أنت هنا

دعاة الانقلاب على مصدر الشرعية
4 شعبان 1427

إذا تذكرنا مبادرة باول – وزير الخارجية الأمريكي السابق - للشراكة الأمريكية الشرق أوسطية، نجد أنها تمحورت في بحثها عن أسباب الكراهية لأمريكا في المنطقة ، على " خطيئتها الوحيدة " …!! والمتمثلة في حصرها للتعامل والتعاون مع الحكومات وإقصاء وإبعاد الشعوب. ولذلك سيكون الحل – كما تطرح المبادرة – في إلزام الحكومات بإتاحة الفرص للإدارة الأمريكية وسفاراتها للتعامل مباشرة مع الأطراف والشخصيات الفاعلة في مجتمعاتها ومع المنظمات والهيئات غير الحكومية، ولكم أن تتخيلوا أي نوع من الشخصيات والهيئات سيتعامل معها الأمريكان.
تبعاً لذلك تزايد الحديث الإعلامي المكشوف عن لقاءات مع أعضاء السفارة الأمريكية في السعودية، بعد ان كان مجرد التفكير في ذلك سابقاً من المحرمات.
ومحصلة هذه المبادرة أن المطالب الأمريكية للتغيير في هذا البلد والتي تعاظمت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م ، لن يحتاج الأمريكيون لمتابعتها بأنفسهم، بل ستكون الأطراف المحلية "الوطنية" هي من سيقوم بهذا الدور، وستمارس الضغط المباشر وغير المباشر على صاحب القرار وعلى الأوضاع الاجتماعية لتمرير الأجندة الأمريكية التي تتبناها وتؤيدها هذه الأطراف. وذلك من خلال تملكها لزمام الإعلام في هذا البلد وتملكها للعديد من مفاصل القوة فيه.
ولقد تم تأجيل الخطوات التنفيذية لهذه المبادرة ومايتفرع عنها في الجوانب الدينية والاجتماعية والتعليمية والسياسية، إلى حين الانتهاء من حرب العراق حيث كانت المشاعر والعواطف ملتهبة والنتائج غير محسومة بعد. أما وقد انتهت الحرب بانتصار أمريكي ظاهري، تم الترويج له بآلة إعلامية ضخمة، فإذاً لابد أن يبدأ التنفيذ.
وبدأت خطواتها في السعودية من خلال حملة إعلامية متناغمة مترابطة على بعض الرموز الدينية في المملكة، ثم توسعت لتشمل التوجه الديني بعمومه ونظام التعليم في هذا البلد وليس الرموز فقط . وأصبح يكمل بعضها بعضاً فالذي لاتستطيع تناوله هذه الجريدة أو القناة أو الإذاعة لحساسيات معينة، تتناوله الأخرى وهكذا حتى شملوا بحملتهم أغلب الوسائل والأجهزة الدينية التي ميزت هذا البلد لسنوات طويلة، تهيئةً للنفوس ربما للتغيير القادم.



