أنت هنا

وقفات مع المقاطعة
7 محرم 1427

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد:
فهذه وقفات مع هذا الحدث قصدت بها المذاكرة معكم معاشر الغُيُر على عِرْض رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، فأسأل الله أن ينفع بها.
الوقفة الأولى: إن ما رأيناه أو طرق أسماعنا من تحرك واسع تداعى الناس فيه إلى الذب عن نبينا الكريم _عليه الصلاة والسلام_ سواء كان ذلك بإلقاء الخطب أو المحاضرات، أو عقد الندوات، أو الدعوة إلى مقاطعة الدنمارك والنرويج تجارياً حتى ضحّى كثير من خيار التجار المسلمين ببعض ما بأيديهم نصرة لدينهم فنسأل الله أن يعوضهم خيراً، إلى غير ذلك من الجهود الطيبة يُعد من العمل الصالح الذي يدل على إيمان نابض، وغيرة شرعية على عرض صاحب الرسالة _عليه الصلاة والسلام_ يُحمدون عليها ويُثابون.

الوقفة الثانية: في مثل هذه الأحداث والتداعيات يحتاج الناس إلى مرجعية موثوقة يتلقون منها التوجيه لتحقق الأهداف وتنتفي المفاسد والمحاذير، ولا يصح بحال من الأحوال أن يكون كل أحد في مقام الموجه عبر رسائل ينشئها عبر الجوال أو غير ذلك من الوسائل فتحملهم الغيرة على ارتكاب بعض المحاذير والمخالفات الشرعية كما سنبين.

الوقفة الثالثة: يجب على المسلم التثبت والتريث فلا يُقدم على أمر حتى يتبينه، ويتوثق منه، وذلك أننا بحاجة إلى تمييز كثير مما يرد إلينا من رسائل أو ما يُنشر في الشبكة العنكبوتية أو ما نسمعه في المجالس، أو غير ذلك مما يتعلق بجوانب متعددة، فمن ذلك:
1 – التحقق من نسبة المنتَج إلى أولئك كي لا نقع في شيء من الظلم لأحد من المسلمين أو غيرهم، وهنا قد تدخل المنافسات بين الشركات ويبدأ تصفية الحسابات فنصيب قوماً بجهالة.

2 – قد يكون لهم شراكة في بعض المنتجات ثم زالت وتحول الأمر إلى غيرهم وهو أمر لا بد من معرفته لئلا نُلحق بأحد ضرراً من هذه الجهة.

3 – ربما كان التصنيع برمته في بلاد المسلمين إلا أن المصنع حصل على ترخيص من شركة هناك فمثل هذا تكون المقاطعة فيه عقاباً لصاحب المصنع وهذا غير مراد.

4 – الاندفاع غير المنضبط قد يحمل صاحبه على دعوة الناس إلى أمور لا يُقرون عليها كمن يدعو إلى توحيد الصيام والدعاء في يوم بعينه، أو يدعو إلى نشر رسالة مكذوبة يزعم مختلقها أنه رأى الرسول _صلى الله عليه وسلم_ ويذكر أموراً ويطالب بنشرها إلى عشرة أشخاص وأنه سيرى بعد أربعة أيام – إن فعل – أمراً يسره، وإن لم يفعل رأى أموراً تسوؤه.
وقد يدعو بعضهم إلى مظاهرة في البلاد التي لا تسمح بذلك، أو أذية للأشخاص الذين ينتسبون إلى ذلك البلد لمجرد انتسابهم إليها دون أن يكون لهم جرم، وهذا كله لا يسوغ، بل يؤدي إلى مفاسد أعظم كما لا يخفى.

5 – التحقق من صحة الأخبار التي تصل إلينا، ولا يسوغ أن ننشر شيئاً من ذلك إلا بعد التأكد من صحته.

6 – التوثق والتحري فيما قد يُنشر في بلاد أخرى من هذه الرسومات أو غيرها فنفرق بين من فعل ذلك على وجه الاستهزاء والمكابرة، وبين من فعله قاصداً بذلك نقل الخبر (مع عدم إقرار هذا الصنيع).

الوقفة الرابعة: ينبغي أن يكون لدينا أهداف واضحة ومطالبات محددة، فهذه المقاطعة إلى أي مدى ستنتهي؟ هل نكتفي باعتذار الرسام، أو الصحيفة، أو لا بد من اعتذار الحكومة، أو نطالب مع ذلك كله بمحاكمة الرسامين ورئيس التحرير، أو نطالب بتسليمهم لمحاكمتهم شرعاً وإقامة حكم الله فيهم؟

الوقفة الخامسة: لا ينبغي تخذيل الناس وتوهين عزائمهم تارة بدعوى عدم جدوى المقاطعة، وتارة بأن ذلك لم يقع حينما أهينت أوراق المصحف، إلى غير ذلك مما قد يُقال، لكن ينبغي أن يُعلم أن آثار المقاطعة ظهرت جلية على ألسنة القوم وفي اقتصادهم، وأما القول بأن هذا التحرك لم يقع عندما اعتُدي على القرآن الكريم فنقول: إن الضعف والتفريط في جانب لا يعني أن نفرط في الجوانب الأخرى، فإذا حصل تقصير في الانتصار للقرآن فليس معنى ذلك أن نخذل الناس عن الانتصار لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_.

