حادث مثل هذا يصيب الإنسان بحالة يصعب تسميتها، يعجز فيها عن الإفصاح عن المشاعر المختلطة والمضطربة في داخله، والناتجة عن خليط من تجاذب عدة عوامل؛ عواطف يكاد يسحقها الألم والقهر، تحليلٌ لاستبصار ما وراء الأكمه، واستشراف للمستقبل بشتى جوانبه، يتلمس الإنسان في ملامح مرحلة قادمة مجهولة، يخوض غمارها بدون رجالات الماضي ...
تلك من أهم مظاهر مصائب فقد القادة، إننا لم نلبث برهة بدون ذلك القائد، حتى نقيم الوضع بدونه تقييماً صحيحاً، إذ قد يكون فقده سبباً في تفجير طاقات قيادية أفضل منه، وربما يجعلنا نعيد النظر في خططنا، وطريقة اعتمادنا على الشخصيات القيادية في الساحة، وربما وربما باختصار، فإن المولى - تبارك وتعالى - قد قال لنا: "فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً" (النساء: من الآية19)، وبكل حال فإن الله - جل وعلا - قضى بالموت على كل أحد "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ" (آل عمران: من الآية185)، "أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ" (النساء: من الآية78).
فأي جماعة عاملة في أي مجال من مجالات خدمة الإسلام، لا بد أن تتذكر الموت أكثر من أي طائفة أخرى، فكما أن عليها أن تعمل لما بعد الموت، لا بد أن تعمل لما قبل الموت، ببناء هيكلها بطريقة تقلل الاعتماد على ذوات الأشخاص، في نفس الوقت التي تهيئ وتعد من الأجيال التالية من يحمل الراية، إذا قضى الله أمره، ولا أظن الأخوة في حماس إلا قد أعدوا لذلك كل العدة، لا سيما وأن كل فرد من أفرادهم عرضة لإسلام الروح في كل لحظة، ناهيك أن الشيخ - رحمه الله - قد تعرض لمحاولة اغتيال سابقة.
يمضي الرجال أيها السادة لتجري دماؤهم مضيئة الطريق لمن بعدهم، هذا هو طريقنا، طريق الأنبياء قبلنا "وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران:146-148) فحزن النفس لا ينبغي أن يجاوز الانفعال الفطري الذي جبل الإنسان عليه، وإنّا لفراقك يا شيخ أحمد ياسين لمحزونون
أيها المسلمون، أيها المجاهدون، أيها المرابطون ... هنيئاً لكم هذا النصر المعنوي، الذي يهيئ الطريق للدخول للمستقبل المشرق لنا جميعاً.
لكننا مع ذلك نرجو ألا ينحصر فكر كثير من المسلمين في أن فوائد عملية الاغتيال تلك هي ما يتبع ذلك من حوادث الانتقام وردود الأفعال من قبل حركة حماس أو غيرها، سواء على الأرض الفلسطينية أو غيرها، بل إن أهم تلك الفوائد أن عملية الاغتيال تلك لتفتت نظر العالم كله إلى أن المسلمين الصادقين هم الذين يصنعون التاريخ الآن، يقيمون الدنيا ولا يقعدونها, يقال: إن اغتيال الشهيد حسن البنا قبل أكثر من سبعين سنة أحدث ضجة في بعض الأروقة الأمريكية، لكن اغتيال أحد قادتنا الآن يحدث ضجة في العالم كله .
حقًا أيها المسلمون "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله".
مسن مشلول الحركة مثخن بالأمراض يعيش بين رفاقه في تلك التي لا تتجاوز مساحتها نصف مدينة من المدن الأمريكية المحصنة، ناهيك عن الفقر المدقع الذي لفها وشمل معظم أبنائها الذين اكتظت بهم حتى أضحت أكثر البقع كثافة في العالم، قابع بين مجموعات من الشبيبة والكهول الذين يشاطرونه الرأي...
يدوخ من على كرسيه الذي لولاه ما جاوز مكانه، دولة من أعتى وأقسى الدول، حتى تجند أجهزتها لاغتياله، أي هزيمة تعاني منها تلك الدولة، حتى تناطح بآلتها العسكرية وبجبروتها الطاغي ذلك المقعد المسكين...
حقاً، حقاً "نصرت بالرعب مسيرة شهر".
هو أو غيره من أمثاله قتلهم حياة لهم، وحياتهم قتل لأعدائهم، معادلة أدخلت العالم الغربي في نفق مجهول لا يدري ما المخرج منه.
