تعيش الأمم والشعوب على وجه هذه البسيطة على مقومات تحيى بها، وتؤمن بها وتستلهم منها طرق المعاش وطرق التعامل مع هذه الحياة، ومهما اختلفت هذه الشعوب في عاداتها أو تقاليدها أو أديانها فهي في نهاية المطاف تؤمن بعقائد ترى أنها من الأهمية بمكان أن يؤمن بها أفرادها لكي يحيوا حياة سعيدة تكفل لهم وللأجيال من بعدهم، الاستمرار والتكيف مع هذا الوجود، ولكن تختلف شدة ارتباط وإيمان هذه الشعوب بهذه المقومات، وهذه العادات من مجتمع لآخر، وكل هذا يرجع إلى مصدر هذه العادات وهذه المقومات، ولقد أحدثت ثورة القرن العشرين وما تبعها من الانفتاحات، سواء الإعلامية منها والثقافية والاقتصادية والسياسية، انقلاباً في كثير من هذه المقومات، وهذه العقائد التي تحكم تصرفات هذه الشعوب وتضبطه في عصورها الغابرة، وما يأتي هذا الانقلاب إلا بفعل عقيدة بيت العنكبوت التي لا تصمد لشيء، وذلك بفعل التناقض الذي تعيشه هذه العقائد، فكثير من هذه العقائد تحمل في طياتها بذور فنائها، ولقد كان من حسنات التقدم العلمي في شتى المجالات أن أعطى للعقل نوعاً من الحرية في أعمال نوع من التفكير في كل شيء كان محظوراً في السابق، وغرست في جذر عقول الناشئة ألا تؤمن إلا بما وافق العقل.
فأصبح العقل بقصوره ومحدوديته عقيدة أخرى يؤمن بها أكثر هذا الوجود، فأحدثت هذه العقيدة الجديدة أو إن شئنا أن نقول عقيدة القرن العشرين أو عقيدة العولمة الجديدة انقلاباً على العقيدة النصرانية بوجه خاص، وتكمن هذه الخصوصية بفعل منبع هذه الحضارة التي كانت في بدايتها انفلاتا وهروباً من قيود وأغلال هذه العقيدة، من لدن الرواد الأوائل لهذه الحضارة الحديثة، فكانت من بدايتها، هذه الحضارة تستقل خطاً مغايراً لخط هذه العقيدة، فتطور العلم إلى أن وصل إلى ما نحن إليه الآن من تعقيدات وعلوم لا ترضى بالمتناقضات والمتضادات، فأحدثت هذه العقول انفصاماً بينها وبين ما كانت تعتقده من قبل، من إيمان بالتثليث وإيمان بخزعبلات التحريف النصرانية، التي كان لليهود اليد الطولى في تسنم زمام هذا التحريف من لدن اليهودي شاؤول بولس الذي أحدث هذه التناقضات المشينة في هذه العقيدة فولدت الأجيال الحديثة بلا عقيدة تعقد قلوبها عليها، وأفرز هذا الخواء إلحاداً في الاعتقاد، والذي قاد بدوره إلى إلحاد في الوجود كله، وخاصة لمن هم في أعمار الشباب، فأصبحت تسمع وتتردد على مسمعك أني لا أؤمن بعقيدة، ولا أؤمن بإله يخلق، ويدبر، ويحيي، ويميت، ويتصرف في هذا الوجود، وهي في الحقيقة نتيجة طبيعية لما خلقته هذه العقائد على اختلاف اتجاهاتها الشرقية منها والغربية.
وهذا الاعتقاد الإلحاد الذي أدى دوراً كبيراً في إهانة الإنسان في إنسانيته فأصبح كالأنعام بل أضل، فتجده يعادي كل فكرة تنادي بأنه يوجد لهذا الكون مدبر، ويوجد لهذا الكون خالق، وأصبح العداء وهذا الانفصام بعد ذلك حالة مستديمة، بينه وبين أي فكرة تنادي بهذا؛ لأنه أصبح ينظر لكل فكرة دينية بمنظار العقيدة النصرانية، وهذا في الغالب ينسحب على جميع شرائح المجتمع إلا ما شذ منها، ويأتي هذا الشذوذ الحسن بفعل الارتباط بالمجتمعات الشرقية بالنسبة للغرب، وخاصة المجتمعات الإسلامية التي تملك نقاء في العقيدة وثباتاً في التصور، على حد تعبير الرئيس الفرنسي الراحل (ديجول).
