العلامة الأولى: غاية الذل لله – تعالى - مع غاية الحب:
المؤمن يُسلم نفسه لربه منكسراً بين يديه، متذللاً لعظمته، مقدماً حبَّه - سبحانه وتعالى - على كل حب، طمأنينة نفسه، وقرَّة عينه، وسكينة فؤاده؛ أن يعفِّر جبهته بالأرض، ويدعو ربه رغبة ورهبة، قال ابن جرير الطبري: "معنى العبادة: الخضوع لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة"(1).
ومَنْ كانت هذه هي حاله وجدته وقَّافاً عند حدود الله، مقبلاً على طاعته، ملتزماً بأمره ونهيه، فثمرة الذل: ألا يتقدم بين يدي الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، مهتدياً بقوله _سبحانه وتعالى_ : "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" [الأحزاب: 36]، وقوله _تعالى_ : "وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ" [البقرة: 285]، وقوله _تعالى_ : "إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" [النور: 51 52].
قال الحسن _رضي الله عنه_ : "ما ضربتُ ببصري، ولا نطقتُ بلساني، ولا بطشتُ بيدي، ولا نهضتُ على قدمي، حتى أنظر أعلى طاعة أو على معصية؟ فإن كانت طاعة تقدمتُ، وإن كانت معصية تأخرتُ"(2).
وأمّا مَنْ طاشت به سبل الهوى، ولم يعرف الله _عز وجل_ حق المعرفة؛ فتراه يستنكف الاستسلام لربه - عز وجل-، ويستكبر فلا يخضع له، قال الله _تعالى_ : "لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا" [النساء: 172 173].
ويقول الله _تعالى_ في وصف المؤمنين: "إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ" [السجدة: 15].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كلما ازداد القلب حبّاً لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حباً وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة، وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلية، فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يلتذ ولا يُسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه"(3).
وقال ابن القيم: "إنَّ مقام العبودية هو بتكميل مقام الذل والانقياد، وأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلاً للّه وانقياداً وطاعة، ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل، فهو ذليل لقهره، ذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه وإنعامه عليه"(4).
التواضع من مقتضيات التذلُّل لله - عز وجل-:
ومن مقتضيات التذلل لله - عز وجل - نزع جلباب الكبرياء والتعالي والتعاظم، والانكسار بين يدي جبار السماوات والأرض، والخضوع لأمره ونهيه، فعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة _رضي الله عنهما_ قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "العزّ إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته"(5).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصَّغار، حتى يدخلوا سجناً في جهنم يُقال له: بُوْلَس، فتعلوهم نار الأنيار، يُسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار"(6).
والمتأمل في جميع العبادات الظاهرة والباطنة يظهر له بجلاء أن مقصود العبادة أن يُطامن العبد من كبريائه، ويتذلل لمولاه، ويظهر الفاقة والمسكنة لربه _عز وجل_ ، انظر في أحكام الصلاة أو الصوم أو مناسك الحج... ونحوها، تجد ذلك جلياً لا غموض فيه، ولهذا فإن الكبر والخيلاء والتعالي من قوادح الإيمان بالله والافتقار إليه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من كبرياء"(7).
ومن تمام التذلل لله _عز وجل_ والافتقار إليه، ألا يتكبر الإنسان على الخلق مهما بلغ جاهه، أو عظم سلطانه، أو ماله، أو علمه؛ لأنه يعرف قدره، ويعرف مآل المتكبرين في الدنيا والآخرة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أخبركم بأهل الجنَّة؟ كل ضعيف متضعَّف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جوَّاظ مستكبر"(8).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "احتجت النار والجنة، فقالت هذه: يدخلني الجبارون المتكبرون. وقالت هذه: يدخلني الضعفاء والمساكين. فقال الله _عز وجل_ لهذه: أنت عذابي أعذب بك من أشاء وربما قال: أصيب بك من أشاء ، وقال لهذه: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها"(9).
ومن حكمة الخالق جل وعلا أن المتكبرين الذين يتعاظمون على الخلق يذلهم الله ويضع من منازلهم وأقدارهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، وإذا تكبر قيل للملك: ضع حكمته"(10).
