بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً.
أسطري هذه أرقمها اليوم والأمة تعيش أياماً من الحوادث التي ألمت بها في داخلها وخارجها، ولعل من الجميل ذلك الفأل الذي استصحبه في هذه الأحداث كثير من أهل العلم والدعوة والإصلاح، حتى أنهم ليرون من خلف هذه آمالاً كثيرة، وأن من ورائها مواقع النصر والشرف والعزة لهذه الأمة، كما قال الرسول _صلى الله عليه وسلم_: "بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب".
وهذه الآمال أخشى عليها من التبخر حينما تتعرض للهيب بعض الأعمال كما يبخر الشمس القطر، ومن أعظم ما أخافه على ذلك الغفلة عن القلوب وإهمال أوضاعها.
لقد سطر كثير من أهل العلم في ظل هذه الحوادث أسبابها ونتائجها وخط الانحراف الذي نهجته الأمة حتى حل بها ما حل، وأشارك اليوم في جزء من ذلك، حيث أرى أن من أعظم ذلك: الغفلة عن القلوب.
أخي القارئ الكريم: كلنا يحفظ قول الرسول _صلى الله عليه وسلم_: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" هذه اللفظة النبوية محك الأعمال، وعليها مدار الإصلاح والصلاح، والقلوب لها توجهات ولها ميول ولها أعمال متى ما انحرفت عن الجادة كان نتاجها فاسداً حنظلاً ونتاجها يظهر على الأعمال التي ترسلها الجوارح.
قال ابن رجب: "فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه؛ فإن كان قلبه سليماً ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه صلحت حركات الجوارح كلها!!
أخي القارئ الكريم: كلنا يعلم أن مدار قبول العمل على الإخلاص والمتابعة، والإخلاص مداره على القلب وتوجهه لربه وقصده بعمله وجه ربه وحده لا شريك له "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته لله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
إن حقاً على كل من أراد السعي في نجاة نفسه وأمته أن يراعي حال قلبه في سائر أحواله، وأعمال القلوب من أعظم الأعمال التي يتقرب بها إلى الله وأنا وأنت نعلم أنه لا يفرق بين المسلم والمنافق إلا القلب وأعماله.
يقول ابن القيم _رحمه الله_: "حال العبد في القبر كحال القلب في الصدر" يعني: انشراحاً وضيقاً، فرحاً وسروراً.
قال الحسن _رحمه الله_: "العلم علمان؛ فعلم في القلب فذلك العلم النافع، وعلم على اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم".
وقال ابن القيم _رحمه الله_: "فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح".
وقال ابن تيمية _رحمه الله_: "أعمال القلوب في الثواب والعقاب كأعمال الجوارح، ولهذا يثاب على الحب والبغض، والموالاة والمعاداة في الله، وعلى التوكل والرضا والعزم على الطاعة ويعاقب على الكبر والحسد والعجب والشك والرياء وظن السوء بالأبرياء!!
وهنا وقفة مع جملة من أعمال القلوب أرى أننا عرضناها للخلل كثيراً:
1- التوكل: من أعظم أعمال القلوب فرطنا في حقيقته وفهمه، وهو: تفويض الأمر لله مع بذل الأسباب، والتوكل حقيقة هو محض حق الرب _تعالى_: "وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (المائدة: من الآية23)، وهو نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة.
قال ابن القيم _رحمه الله_: "أولياء الله يتوكلون على الله في الإيمان ونصرة دينه، وإعلاء كلمة الله وجهاد أعدائه، وفي محابه وتنفيذ أوامره.
ودونهم من يتوكل عليه في استقامة نفسه وحفظ حاله مع الله فارغاً عن الناس، ودونهم من يتوكل عليه في معلوم يناله من رزق وعافية، أو نصر على عدو، أو زوجة وولد، ومنهم من يتوكل عليه في حصول إثم من فواحش وآثام، وهؤلاء لا ينالون مطلوبهم غالباً إلا باستعانتهم بالله وتوكلهم عليه!!
فانظر أين حالك من هؤلاء.
2- التسليم والمطالبون به منه هو التسليم للحكم الديني الأمري "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" (النساء:65).
أما التسليم للحكم الكوني القدري، وهو الرضا بالقضاء والواجب فيه الصبر والرضا فضل، فأين نحن من هذا التسليم لقد جرد الحديث عن التسليم الديني الأمري فقط، أما التسليم القدري الكوني، فأين حقيقته؟ أين الصبر المتمثل في عدم التسخط وإظهار التشويش مع الثناء على الرب، وعلامته: التفويض مع بذل الأسباب دون تحكيم للأهواء والعواطف، بل تحكيم حقيقي للنصوص والأوامر الشرعية، فلو علمت الأمة أن ما يحل بها هو بسبب ما كسبت أيديها فسُلط عليها عدوها فسلمت، ثم عملت بالتسليم للنصوص، وهو: الإعداد لجميع صوره العلمية والعملية للنهوض بهذه الأمة من كبوتها لكان في ذلك خير كثير، وتأمل حديث أمية بن عبد الله بن خالد أنه قال لعبد الله بن عمر: إنَّا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ولا نجد صلاة السفر في القرآن، فقال له عبد الله: "يا ابن أخي إن الله _تعالى_ بعث إلينا محمداً _صلى الله عليه وسلم_ ولا نعلم شيئا،ً وإنما نفعل كما رأيناه يفعل".
3- التعظيم، وهو تابع للمعرفة فعلى قدر المعرفة يكون التعظيم للرب _تبارك وتعالى_ في القلب وأعرف الناس به أشدهم له تعظيماً وإجلالاً "مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً" (نوح:13): أي عظمة، "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ" (الحج:32)، "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ" (الأنعام: من الآية91).
وقال الرسول _صلى الله عليه وسلم_: "إن لله تسعة وتسعين اسماً مَن أحصاها دخل الجنة"، وأعظم الإحصاء التوقير والتعظيم والإجلال لمن تسمى بها ووصف نفسه بصفاتها حقيقة، فهو رحمن يرحم، قوي يقوي، غفور يغفر إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته.
4- الشكر، وهو نصف الإيمان؛ فنصف صبر ونصف شكر، وفي التنزيل "لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ" (إبراهيم: من الآية7).
قال ابن أبي الدنيا: "وقد أمر الله به ونهى عن ضده، وأثنى على أهله ووصف به خواص خلقه، وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سبباً للمزيد من فضله، وحارساً وحافظاً لنعمه، وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته، واشتق لهم اسماً من أسمائه، فإنه _سبحانه_ هو الشكور وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره، بل يصير الشاكر مشكوراً وهو غاية الرب من عبده وأهله هم القليل من عباده "وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ" (النحل: من الآية114)، وسمى نفسه شاكراً ومشكوراً، وسمى الشاكرين بهذين الاسمين فأعطاهم من وصفه، وسماهم باسمه وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلاً!!
فاطلب الزيادة بالشكر ولا تعرض حالك للزوال والفناء بجحد النعم، فاثنِ على الله بما هو أهله، وتأمل استفتاح الصلاة بالفاتحة، فصدرها ثناء وشكر "حمدني عبدي – أثنى علي عبدي _ مجدني عبدي هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".
وبعد فهذه وقفات مع القلب وأربع من أعماله، رزقنا الله قلوباً مطمئنة ترضى بقضائه وتقنع بعطائه وتفرح بلقائه.
وأخيراً قال الحسن لرجل: "داوِ قلبك، فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم". والحمد لله رب العالمين.