ولقد جر هذا الإلحاد على الشعوب التي التصقت بهذه العقيدة، جر عليها آلاماً وأحزاناً لا تنتهي بالنسبة للمجتمعات وقد تنتهي بالنسبة للأفراد إما بالانتحار العاجل، أو الموت البطيء، وذلك بفعل ما غرسه المولى _تبارك وتعالى_ وجُبل عليه الإنسان من تأليه غيره، فأصبح الإنسان الغربي، مع تحفظي لكلمة الإنسان وإلصاقها به، يعاني أمراضاً وآلاما بفعل الشد الحاصل بين نوازع الفطرة ونوازع التقدم الذي قاد إلى عقيدة الإلحاد، فالإلحاد ألقى بظلاله على أمور عدة هي في العادة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة، مثل الأخلاق وما ترسمه من علاقات اجتماعية تشد أطراف هذا المجتمع، التي أصبحت فيه الأخلاق شذر مذر، فتكاد تجزم أنك لا ترى من الأخلاق في المجتمعات الغربية إلا اسمها، بل في بعض الأحيان حتى اسمها يندثر، ومما كرس هذا الاندثار وهذا الاضمحلال آلة الإعلام بفعل ما تبثه من مواد، قام بدور غير مسؤول عن عملية زوال الأخلاق في المجتمعات الغربية، فتجد أن الإعلام سواء كان مرئياً أو مقروءاً أو مسموعاً لا يجد غضاضة في أن يدعو إلى أفكار إلحادية مقيتة ومناظر لا أخلاقية مسفة، وفي هذه الأجواء الملوثة بكل مل يُسم البدن والفكر ينشأ المرء الغربي، وخاصة الشباب منهم على نظرية لا أخلاق، فتترسب في ذاكرته أن الأخلاق لا أخلاق، فلذلك تجد الناشئة منهم يمتعضون أن يروا نماذج متحفظة في مجال الأخلاق في مجتمعاتهم؛ لأن أللا شعور حاضر في مخيلتهم في كل مواقف حياتهم، ومن النماذج المسفة بالنسبة للأخلاق والثقافات هي ثقافة الجنس وثقافة «أللا أخلاق» ، وخاصة بالنسبة للمرأة التي بحق ما سيمت أشد العذاب إلا في هذه المجتمعات، وتحضر في نفس الواحد عندما يشاهد هذا الإسفاف ... الثقافة الهندية القديمة والثقافة الرومانية كذلك، وطريقة تعاملها مع المرأة، التي رسمت في كثير من الأذهان الفارغة صورة للمرأة تمارس بحذافيرها الآن في الغرب.
وللأسف الشديد أنك تسمع بين الفينة والأخرى أن هذه حرية، وأنها أمور شخصية لا ينبغي لأي شخص أن يتدخل فيها، حتى لو كان يترتب على هذه التصرفات وهذه الحماقات وهذه الأهواء إضرار بالمجتمع بأكمله، وصدق الله العظيم إذ يقول في محكم التنزيل: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه" إذن بكل ما اعترى هذه الحضارة وهذه المدنية الحديثة من جنوح في التفكير وضمور في الأخلاق والذي أدى بدوره إلى العواقب التي نراها، وسنراها، والأيام حبلى بكل ما هو مؤلم لكل صاحب قلب سليم.
وتدور عجلات هذه الحضارة المادية لتطحن بدورانها عقل الإنسان وفكر الإنسان، وإنسانية الإنسان، لتجعله لاشيء، ومع الصورة المظلمة التي يتوقعها العقلاء بتنوع ثقافاتهم لمستقبل هذه الحضارة، يجدر بنا ونحن أمة الإسلام التي استخلفنا الله في هذه الأرض، وجعلنا أمة شاهدة على الأمم.. قال _تعالى_: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم وشهيداً" أن تمتلك زمام المبادرة، ولعل الأحداث التي أفرزتها أحداث الحادي عشر من أيلول لتلقي بالكرة في ملاعبنا نحن المسلمين لتقول لنا، العالم ينتظركم أيها المسلمون، أين أنتم وإلى متى هذا الغياب.
للأسف الشديد إننا نحن المسلمين بمجموعنا أصبحنا كما يقال «ظواهر صوتية» في مجملنا، ولعل هذا المصطلح يتضح جلياً، في قراءتنا لردود الأفعال التي أعقبت هذه الأحداث، والتي لا تتعدى في مجملها التصريحات الفضفاضة لدفع شُبه، أوهن من بيت العنكبوت، ومع كل هذا الظلام المخيم في سماء هذه الأحداث، مع كل هذا.. ما زلنا ننتظر الأمل..
وقد كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يحب الفأل في الأمر كله، وهذا الفأل هو الأمل الذي يحدونا ألا نغرق في جلد ذواتنا، وأن نستشرف المستقبل الذي ما زال يفتح ذراعيه لنا نحن المسلمين.
نحتاج في ظل هذه الأحداث التي بحق أبرزت عوار هذه الحضارة لكل ذي عين، فبعد هذه الأحداث التي أسقطت كثيراً من الأدوات الحضارية والتي كان يؤمن بها الغرب ويروج لها بأنها هي الخلاص والمخلص لهذا الكون من الأنظمة الظلامية!!! كما يدعون، فهذه هي الثمرة الوحيدة للأحداث التي بينت عوار ديمقراطية الغرب وليبراليته وحريته المزعومة التي أصبح كثير من أبنائنا وكلاء موزعين لها بالنيابة.
إذن في هذا الوقت بالذات يتحتم على أمة الإسلام أن تلملم جراحها وتوحد صفوفها، وأن تُوجد برامج علمية عملية تشرح وتوضح لهذه الأمم اللاهثة وراء سراب الحضارة الزائل، تشرح لهم الإسلام بوجهه المشرق المضيء بكل وسيلة متاحة، وبأسلوب رباني سهل.
ومع كل هذا من أحداث مظلمة، وأمل يحدونا للعمل، يبرز سؤال ملح ... وهو: من يستثمر هذه الفرصة السانحة ويضع له بصمة تشهد له عند ربه في تشييد بنيان الأمة الإسلامية ؟
نرجو أن نجد في الأيام المقبلة ما يسر كل مسلم غيور ...