تلك الحملة الإعلامية غير المنصفة وغير الموضوعية، المتجنية على الدين وأهله، والتي بدأت قبل سنوات قليلة استفحلت وتوسعت وتجرأت بطريقة غير مسبوقة في هذا البلد. وأصبح المجال يفتح لأسماء غير معروفة إلا بعلاقاتها السابقة بالتيار الديني واختلافها معه. فأطلق لها العنان مع رموز التغريب في البلد وخارج البلد ممن يحتكرون وسائل الإعلام ويمثلون جزءاً من الأطراف" الوطنية" التي تستجيب وتتفاعل مع الأجندة الأمريكية لهذا البلد.
هذه الحملة – في تقديري- لاتقل خطورة في تطرفها عن خطورة التكفير والتفجير ، بل إنها تمثل إرهاباً حقيقياً يفجر نسيج هذا المجتمع وينقلب على مصدر شرعيته. وتفجير الأفكار والقناعات والأخلاق أشد وأنكى أثراً من تفجير الأجساد و المباني.
ولقد تركزت رسائل أرباب هذه الحملة الشعواء في النقاط التالية:
1. بذرة التكفير والتفجير محلية وليست خارجية ولا بتأثيرات خارجية. بل تجرأ بعضهم ونسب ذلك لعلماء الدعوة النجدية ولتراثهم العلمي، الذي لا تزال البلد تعتبره مرجعية لها.
2. الخطاب الديني في البلد بكافة أطيافه هو المسؤول عن هؤلاء وهو المحرض لهم.
3. التعليم الديني الرسمي، في التعليم العام وفي مدارس التحفيظ وحلقات التحفيظ في المساجد والذي لا تزال البلد ترعاه وتدعمه، هو المسؤول عن هذه النتائج.
4. "التيار الديني" انعزالي وغير متسامح وضيق الأفق ولايقبل بالآخر ولايتعاطى مع الأوضاع المحلية فضلاً عن العالمية.
هذه هي رسائلهم المهمة ولاتسأل عن المفردات والصياغات التي نترفع عن الحوار معها، أو الرد عليها. وليس من المبالغة في شيء لو قلنا أن ماسبق يمثل إنقلاباً حقيقياً على مصدر الشرعية والوجود والهوية لهذا البلد، فهل سيستمر البلد في السماح لهؤلاء بهذه الحملة!؟.
لكن المضحك أن بعض كتاب الصحف وبعض ضيوف القنوات خالفوا تقييد الحريات الاجتماعية والفكرية والإعلامية التي فرضتها أمريكا وعاش شعبها بسبب ذلك تغيراً ملفتاً ومعاناة، لكن إدارة الأمن الداخلي الجديدة أقنعت الجميع بأهمية ذلك خصوصاً إذا تبين أن المتضرر منه بالدرجة الأولى هم الأمريكيون المسلمون.!. الإعلاميون لدينا على غير العادة خالفوا هذا التحول الأمريكي الطبيعي في ظل الضغوط الأمنية، وطالبوا بإطلاق الحريات في السعودية ...!!! مما يدعو للسخرية والشفقة فهؤلاء القوم لا يتركون فرصة دون توظيفها لخدمة أهدافهم غير المعلنة، حتى لو أوقعهم ذلك في التناقض . وكأن الحرية قد منعت العمليات الإرهابية عن "بلد الحريات" ، إلا إن كانوا يقصدون إطلاق الحريات لهم وتضييقها على غيرهم كما حصل في أمريكا...!!.

تعرض رموز العلم والدعوة في هذا البلد لضغوطات متتالية من وسائل الإعلام المحلية والمهاجرة ليحددوا موقفهم ويعلنوا شجبهم وإدانتهم للحدث، في نفس الوقت الذي تمتليء فيه هذه الوسائل بحملات التشويه والتجني على هؤلاء الرموز.
وموقف العلماء والدعاة لايأتي ولاينبغي له أن يأتي انفعالياً ومتعجلاً، ولا أن تحركه وسائل الإعلام. وهذا الموقف معروف ومعلن منذ سنوات، فما الحاجة لتكراره الآن خصوصاً إذا تذكرنا أن العلماء ليسوا طرفاً سياسياً حتى يطلب منهم تحديد مواقفهم بأسرع وقت من وقوع الأحداث والتغيرات. بل هم هداة ومسددون لمسار المجتمع ويقدمون توجيهاتهم واجتهاداتهم قبل وبعد الأحداث للالتزام بها ولأخذ العبر والدروس منها. والحفاظ على دورهم ومكانتهم صمام أمان بإذن الله من هذه الشرور.
لكن الأزمة الحقيقية التي يعيشها أهل العلم والدعوة في هذا البلد أعمق بكثير من هذه الضغوطات أو الإساءات من هذه الجهة أو تلك، وفي تقديري أن هذه الأزمة هي أحد أهم الأسباب التي تزيد من تفاقم المشاكل في السعودية، ومنها مشكلة التطرف والغلو وتتركها دون حل حقيقي.
ويمكن تلخيص أبعادها في النقاط التالية :
1. الموقف الرسمي غير القابل لطروحات الشخصيات الدينية بدعوى رفضها لبرامج التحديث والتطوير للبلد وعدم فهمها للمتطلبات الدولية. تلك الدعوى التي يبدأ فيها ويعيد رموز التغريب المتنفذين.
2. التذمر الرسمي من اتساع طيف وتباين مواقف ومطالب ما يوصف "بالتيار الإسلامي" وهو في الحقيقة كيان واسع ممتد يشمل القطاع الأكبر من أهل البلد. في الوقت الذي يشتكي فيه هذا الكيان من دور التعامل الرسمي في خلق هذه الانقسامات وهذا التباين الذي يعقد المسألة.
3. عجز الكيان الإسلامي الواسع في هذا البلد أن يقدم قضيته بشكل واضح ومقنع لصاحب القرار، وأن يتمكن من طرح مطالبه بهدوء وأناة وثبات متصاعد. دون أن يضطر لتقديم التنازلات أو المراجعات إذا كانت تتعارض مع جوهر رسالته ودعوته، ولا أن يتردد في الاستجابة للمراجعات الضرورية والتي لاتؤثر في حقيقة دعوته.
4. الجماهيرية الواسعة التي يحظى بها أهل العلم والدعوة في هذا البلد المحافظ بطبعه، ويشهد بذلك بعض العقلاء في المجتمع الذين يرون على سبيل المثال أن أي انتخابات في هذا البلد ستأتي بهذا "التيار" دون سواه. وهذه الشعبية والجماهيرية هي مايخيف خصومه منه، لكنها في نفس الوقت تخلق أزمة لأهل العلم والدعوة بنوعية المطالب العاطفية الحماسية التي تنادي بها الجماهير دون أن يتاح لهم أي وسيلة جماهيرية واسعة لترشيد المسار وتعديل الاجتهادات.

