أنت هنا

الإفتاء عبر الإنترنت.. مداخلة ومقاربة
17 رجب 1425

لا شك أن الإنترنت وسيلة من وسائل التواصل السريع والفعال بين البشر، وقد شهد -ولا يزال- قفزات هائلة أحالت العالم إلى غرفة واحدة صغيرة كما يقولون، وهذه الوسيلة كغيرها من الوسائل تحتوي على جملة من السلبيات والإيجابيات، ولعل هذه الورقة المقدمة من الشبكة قد لخصت كلا الجانبين بتوفيق وإحكام.

الذي يظهر لي -والله تعالى أعلى وأعلم- أن قضايا المنازعات والخصومات لا يصلح فيها الاستفتاء عبر الإنترنت لما تحتاجه من تحرير دقيق لمواضع النزاع، واستماع دقيق لأطراف الخصومة، واستيعاب لما احتف بها من الملابسات والقرائن، وهو ما يعسر تحقيقه على الإنترنت؛ الأمر الذي يجعل التعامل مع هذه القضايا عبر الإنترنت يفتقد إلى كثير من الدقة، فينبغي ألا يسترسل فيه السائلون أو المفتون.

ومن ناحية أخرى فإن البحث في بنوك الفتاوى قد يفيد طلبة العلم الذين لهم قدرة نسبية على النظر في مقالات أهل العلم والمقابلة بينها وإدراك الفروق الفردية بين النوازل المختلفة محل الاستفتاء، أما العامة وأشباه العامة فلا ينصحون بالرجوع لهذه البنوك، وإنما عليهم أن يلجؤوا إلى الاستفتاء المباشر عندما تتيسر أسبابه، فإن الفروق بين المسائل قد تكون من الدقة واللطف بحيث تخفى على كثير من المستفتين.

ويبقى في نهاية المطاف أن المرء أمين على دينه، فإذا استشعر في قضية من القضايا أن الأمر لم يأخذ حقه من البحث والتأمل، وأن الوقائع لم تنقل إلى المفتي بصورة دقيقة ومنضبطة، فإنه لا تبرأ ذمته بتقليد المفتي فيما يسوقه له؛ لأن اتباع أهل العلم إنما يجب من حيث كونهم وسائل نتعرف من خلالهم على حكم الله _عز وجل_، فإذا غلب على الظن أن ما صدر عنهم لا يمثل الحكم الشرعي الواجب التطبيق في موضوع النزاع لغياب بعض الوقائع أو عدم تحقيق بعض الجوانب -والمفتي أسير المستفتي كما يقولون- فإن تقليدهم في هذه الحالة لا تبرأ به الذمة؛ لأن المفتى والمحكم والقاضي لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً؛ فالحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله.

وبقيت مسألة ماذا يفعل المستفتي عندما تختلف عليه فتاوى المفتين أو المجتهدين؟
ونقول ابتداء: لا ينبغي للمستفتي أن يكثر التنقل بين المفتين فإن هذا يشوش عليه أمره ويوقعه في كثير من الحيرة والتردد، وإنما ينبغي عليه إذا نزلت به نازلة أن يرفعها إلى من يثق في دينه وعلمه من أهل الفتوى، ثم يتدين بما يفتيه به فيها ولا يكثر التنقل والقفز من مفتٍ إلى آخر.
ولكن إذا وقع هذا لأي سبب كان، وأصبح لدى المستفتي جملة من الفتاوى المتعارضة فإن الترجيح بينها إنما يكون بالأغلبية والأفضلية كما ذكر ذلك الشاطبي _رحمه الله_ فيأخذ بفتوى الأعلم والأورع احتياطاً لدينه واستيثاقا لآخرته، ويعرف هذا بالشيوع والاستفاضة بين الناس.
أو يأخذ بفتوى الأحوط حتى يأتي بعبادته على نحو يكون مقبولاً من الجميع، أو يأخذ بما عليه جمهور أهل العلم في نازلته، فإن هذا مما يغلب معه على ظنه أن الحق معه وهكذا، فلا بد من نوع من الترجيح بين هذه الفتاوى المتعارضة على هذا النحو البسيط المجمل الذي يغلب معه على ظن المستفتي أن هذا هو حكم الله _عز وجل_؛ لأنه لا يجوز أن يؤخذ الدين بالهوى والتشهي فإن هذا مما اتفق أهل العلم على رده.
والله من وراء القصد.