أنت هنا

الإساءة للرسول الأعظم.. ردود شعبية عارمة وتحركات رسمية خجولة
24 ذو الحجه 1426


اقتصرت ردود الأفعال الإسلامية والعربية على الإساءة التي قامت بها إحدى الصحف الدنمركية مؤخراً، بنشر رسوم كاريكاتورية للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، على جملة من التنديدات والبيانات الرسمية، التي لم ترق إلى مستوى الحدث، وما أحدثه في نفوس المسلمين في كل مكان.

وربما بسبب تقاعس الكثيرين من الجهات الرسمية والأهلية، عن اتخاذ موقف صارم، أو اللجوء إلى طرق مثلى للرد على الإهانة الواضحة للإسلام والمسلمين؛ تمادت الحكومة الدنمركية وبعض وسائل الإعلام الأخرى المتطرفة، في الإساءة، عن طريق إعادة نشر الرسوم مرة أخرى في مجلة، خلال شهر يناير الحالي، ورفض رئيس الحكومة الدنمركية لقاء شخصيات عربية وإسلامية للحديث حول موقف الدول الإسلامية من هذا الحدث، فضلاً عن رفض دعوى قضائية في محكمة محلية بالدنمرك؛ النظر في القضية من الأساس. مدعية أن لا وجود لقانون يجرّم ما قامت به الصحيفة المحلية.

فتيل الأزمة:
صحيفة (يولاندز بوسطن) الدنمركية، التي تتبع للحزب الحاكم في الدنمرك، نشرت في الثلاثين من شهر سبتمبر 2006، مسابقة لاخيتار أفضل رسم كاريكاتوري، يمثّل النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).
وحسب الصحيفة التي دافعت عن الفكرة بأنها (حرية فكرية)، فأنها تسلّمت أكثر من 30 رسماً، مدعية فوز 12 رسماً منها (!!)، قبل أن تقوم بنشر هذه الرسومات على صفحات جرائدها.

الإساءة لم تكن الأولى في تاريخ التعرّض للإسلام والمسلمين في الدول الغربية، إلا أن التمادي إلى شحصية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، الذي يحبه المسلمون أكثر من أنفسهم، ويدافعون عنه بأرواحهم، أحدثت ردّة فعل واسعة أمام المسلمين في كل مكان، بدأت في الدنمرك، التي لم يجد المسلمون فيها وسيلة غير الخروج في مظاهرات حاشدة، تجمّع لها نحو 10 آلاف مسلم.

ورغم أن نشر فيلم يسيء للإسلام بشكل بذيء في هولندا (المجاورة للدنمرك) أدى إلى مقتل مخرج الفيلم (فان كوخ) على يد أحد المسلمين من ذوي الأصول المغربية؛ إلا أن الأزمة الأخيرة لم تشهد أية أعمال عنف، حيث اكتفى المسلمون هناك بالخروج في مظاهرات، منددين بالصحيفة المتطرفة، ومطالبين بتقديم اعتذار كبير

تحركات رسمية خجولة:
لم يكتب لكثير من ردود الأفعال الرسمية التي قامت بها الدول العربية الإسلامية؛ النجاح، ذلك أنها اقتصرت على تحركات خجولة غير فاعلة، كشفت عدم وجود جهة إسلامية تستطيع تنسيق العمل المشترك بين الدول الإسلامية فيما يتعلق بالقضايا الحقوقية الدولية، وعدم دراية الجهات الرسمية بكيفية الطريقة المثلى للتعامل مع هذه القضايا، وتفعيلها قضائياً ودبلوماسياً.
كما اقتصرت معظم التحركات الرسمية الإسلامية والعربية، على بيانات شجب واستنكار وادانة، لم تقدم أي شيء، ولا يأمل منها المسلمون أي نتائج ولا يعلقون عليها أية آمال. فهي لن تزيد إلا "حبراً على الورق".