5. الإقصاء المستمر للكيان الإسلامي وطاقاته وكفاءاته عن أي مشاركة حقيقية في أجهزة البلد القيادية المختلفة، وعن الأخذ برأيه في العديد من أوجه الحياة وسبل الإدارة والتوجيه للمجتمع. في نفس الوقت الذي يتزايد فيه منح الفرص والمراكز لطاقات وكفاءات ما يسمى بالتيار التغريبي الليبرالي.
6. التعامل الانتقائي مع أهل العلم والدعوة، بمعنى أنه حين تكون عجلة المجتمع ووتيرة استقراره تسير بانتظام كما رسم لها، يتم نسيان هؤلاء أو تناسيهم، كما يتم التغاضي عن التيار التغريبي وهو يشن حملات التشويه والاتهام والتجني بحقهم. ثم إذا حدثت الأزمات -كحادث التفجير في الرياض- يطالب أهل العلم والدعوة المستقلون وبإلحاح أن يكون لهم دور ومشاركة لكن بشرط أن يلتزموا بما يرسم لهم من دور وبالحدود المتاحة وفي التوقيت المتاح.
هذا التوظيف الانتقائي تحديداً يمثل أكبر العوائق في طريق أهل العلم والدعوة لو أردنا حقيقةً منهم أن يساهموا في العلاج والإصلاح.

7. هنالك عدد من الأخطاء السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والاقتصادية في إدارة الشأن العام للبلد، وأهل العلم والدعوة يحاولون أن يبينوا مواقفهم من هذه الأخطاء ويقدموا مطالب بتعديلها بالوسائل المتاحة لهم، لكن تأخر الاستجابة لها، والاستمرار في التجاوب مع الطروحات والمطالب التغريبية في الشأن العام، هو أيضاً من معالم الأزمة ومما يزيد من الحرج الذي يواجهه أهل العلم والدعوة أمام الناس المنتظرين لدورهم وأثرهم وكلمتهم. كما أنه في نفس الوقت يضاعف من "المبررات" التي ترددها الأطراف التفجيرية وتدعي أنها مبررات.

وبناءاً على هذه الخلفيات، فلن يكون من المبالغة في شيء الإشارة إلى أنه مالم تتغير هذه الأبعاد ويتغير أسلوب التعامل مع الكيان الإسلامي الضخم، ومالم يتمكن هذا الكيان من تغيير وتطوير واقعه ومعالجة ثغراته فلن تهدأ الأمور ولن تستقر الأوضاع.
فكيان بهذا الامتداد التاريخي وبهذه القوة العلمية والحضور الميداني ويعيش في أرض تمثل عرينه الأول ويتحرك في منطقة نفوذه الأساسية لن يكون من السهولة تجاوزه أو تهميشه وأي محاولة في هذا الإطار ستنتهي بالصدامات والأزمات.

وفي نفس السياق لابد من احترام وتفهم إصرار هذا الكيان على العرض الشامل ، بما يتضمن الخلفيات كلها. فالقضية ليست مجرد الإدانة والرفض والتجريم فحسب. بل المنطق يقضي بالبحث في الأسباب والدوافع حتى لاتتكرر الأحداث.
وسيكون من الخطأ الفادح في هذه المرحلة من تاريخ البلد أن يتم الاستجابة لدعاة الحل من خلال الانقلاب على مصدر الشرعية والهوية والوجود لهذا البلد، فليسوا والله بناصحين للبلد ولامريدين لنجاته.
والمنتظر لحل الأزمة - بعد لطف الله وعنايته- سيكون من أصحاب الشأن في البلد إذا أيقنوا أن مواجهة ضغوط الخارج لاتكون فقط بالاستجابة لها ولا بالتعامل فقط مع أنصار هذه الضغوط في الداخل، ومن الكيان الإسلامي نفسه إذا أيقن أن دوره وحجمه ومشاركته تقاس بما يستطيع هو أن يقنع الآخرين به وبما يثبته هو من صواب وخيرية رسالته وبما يقدمه هو من خطوات وبرامج ومشاريع محلية واسعة الانتشار والقبول يعالج بها أخطاء الماضي ويبشر فيها بمستقبل أفضل بإذن الله