إن في قتل الشيخ أحمد ياسين رسالة تجبر الجميع على قراءتها، بل واعتناق ما جاء فيها من أفكار، إن حمى الحوار التي استشرت في نفوس كثير من المسلمين، بل الدعاة منهم قد وطأتها أحذية اليهود القذرة فأزهقت روحها بصورة مذلة مهينة ...كيف ستنظر الجموع المسلمة لمن يصافح بالغد يد بوش فضلاً عن أن يصافح يد شارون... كيف ستسقبل الجماهير المسلمة قادتها الذين لطخت أيدهم بأوساخ الخيانة والتآمر ...
أيها الأفاضل، لقد قرأتم ما يكاد يكون إجماعاً من المحللين على أن اغتيال الشيخ أحمد ياسين من قبل إسرائيل خطأ سياسي فادح، وقد أفاضوا في ذلك، وإن كان ثمت شيء أضيفه ها هنا، هو أن الذي يجعل هذه الفعلة انتحارًا سياسيًا، وليس مجرد خطأ، أن إسرائيل وبغرور القوة - كما هو الحال في أمريكا ومن شابه أباه فما ظلم؛ لأنها كما تزعم أنها نفذت عملية الاغتيال؛ لأن الشيخ أحمد ياسين هو المسؤول عن العمليات التي تسميها انتحارية، ولم تدرك لا هي ولا أمريكا بعض البدهيات التي منها:
1- أن طبيعة الشيخ أحمد ياسين، بكبر سنه، وأمراضة المزمنة والمبكرة، وهدوء أعصابه تجعله شخصية تميل إلى البعد عن الفتك بالخصم أو قتله، حتى لو كانت المكاسب أكبر.
2- لا يُشك أبداً أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت على علم بعملية الاغتيال، ولا شك أنها ارتكبت بدورها حماقة متناهية في عدم ثني إسرائيل عن هذه الجريمة، ذلك أن الشيخ أحمد ياسين، مع حركته قد نجحوا في كبح آلاف الشباب الثائر والمتوثب للانتقام من اليهود وحلفائهم الأمريكان، نجحوا في كبحهم عن الحركة غير المنضبطة خارج حدود فلسطين، ولا شك أن غياب هذا النهج يزيد من الجحيم الذي تعيشه أمريكا في كل مكان، فكان من الأفضل للولايات المتحدة الأمريكية لو كان فيها من يعقل الإبقاء على المقاومة المتعقلة - إن صح التعبير-.
3- أمريكا، غرور القوة، ولد الحماقة، فما زالت مخمورة بعنجهية النصر الكاسح على اليابان بعد قنبلتيها النوويتين، فلا حكمة بل لا عقل، كأنها بلد تديرها عصابة من الصهاينة الأوغاد، أعجب والله أعجب، لا مفكر، لا باحث، لا متأمل يرشدها سبيلها، هذه إرادة الله حتى تسقط سقوطًا يشفي صدور قوم مؤمنين.
هي والاتحاد الأوربي وجهان لعملة واحدة، هي المنظمة اليهودية العالمية، لكن أوربا كانت أعقل وأحكم وأبعد نظراً، وربما أكثر دهاء ومكرًا، حينما أدانت على لسان المهرج الأسباني سولانا، الأمر الذي أثار استغراب واستنكار الشعوب الأوربية، إذن كيف تصنف حماس على أنها منظمة إرهابية، ثم تدينون القضاء على زعيمها! فكان الجواب أنها ما زالت منظمة إرهابية، لكن التعامل مع الإرهابيين لا يكون بقتلهم بهذه الطريقة، ولكن بتعقبهم وجلبهم للعدالة !!
أما أمريكا فقد باعت دنياها، ودينها من قبل، بثمن بخس، رضا اليهود، بسخط الجميع الذي يضع مسماراً آخر في نعشها الذي يقوم بصنعه على مهل السخط العالمي والإسلامي الشعبي عليها، هذه أمريكا، ما أرادت حتى الاستنكار، مع أن استنكارها قد يقال: إنه لا يغنينا عما نحن فيه شيئاً.
4- إن عداء إسرائيل المستفحل لكل ما يمت إلى الإسلام بصلة، أكسب عدوها (حماس) قدرة على لملمة صفوفه، ومنحه براعة في كسب الجماهير المسلمة داخل فلسطين فامتدت أفقيًا بين طبقات الشعب الفلسطيني في زمن قياسي، كما أخذت بمجامع قلوب الشرفاء بشتى أطيافهم في الخارج، الأمر الذي جعل من حركة حماس، أو من جهادها، أو من أهدافها، روحاً تحيا بها الجموع الفلسطينية، وربما غيرها، وجزءاً من البينة الفلسطينية، لا تزول إلا مع زوال آخر فلسطيني، ، فقتل قائدها الروحي، ربما يضعف تلك الروح شيئاً، لكنه بالتأكيد لن يضعفها إلى درجة يكف عداءها لإسرائيل، وبحثها عن كل الوسائل للفتك بالجانب الآخر.