وتمثّلت بدايات ردود الأفعال، بالتئام 11 بعثة لدول عربية وإسلامية في العاصمة الدنمركية (كوبنهاغن) سعت إلى لقاء رئيس الحكومة الدنمركي، بعد أن نظّمت لقاءاً داخلياً تدارسوا فيها ما قامت به الصحيفة الدنمركية، طريقة الرد التي يجب أن تتبناها الدول الإسلامية لمواجهة ذلك.
إلا أن طلب البعثة الدبلوماسية ووجه بالرفض من قبل رئيس الوزراء الدنمركي آنس فور راسمسون.
وجاء رده ليزيد من الاحتقان لدى المسلمين، حيث وصف ما فعلته الصحيفة المحلية بأنه "حرية رأي"، قائلاً في رده على طلب الدول العربية والإسلامية لقاءه: " إن الدانمارك دولة ديمقراطية وتحترم مبدأ حرية الرأي، وأن الرسومات تدخل في نطاق حرية الرأي"!!
وجاء في رسالته التي نشرتها الصحف "إن للصحافة مطلق الحرية في إبداء رأيها إزاء مختلف القضايا وأن ما حدث لا يخرج عن نطاق حرية الرأي"، ومضى يقول "على المتضرر أن يلجأ للقضاء".

ولعل رئيس الوزراء الدنمركي قد فوّت على نفسه وعلى بلده فرصة تقليص المشكلة، التي أشعلتها صحيفة (يولاندز بوسطن)، وزاد هو من تأجيجها برفضه لقاء القيادات الدبلوماسية الإسلامية، ما أدى إلى ازدياد نقمة المسلمين على رد الفعل الرسمي.

وخلال الأيام التالية، عقدت منظمة المؤتمر الإسلامي قمة لها في السابع والثامن من شهر ديسمبر الماضي، في مكة المكرمة، تناولت قضية الرسوم الكاريكاتورية.
وقال القائم بالأعمال المصري في كوبنهاغن مهاب نصر مصطفى مهدي، نيابة عن السفير المصري: "أبلغتنا وزارة خارجيتنا أن قضية الرسوم الكاريكاتورية أدرجت على جدول أعمال قمة منظمة المؤتمر الإسلامي الاستثنائية".

واستنكرت المنظمة ما ذهبت إليه الصحيفة الدنمركية من رسومات مسيئة لشخص الرسول الكريم، مقررة اتخاذ إجراءات عملية ضد هذه الإساءة المقصودة.
حيث قالت الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في بيان صحافي عقب اجتماعاتها: "إنها قررت مقاطعة تظاهرة ثقافية دنماركية حول الشرق الأوسط" وطلبت من أعضاء المنظمة مقاطعتها.
وأضاف البيان أن الأمانة العامة للمنظمة بعثت مذكرة إلى المركز الدنمركي تشير فيها إلى أن "نشر تلك الصور أساء إلى مئات الملايين من المسلمين عبر العالم كما أن تعامل السلطات الدنمركية مع هذا الحدث زاد في مشاعر السخط والغضب في العالم الإسلامي".
وتابع إن "تعمد نشر تلك الصور عمل قصد به المس بمشاعر المسلمين واستثارتها ولا يمكن اعتباره عملا بريئا يدخل في نطاق حرية التعبير التي يؤمن بها الجميع".

وأكد البيان أن المنظمة "طلبت من جميع دولها الأعضاء ومؤسساتها الثقافية مقاطعة أنشطة المشروع الثقافي الدنمركي المذكور تعبيرا عن احتجاجها على هذا التصرف غير اللائق".

كما عبّر وزراء الخارجية العرب خلال اجتماعهم الذي أعقب تأجيج الأزمة بين المسلمين والدنمرك، عن "دهشتهم واستنكارهم لرد فعل الحكومة الدنمركية الذي لم يكن على المستوى المطلوب رغم ما يربطها من علاقات اقتصادية وسياسية وثقافية مع العالم الإسلامي".
وشدد الوزراء على أن الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها صحيفة "جيلاندز بوستن" اليومية مسيئة للدين الإسلامي. وفق ما جاء في تصريح لوزراء الخارجية.
وانتقد الوزراء أيضا موقف المنظمات الأوروبية المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان، مشيرين إلى أنها لم تتخذ موقفا واضحا في هذه القضية التي أثارت غضب ملايين المسلمين.
وأدان بيان منفصل آخر، صدر عقب الاجتماع بشدة هذه الإساءة، مؤكداً أنها " تتنافى مع احترام وقدسية الأديان والرسل ومع قيم الإسلام السامية".
كما قرر الوزراء تكليف الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى والأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أكمل الدين إحسان أوغلو بمتابعة القضية.