وعن عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ قال: "إنَّ العبد إذا تواضع لله _عز وجل_ رفع حكمته، وقال: انتعش رفعك الله، فهو في نفسه حقير، وفي أعين الناس كبير، فإذا تكبر وعدا طوره وهصه إلى الأرض، وقال: اخسأ أخساك الله، فهو في نفسه كبير، وفي أعين الناس حقير، حتى إنَّه أحقر في أعينهم من الخنزير"(11).
العلامة الثانية: التعلّق بالله - تعالى - وبمحبوباته:
فشعور العبد بفقره وحاجته إلى ربه _عز وجل_ يدفعه إلى الاستكانة له والإنابة إليه، ويتعلق قلبه بذكره وحمده والثناء عليه، والتزام مرضاته، والامتثال لمحبوباته.
قال بعض الصالحين: "مفاوز الدنيا تُقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تُقطع بالقلوب"(12).
ولهذا ترى العبد الذي تعلق قلبه بربه وإن اشتغل في بيعه وشرائه، أو مع أهله وولده، أو في شأنه الدنيوي كله مقيماً على طاعته، مقدماً محبوباته على محبوبات نفسه وأهوائها، لا تلهيه زخارف الدنيا عن مرضاة ربه، قال الله _تعالى_ : "لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" [البقرة: 177].
وثبت في الصحيحين أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه..."، وذكر منهم: "رجل قلبه معلَّق في المساجد"(13). قال الحافظ ابن حجر: "إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده خارجاً عنه"(14). ولاحِظْ هذا التعبير البليغ: "قلبه معلّق"، وهذا يعني: أنه دائم الصلة بالله _تعالى_، دائم الاستحضار لأوامره، لا يشغله عن ذلك شاغل، ولا يصرفه عنه صارف، ولهذا قال الله _تعالى_ : "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ" [النور: 36 37]. وثبت في الحديث الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكون في مهنة أهله - تعني: خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة"(15).
ويصف الإمام ابن القيم الافتقار إلى الله _تعالى_ بقوله: "يتخلى بفقره أن يتألَّه غير مولاه الحق، وأن يُضيع أنفاسه في غير مرضاته، وأن يُفرِّق همومه في غير محابه، وأن يُؤْثر عليه في حال من الأحوال، فيوجب له هذا الخلق وهذه المعاملة صفاء العبودية، وعمارة السر بينه وبين الله، وخلوص الود، فيصبح ويمسي ولا همّ له غير ربه، فقد قطع همُّه بربه عنه جميع الهموم، وعطلت إرادته جميع الإرادات، ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه"(16).
ومن تعلّق قلبه بربه وجد لذة في طاعته وامتثال أمره لا تدانيها لذة "فأوامر المحبوب قرة العيون، وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، ولذات النفوس، وبها كمال النعيم، فقُرُّة عين المحب في الصلاة والحج، وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك، وفي الصيام والذكر والتلاوة، وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله – سبحانه-؛ فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف، ولا يدركه مَنْ ليس له نصيب منه، وكل مَنْ كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم"(17).
وأعظم الناس ضلالاً وخساراً مَنْ تعلّق قلبه بغير الله – تعالى - ويزداد ضلاله وخساره بزيادة تعلُّقه بغير مولاه الحق، ولهذا كان ركون العبد إلى الدنيا أو إلى شيء من زخرفها آية من آيات العبودية لها، قال الله _تعالى_ : "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ" [الجاثية: 23]. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أُعطي منها رضي، وإن لم يُعط سخط، تعس وانتكس وإذا ِشيكَ فلا انتقش"(18).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كل مَنْ علَّق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه؛ خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً متصرفاً بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له؛ يبقى قلبه أسيراً لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبد بدنه واستُرق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقاً مستعبداً متيماً لغير الله؛ فهذا هو الذل والأسر المحض، والعبودية لما استعبد القلب"، ثم قال: "ومن أعظم هذا البلاء إعراض القلب عن الله، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له؛ لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب"(19).