الوقفة السادسة: التحليل والتحريم إنما يكون من قِبَل الشارع، ولا يجوز أن نُلزم الناس بأمر لم يُلزمهم الله به، فلا يسوغ إطلاق عبارات نُحرم فيها بيع بضائع هؤلاء أو نوجب شرعاً مقاطعة منتجاتهم، ومعلوم أن البيع والشراء مع الكفار جائز شرعاً حتى الحربي منهم، لكن نقول: المقاطعة الاقتصادية في هذا العصر سلاح مؤثر ومن هنا نحث الناس على ذلك لكن لا نقول بوجوبه أو نؤثم من عاملهم.

الوقفة السابعة: الحذر الحذر من رد باطلهم بباطل مثله، وإنما ذكرت ذلك لما رأيت إحالة في أحد المنتديات على رابط يتضمن إساءة لعيسى _عليه السلام_، وهذا جُرم عظيم قد يفعله بعض من لا خلاق له من اليهود ونحوهم، وقد تصدر بعض هذه الحماقات من جهلة لا يراقبون الله في أقوالهم وأفعالهم كما ذكر شيخ الإسلام(1) عن بعضهم أنه ربما أعرض عن فضائل علي _رضي الله عنه_ وأهل البيت لما رأى غلو الرافضة فيهم وتنقصهم للشيخين _رضي الله عن الجميع_، ونقل عن بعض الجهلة أنه قال:


سُبُّوا علياً كما سبُّوا عتيقكم كفرٌ بكفر، وإيمان بإيمان

كما ذكر أن بعض المسلمين يُعرض عن فضائل موسى وعيسى _عليهما السلام_ بسبب اليهود والنصارى حتى حُكي عن بعض الجهال أنهم ربما شتموا المسيح عليه السلام حين سمعوا النصارى يشتمون نبينا محمداً _صلى الله عليه وسلم_ في الحرب.

الوقفة الثامنة: إذا كان المطلوب هو مقاطعتهم لما يحصل من جراء ذلك من تأثير اقتصادي عليهم فإن هذا يتوجه إلى من يستورد منهم البضائع وقد لا يرتدع بعض هؤلاء إلا إذا رأى بضاعته التي استوردها كاسدة في الأسواق، لكن من عُلم منه الصدق بأنه عزم على عدم الاستيراد منهم مستقبلاً، أو أنه لا يشتري هذه البضائع من مستورديها في المستقبل، فهل نطالب مثل هؤلاء بإتلاف ما بحوزتهم من بضائع قد صُنعت في تلك البلاد؟ فهذا موضع ينبغي التفريق فيه بين هذه الأحوال، والله أعلم.

الوقفة التاسعة: علينا أن نوحد الجهد لتكون المقاطعة حالياً للدنمارك والنرويج، دون أن نشتت ذلك بالمطالبة بتوسيع نطاقها وإلا فإن ذلك سيؤدي إلى تلاشيها، ولكن يمكن بعد أن تتحقق أهدفا المقاطعة أن يُنظر في توجيهها لغيرهم.

الوقفة العاشرة: لا يجوز للمسلم في مثل هذه الأمور أن يكون جسراً ومعبراً لتلك الرسومات فيساعد على نشرها حينما يتحدث عن هذا الموضوع بعرضها على الناس فيسيء وهو لا يشعر.

الوقفة الحادية عشرة: ينبغي استغلال هذا الحدث في داخل المجتمعات الإسلامية، وخارجها، أما الداخل فبمطالبة الناس بالتمسك بسنة النبي _صلى الله عليه وسلم_ واتباعها، وبإحياء سيرته بينهم، وبيان حقوقه وما إلى ذلك، عبر دروس ومحاضرات وخطب وبرامج ومسابقات، إضافة إلى إحياء عقيدة الولاء والبراء، وبيان عداوة الكفار وبطلان ما يتشدقون به من التسامح واحترام الأديان... إلخ، وأما في المجتمعات الكافرة فبتعريفهم بمحاسن دين الإسلام، وشمائل نبي الهدى _صلى الله عليه وسلم_ وسيرته العطرة.

الوقفة الثانية عشرة: وافق وقوع هذه المقاطعة لدولة ليست قوية، كما أنها قليلة السكان، وما يستورد منها قليل أيضاً مقارنة ببعض الدول الشرقية أو الغربية، وهي فرصة مناسبة للجميع بأن يُظهروا تضامنهم ويُوحِّدوا وجهتهم، وبهذا يمكنهم أن يبعثوا رسالة واضحة للعالم أجمع أنهم لا يقبلون المساس بدينهم ومعتقداتهم ومقدساتهم، وأنهم أمة حية صاحبة رسالة تعيش وتموت من أجلها، وبهذا أيضاً يمكن أن نستعيد قدراً من الثقة لدى المسلمين بعد أن توالت عليهم الهزائم في مختلف الميادين فيحصل شيء من الشعور بالعزة الإيمانية، ومن هنا يمكن أن نشتت بعض الجهود الرامية إلى إغراق الأمة بالمشكلات، والشبهات والشهوات، لتكون أمة لاهية عابثة لا هدف لها في هذه الحياة.

______________
(1) الفتاوى 6/25 – 26.