تحركات شعبية وقضائية:
أمام جمود الموقف الرسمي الدنمركي، وتجاهل الصحيفة الدنمركية الأزمة التي أشعلتها بين بلدها والمسلمين في كل مكان، وضعف التحرك الرسمي، واقتصاره على نشر بيانات استنكار؛ قررت العديد من الفعاليات الأهلية والرسمية الإسلامية، اتخاذ مواقف أكثر صرامة من التنديد والتهديد، وذلك برفع شكاوى قضائية ضد الصحيفة المتطرفة.

وقد بدأت أولى التحركات القضائية، بدعوة قدمتها 11 مؤسسة إسلامية في أكتوبر 2005، إلى محكمة محلية بمدينة (فيبورج)، كونها الأقرب لمكان المنظمات الإسلامية. إلا أن هذه الخطوة لم تلق قبولاً من قبل المدعي العام المحلي. الذي اعتبر أن هذه الإساءة ليست من اختصاص المحكمة، وأن الدستور لا يجرّم مثل هذه التصرفات!!
وقال بيتير يورنسون (المدعي العام بفيبورج): "إن كلا من نص وروح المادة التي تجرم عدم احترام المقدسات بالقانون الدانمركي لا يصلحان للاستخدام ضد الصحيفة".

ورغم أن هذه القضية كانت ستكون حديث الحكومة والمحاكم لو أنها وجّهت إلى اليهود, إلا أن الأقلية المسلمة في الدنمرك قررت مواصلة تحركها، حيث قرر ممثلو الأقلية هناك؛ رفع دعوى قضائية أمام أعلى جهات الادعاء بالبلاد ضد صحيفة "ييلاندز بوستن" لنشرها الرسوم الكاريكاتورية.
وكشف قادة الأقلية المسلمة عن اعتزامهم تصعيد القضية على المستوى القاري أمام لجنة حقوق الإنسان بالاتحاد الأوروبي، إذا لم تؤت دعاواهم داخل الدانمرك ثمارها.

ولم تقف التحركات القضائية عند هذا الحد، حيث أعلنت جهات دينية واقتصادية في المملكة العربية السعودية، بتاريخ 21 يناير 2006، عزمها مقاضاة الصحيفة الدنمركية في المحاكم الدولية.
حيث أعلن رجل الأعمال حسن آل مهدي (المالك والرئيس التنفيذي لمجموعة آل مهدي القابضة)، والمهندس سليمان البطحي (المتحدث الرسمي باسم اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء) عن تشكيل لجنة مشتركة باسم (اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء) تشمل كافة الدول الأوروبية، لتنسيق الجهود المشتركة، بهدف البدء باتخاذ إجراءات تنفيذية لمقاضاة الصحيفة الدنمركية التي نشرت رسوماً كاريكاتورية للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم).
ومن المقرر أن يعقد الجانبان لقاءات قادمة، للبدء بالخطوات التنفيذية لمقاضاة الصحيفة الدنماركية.

وقال رجل الأعمال السعودي حسن آل مهدي: "إنه سيقدم دعمه المادي غير المحدود، مساندة للقضية التي باشر برفعها المهندس سليمان البطحي ضد الصحيفة الدنماركية التي أساءت للنبي".
وأضاف " سيتم التنسيق بينه وبين البطحي لمتابعة الإجراءات والاستمرار في الدعوى القضائية".

كما أعلن الأزهر الشريف يوم السبت 10 ديسمبر الماضي، أنه سيتوجه إلى الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان لتصعيد قضية نشر صحيفة دانمركية رسوماً كاريكاتيرية تسيء للرسول صلى الله عليه وسلم، معتبراً ذلك "ازدراء واضحاً للمسلمين".
وقال مجمع البحوث الإسلامية في بيان له: "إن الأزهر يعتزم التوجه برفضه لما حدث من إساءة للرسول إلى اللجان المختصة بالأمم المتحدة وإلى منظمات حقوق الإنسان في كل مكان؛ دفاعاً عن حقوق الأفراد والشعوب، وحماية للتعددية الثقافية وما تتطلبه من احترام ثقافة الآخرين، والامتناع عن الترويج لثقافة الكراهية والازدراء بأولئك الآخرين".