وقال الإمام ابن القيم: "أعظم الناس خذلاناً مَنْ تعلَّق بغير الله، فإنَّ ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرَّض للزوال والفوات، ومثل المتعلق بغير اللَّه كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت أوهن البيوت"(20).
وقال أيضاً: "تعلُّق القلب بغير الله واشتغاله به والركون إليه عكوف منه على التماثيل التي قامت بقلبه، وهو نظير العكوف على تماثيل الأصنام، ولهذا كان شرك عبّاد الأصنام بالعكوف بقلوبهم وهممهم وإراداتهم على تماثيلهم، فإذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفاً عليها؛ فهو نظير عكوف الأصنام عليها، ولهذا سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- عبداً لها، ودعا عليه بالتعس والنكس"(21).
العلامة الثالثة: مداومة الذكر والاستغفار:
فقلب العبد المؤمن عاكف على ذكر مولاه، والثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى في كل حال من أحواله، دائم التوبة والاستغفار عن الزلل أو التقصير، يجد لذته وأنسه بتلاوة القرآن، ويرى راحته وسكينته بمناجاة الرحمن، قال الله – تعالى-: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" [الرعد: 28].
وقد وصف الله _عز وجل_ أهل الإيمان بقوله: "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" [الزمر: 9]، وقوله: "إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" [آل عمران: 190 191].
كما أمر الله - عز وجل - نبيه بمداومة الذكر والاستغفار، فقال - سبحانه-: "فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ" [غافر: 55].
ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا أيها الناس! توبوا إلى اللَّه؛ فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة"(22).
وقال _عليه الصلاة والسلام_ : "والله إني لأستغفر الله وأتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة"(23). وقال: "إنه ليُغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة"(24).
إنَّ مداومة الذكر والاستغفار آية من آيات الافتقار إلى الله – تعالى-، فالعبد يجتهد في إظهار فاقته وحاجته وعجزه، ويمتلئ قلبه مسكنة وإخباتاً، ويرفع يديه تذللاً وإنابة؛ فهو ذاكر لله _تعالى_ في كل شأنه، في حضره وسفره، ودخوله وخروجه، وأكله وشربه، ويقظته ونومه، بل حتى عند إتيانه أهله، فهو دائم الافتقار إلى عون الله _تعالى_ وفضله، لا يغفل ساعة ولا أدنى من ذلك عن الاستعانة به والالتجاء إليه.
ومقتضى ذلك أنه لا يركن إلى نفسه، ولا يطمئن إلى حوله وقوته، ولا يثق بماله وجاهه وصحته، ولهذا كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لبعض أصحابه: "اللهم لا تكلهم إليَّ فأضعف، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم"(25).
وعن أبي بكرة _رضي الله عنه_ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو؛ فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت"(26).
وعن أنس بن مالك _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة - رضي الله عنها-: "ما يمنعكِ أن تسمعي ما أوصيكِ به؟! أن تقولي إذا أصبحتِ وإذا أمسيتِ: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، وأصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً"(27).
تأمَّل أذكار النبي -صلى الله عليه وسلم- وأدعيته تَرَ عجباً في هذا الباب؛ ففي سيد الاستغفار تتجلى أعظم معاني العبودية، وتبرز أسمى معاني الانكسار والتذلل .. "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، اغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"(28).
وتأمَّل دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وتذلله إذا قام من الليل يتهجد ويناجي ربه، قال: "اللهم لك الحمد أنت قيَّم السموات والأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد لكَ مُلْك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، ولك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمتُ وما أخرت، وما أسررتُ وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، أو لا إله غيرك"(29).
إنَّ حمد الله _تعالى_ وشكره، والثناء عليه بما هو أهله، مع الاعتراف بالذنب والعجز؛ يعمّر القلب بالنور، ويوجب له الطمأنينة والسعادة، وما أجمل كلام الإمام ابن القيم عندما قال: "إن في القلب خلة وفاقة لا يسدَّها شيء ألبتة إلا ذكر الله _عز وجل_، فإذا صار الذكر شعار القلب بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة، واللسان تبع له؛ فهذا هو الذكر الذي يسدّ الخلة ويغني الفاقة، فيكون صاحبه غنياً بلا مال، عزيزاً بلا عشيرة، مهيباً بلا سلطان، فإذا كان غافلاً عن ذكر الله - عز وجل - فهو بضد ذلك، فقير مع كثرة جدته، ذليل مع سلطانه، حقير مع كثرة عشيرته"(30).
