن كل ما يُعتذَرُ منه.

ألا ما أحسن التواضع وخفض الجناح بين أهل العلم، وما أقبح التعسف والتكلف والتمادح بينهم، بحيث يتشبع كل واحدٍ منهم بالقدح في أخيه، ولنعم ما قال التوحيدي في الهوامل: "أقبِحْ بالتكلّف، خاصةً بذي اللّسَن العالم "اهـ.

ولهذا كانوا يحذرون من القليل من الملاسنة الشخصية، مما نشهده في بعض وسائل إعلامنا، قال الإمام الشافعي: "المراء في العلم يقسي القلب، ويورث الضغائن" [تهذيب الأسماء واللغات؛ للنووي (1/54)].

إن من سعادة الأمة أن يسود بين علمائها الحب والتعاون على البر والتقوى، ولئن كان الأطباء قد تواطؤوا على أن يحترم كل واحدٍ منهم الآخر، واشترعوا لهم قسَماً يتعهد فيه الطبيب بأن يحترم زملاء المهنة، فإن أهل العلم والفتيا أولى وأولى.

سادساً: سماحة الكرسي:
ما أحسن العلم ينضاف إليه حلمٌ، وما أنفع الفقه الواسع ينضمُّ إليه الأفق الشاسع، وما أحسن ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ: "لا يجوز للإنسان أن ينكر الشيء لكونه مخالفاً لمذهبه، أو لعادة الناس، فكما لا يجوز للإنسان أن يأمر إلا بعلم، لا يجوز أن ينكر إلا بعلم "اهـ [رسالة في مبحث الاجتهاد؛ للشيخ محمد بن عبد الوهاب (14)].

لقد كان أهل العلم يختارون لطالب العلم أن يتسع في العلم، ويستبحر في فنونه، قبل أن يتصدر للإفتاء العامة، فيبيح حيث تصح الإباحة، ويمنع إذ يستقيم المنع.
ومع ذلك فمقتضى الرفق بالعامة وضعفاء الإيمان أخذهم بالمفضول دون الفاضل في كثير من الأحيان، وربما كان هذا هو الأصلح لهم كما قرره أبو العباس ابن تيمية، وقال الإمام البخاري: "كان صلى الله عليه وسلم يحب التخفيفَ واليسرَ على الناس "اهـ[صحيح البخاري (5/2269)].

سابعاً: تلون الكرسي:
الأصل في مقام العالم أن يكون مستقراً ثابتاً، بثبات ما يحمله من العلم، ولما كان المنتسبون إلى العلم متفاوتين في الرَّزانَة العلمية؛ فرَّق الله تعالى بين الراسخين في العلم وغيرهم، فلأولئك ما ليس لهؤلاء من الدرجة.
والراسخ في العلم هو المتصرف فيه باقتدار، الآخذ في فنونه بالتوثق، فأما المتنقل بغير توثق فهو: المتلون.

وفرقٌ بين المتصرِّف والمتلون، وفضل ما بينهما كما بين الفقيه والجاهل، وربما خلَطَ بينهما من لم يقم بهذا الشأن حقَّ القيام.
فالمتلون: لجوجٌ مسارِعٌ، ذو بَدَواتٍ وشطحات، مرتاب شكَّاك، متوثِّبٌ متنقل.
والراسخ: هو المكين فيه، القائل فيه بعد إجالة النظر، وامتحان الآراء والأقاويل، فهذا هو الذي لم تكُ تصلح إلا له، ولم يكُ يصلح إلا لها.

وليس الشأن في الراسخ أن لا يستشكل ولا يورد ولا يعترض، بل قد يكون الاستشكال والاعتراض محمودين، لكن لا يكون اللجاج إلا مذموماً.
والتلوُّن: أن تكون سرعة رجوعه عن الصواب، كسرعة رجوعه عن الخطأ واللجاج، وأن يكون ثبات عزمه على إمضاء الخطأ الضار، كثبوت عزمه على إمضاء الصواب النافع، كما يقول الجاحظ في [البرصان والعرجان].

بهذه الدعائم تبقى هيبة العلم، ومكانة كرسي الفتيا، ولو خلا من صاحبه حيناً من الدهر، فستبقى لهذا الغَيلِ ـ الكرسيِّ ـ هيبتُه ووقارُه، ولقد قال بعض الشعراء، وقد جاز على قصرٍ من قصور الخلافة:


قَصْرَ الخِلافَةِ لا أُخْلِيتَ مِنْ كَرَمٍ وَإِنْ خَلَوْتَ مِنَ الأَعْدَادِ وَالعُدَدِ
جُزْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ تَنْقُصْ مَهَابَتُهُ وَالغَيْلُ يَخْلُو وَتَبْقَى هَيْبَةُ الأَسَدِ

والله تعالى أعلم وأحكم.