تعاقب ردود الأفعال:
رغم التحركات الأخيرة التي قد تؤدي إلى إدانة وتجريم الصحيفة الدنمركية، إلا أن العديد من الفعاليات الدينية في العالم الإسلامي والعربي، حملت على عاتقها لواء الدفاع عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم).
حيث أوضح الشيخ رائد خليل "رئيس لجنة الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم في الدنمارك" أنه تم تنظيم تجمع يضم 40 مؤسسة ومسجدا لصد الحملات المستمرة ضد الإسلام والمسلمين، وخاصة ما نشرته الصحيفة الدنمركية المتطرفة.
كما كشف الدكتور محمد بشاري "رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا " عن توجه الاتحاد لطلب "فرض مقاطعة اقتصادية بل وجوية على الدول التي تصدر عنها تطاولات بحجم التهجم على سيد البشر".
وطالب بشاري بتحري النهج الأوروبي والأمريكي في التعامل مع القضايا الكبرى وفق إستراتيجية أساسية تصل إلى حد حظر دخول المنتجات.
وبيّن بشاري أنه في ضوء الفراغ القضائي الدنماركي وفي ظل "مزاعم حرية الفكر والصحافة" انتشرت حملات التطاول على المسلمين حتى وصلت إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) و"إزكاء الفتن بين الجاليات المسلمة والدول الأوروبية"، الأمر الذي يستلزم، بحسب بشاري، "تحركاً فاعلاً يتجاوز أشكال المناشدة والمطالبة، بل والإدانة".

ومن جهتها، أصدرت الجمعية العلمية السعودية للسنة وعلومها بتاريخ 21 ذو القعدة 1426هـ، بياناً قالت فيه: "إن الجمعية العلمية السعودية تستنكر غاية الاستنكار وتأسف أشد الأسف لما صدر في بعض الصحف الدنماركية والنرويجية من الاستخفاف بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ووضعه موضع السخرية والاستهزاء."
ودعت الجمعية العقلاء والمنصفين في أقطار العالم إلى وقف هذه الممارسات الخطيرة، واتخاذ التدابير الواقية حتى لا يكون أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام محلاً لمثل هذه التجاوزات الخطيرة.
وأضاف البيان: "نذكر العالم أجمع بأن هذا النبي بعثه ربه سبحانه وتعالى رحمة للعالمين أجمعين وشاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ ونصح وأدى، فبسط الله به العدل والأمن والإحسان، وأقام به الحق وأخرج به العباد من الظلمات إلى النور، وختم برسالته رسالات إخوانه الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ومنهم أولو العزم من الرسل/ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى/.

ومضى البيان إلى القول: " إن الجمعية لتستنكر ذلك، أداء لواجب النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، وقياما ببعض حقه صلى الله عليه وسلم على أمته وتعبيراً عن مشاعر الإساءة لدى كل مؤمن ومؤمنة تجاه هذه الجريمة المنكرة في حق نبيهم صلى الله عليه وسلم، الذي يحبونه أشد من محبتهم لأولادهم ووالديهم والناس أجمعين، بل أشد من محبتهم لأنفسهم.. إذ إن المسلمين في أقطار الأرض آذتهم هذه التصرفات والرسومات البشعة التي خالفت بها هذه الصحف المواثيق والعهود الدولية التي ضمنت احترام دين الإسلام وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم.
كما دعت الجمعية المسلمين، وفي مقدمتهم ولاة الأمر والعلماء والمثقفون والإعلاميون والساسة، إلى الوقوف ضد هذه الإهانة لنبي الأمة صلى الله عليه وسلم بما تبرأ به الذمة أمام الله تعالى، كل بحسب استطاعته وفق الأصول الشرعية مع التزام العدل والحكمة.
ودعت الجمعية كذلك الحكومتين الدانمركية والنرويجية إلى اتخاذ الإجراءات التي تكفل المحافظة على ما تضمنته العهود والمواثيق الدولية من احترام دين الإسلام، وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم، وإلى معاقبة من تسبب في هذه الإساءة لشناعتها، وخطورة تداعياتها والاعتذار الصريح في وسائل الإعلام عما صدر في حق النبي صلى الله عليه وسلم.
وسألت الجمعية الله عز وجل أن يعلي كلمته، وينصر دينه، ويجزي نبيه صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، وأن يوفق المسلمين للسير على نهجه واقتفاء أثره واتباع سنته باطنا وظاهرا.