_________________
(1) تفسير ابن جرير، (155/1).
(2) جامع العلوم والحكم، (155/1).
(3) مجموع الفتاوى، (01/ 391 491).
(4) مفتاح دار السعادة، (500/1).
(5) أخرجه: مسلم في كتاب البر والصلة، (4/ 3202)، رقم (0262).
قال الإمام النووي: "الضمير في إزاره وردائه يعود إلى الله تعالى للعلم به، وفيه محذوف تقديره: قال الله تعالى ، ومن ينازعني ذلك أعذبه". شرح صحيح مسلم، للنووي، (61/ 371).
(6) أخرجه: أحمد، (11/ 062)، رقم (7766)، والترمذي في كتاب صفة القيامة، (4/ 556)، رقم (2942)، وقال: حسن صحيح، وحسنه الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد، والألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم (6987).
(7) أخرجه: مسلم في كتاب الإيمان، (1/ 39)، رقم (19).
(8) أخرجه: البخاري في كتاب التفسير، (8/ 266)، رقم (8194)، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، (4/ 09129)، رقم (3582).
وقال النووي: "ضبط قوله: متضعَّف، بفتح العين وكسرها، والمشهور الفتح، ولم يذكر الآخرون غيره، ومعناه: يستضعفه الناس ويتحقرونه، ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا، يقال: تضعفه واستضعفه.
أما رواية الكسر فمعناها: متواضع متذلل خامل، واضع من نفسه. قال القاضي: وقد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها وإخباتها للإيمان". شرح مسلم، للنووي، (71/ 681 781).
(9) أخرجه: مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، (4/ 6812)، رقم (6482).
(10) أخرجه: الطبراني في المعجم الكبير، (21/ 812)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (835)، وصحيح الجامع الصغير، رقم (1555).
(11) أخرجه: ابن أبي شيبة في مصنفه، في كتاب الأدب، (9 / 09)، رقم (4366)، وكتاب الزهد، (31/ 072)، رقم (80361)، والبيهقي في المدخل إلى السنن، ص (835)،رقم (106)، وإسناده صحيح.
(12) شذرات الذهب، (326/2).
(13) أخرجه: البخاري في كتاب الأذان، (143/2)، رقم (660)، ومسلم في كتاب الزكاة، (2/ 517 617)، رقم (1031).
(14) فتح الباري، (145/2).
(15) أخرجه: البخاري في كتاب الأذان، (162/2)، رقم (676).
(16) طريق الهجرتين، (ص 18).
(17) المرجع السابق، (ص 70).
(18) أخرجه: البخاري في كتاب الجهاد، (6/ 18)، رقم (2887).
(19) مجموع الفتاوى، (01/ 581 781).
(20) مدارج السالكين، (1/ 854).
(21) الفوائد، (ص 712).
(22) أخرجه: مسلم في كتاب الذكر، (4/ 5702 6702)، رقم (2702).
(23) أخرجه: البخاري في كتاب الدعوات، (11 / 101)، رقم (6307).
(24) أخرجه: مسلم في كتاب الذكر، (4 / 2075)، رقم (2702).
(25) أخرجه: أحمد، (73/151)، رقم (2487)، وأبو داود في كتاب الجهاد، (3/ 79)، رقم (2535)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (482/2)، لكن ضعفه الأرناؤوط في تحقيقه للمسند.
(26) أخرجه: أحمد، (75/34)، رقم (20429)، وأبو داود في كتاب الأدب، (324/4)، رقم (5090)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، رقم (4246)، والأرناؤوط في تحقيقه للمسند.
(27) أخرجه: ابن السنّي في عمل اليوم والليلة، رقم (46)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (227).
(28) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، (11/ 89)، رقم (6036).
(29) أخرجه: البخاري في كتاب التهجد، (3/3)، رقم (1120)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، (532/1)، رقم (769).
(30) الوابل الصيب، (ص 139).