5- إن من أكبر الأدلة على الانتحار السياسي الذي قامت به إسرائيل بهذه العملية، أن الاتحاد الأوربي الذي صوت أمس على اعتبار حماس حركة إرهابية، هاهو اليوم يصوت بالإجماع على إدانة هذه العملية، طبعاً قد يقلل كثير من المسلمين من فائدة هذا، وربما طغت عليهم النظرة قصيرة الأمد فاعتبروا هذا مراوغة سياسية ليس لها أدنى فائدة، لكن من لم يصبه عشى الظلم، سيجد شعاع الشمس وأمل النصر في كل مكان، إسرائيل أيها السادة في نظر أكثر الأوربيين –كما اظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة المتوالية- هي المسؤول الأول عن حالة الغليان التي يعيشها العالم، وهي السبب الرئيس في انعدام الأمن، بل هي الإرهابي الأول في العالم، لقد انقلب السحر على الساحر، فتهمة الإرهاب التي أحسنت إسرائيل صياغتها، ورسم لوائح الاتهام فيها، إذا بها في نظر - شرائح لا يستهان بها على الأقل- توجه إليها... إذا سقطت الدول والأنظمة والشعارات من أعين الناس، سقطت الدول بعد ذلك فعلياً... وأول خطوات النصر: الثقة بالنفس، وله صور وأسباب كثيرة كذلك.
يبدو لي أن ثمة بعدًا أهمله كثيرون في الحديث عن حال الأمة المسلمة المتهاوي، لقد برز من الإسلاميين على وجه العموم، "نجوم" إعلامية، فأن تحتل صور الشيخ أحمد ياسين الصفحات الأولى من الصحف العربية والأجنبية، وشاشات التلفزة، ويتصدر خبر نبأ اغتياله نشرات الأخبار كلها، جعل منه نجماً يستهوي ميول الشباب الطالح منهم قبل الصالح ... لم تعد النجومية مقتصرة –كما أرادت الماسونية والصهيونية العالمية - على مغن ماجن، أو ممثل فاجر، بل مخترع أجنبي, تنضح وجوههم بعلامات الفسق, نجومنا تنضح وجوههم بالإيمان ما بين لحى كثة، وهيئة رثة، نجوم الإعلام هم ياسين، وعياش، وغيرهم، سبب نجوميتهم ما هي؟ كانوا قادة الجهاد في سبيل الله... تلك ورب نعمة، وأي نعمة.
سيرة الشيخ أحمد ياسين – كغيره من العظماء- ذات فوائد يعجز الفرد عن إحصائها في عجالة، لكن يأبى القلم ترك هذه المساحة دون إشارة واحدة، إنها رسالة إلى شباب الأمة، يا شباب الأمة، الهمة، والقمة، أيها الرجال، هل سبق أن رأيتم هذا الشيخ حينما ينقل من كرسيه إلى مجلس آخر، قطعة لحم ممدة، لا يتحرك فيها إلا ذلك اللسان، ومع ذلك جمع العناصر القيادية من أطرافها، وأحدث منعطفًا في التاريخ الحديث بل والقديم، ولست أبالغ إن قلت: إن جهاد المجاهدين في حماس سيصنع التاريخ الحديث، لقد رسمت حماس منهجاً فريدًا، سارت وستسير عليه حركات أخرى، فهنيئاً لمن ربح هذا الأجر.
إن أحد أهم أسباب نجاح الشيخ أحمد ياسين كقائد لتلك الحركة التي ربما تكون من أنجح حركات المقاومة، إنه نجح مع رفاقه في توجيه الصراع في جبهة واحدة، داخل أرض فلسطين، ومع العدو الصهيوني فقط، رغم أنه قد مر بها من المواقف مع السلطة الفلسطينية ما يعجز الحليم عن التصرف بحكمه، كل ذلك حتى لا تحدث مواجهة فلسطينية فلسطينية.
كما نجحت الحركة في ضبط النفس لأكبر درجة ممكنة تجاه بعض القرارت العربية الخرقاء، لتتجنب أي نوع من أنواع المهاترات السياسية ضد كثير من الدول العربية والإسلامية، الأمر الذي أكسبها احترام الجميع.
ختاماً، دعوة لقراءة آيات سورة آل عمران، والتي منها قول الحق - جل وعلا-: "هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران: 138-148).