أنت هنا

الصحافة.. ودرس في الإرهاب
27 ربيع الأول 1424

بسم الله الرحمن الرحيم
إذا لم يشغلنا الهياج العاطفي المصاحب للهجمة التي تشنها بعض الصحف على مجتمع العلم والدعوة، وإذا أتحنا لعقولنا أن تنفذ بصيرتها في تفاصيل هذه الهجمة التي تمثل الجزء الأكبر من تغطيات تلك الصحف اليومية لحوادث التفجير، وما تلاها من تداعيات، فسنكتشف أن حظوظ الهجمة في الفشل كبيرة؛ لسبب واحد راجع إليها نفسها، وهو أنها تفتقر إلى شروط القول الحسن الذي يتلقاه الناس بالرضا والتسليم، أو بالاحترام والتماس العذر، وهي: العلم، والحكمة، والصدق(المصداقية)، والنصح، وعدم التناقض. وحين لا يكون في القول من الحسن إلا حلاوة اللفظ فما ينبغي للقائل أن تغره فيفرح بها؛ لأنها إيذان بدخوله في الذين وصفهم أعلم المتكلمين، وأحكمهم، وأصدقهم، وأنصحهم فقال عز من قائل عليم (وإن يقولوا تسمع لقولهم) بيد أن هذه الفرصة التي منحها هؤلاء للتخفي وراء ستر الحلاوة اللفظية فرصة مشوبة بكدر الكشف؛ لأن سترها لا يخفي معالم القبح كلها، مما يتيح للخاصة الاطلاع عليه (ولتعرفنهم في لحن القول) كما أنه ستر لا يطول زمنه، إذ لا يلبث أن ينحسر كاشفاً للعامة عن العورة كلها، فهو كالظلام لا يزال يستر العاري حتى يشرق عليه النور.
إنها هجمة تفتقر إلى العلم بما تهاجمه فتنسى في غمرة هجومها أنها تقترب من نسف بعض أهم الثوابت، التي تمثل أركاناً في الدين الذي آمن به المجتمع -حتى المهاجمون- وأصبح الأساس الذي قام عليه، والمرجعية التي يفيء إليها، ومنها عقيدة الولاء واليراء وهي ثمرة الإيمان بالإسلام، ويصرح بعض المهاجمين بدعوى التناقض الذي عليه العلماء والدعاة حين يستنكرون عمليات التفجير ثم يقررون مبدأ الولاء والبراء، والجهاد في سبيل الله. وتسدد أقلامُ كتاب تلك الهجمة وكاريكاتورييها سهامَ التجريح والتنقيص إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، غير محتفلة بجماله، ولا خجلة من جلاله، ولم يشفع له عندها ما زخر به الكتاب العزيز من الاحتفاء العظيم به، وبأهله، حتى ليكاد يخلو من التصريح بعدِّ أخطائهم التي قد تقع حال قيامهم به. وتعدى هجومها فطال المجتمع بأسره الذي لم يزل يقر تدريس هذه المبادىء في مناهج التعليم، وشمل هجومها الدعوة إلى الله فأنكرتها في مجتمع المسلمين، بل وجرمتها، وأعلنت أنها خروج على أهداف العملية التعليمية، وساقت حجة تنبيء عن افتقار إلى العلم فتقول: كيف تتوجه الدعوة إلى المسلمين، هل هم كفار؟ وإذا كان من الممكن أن يقترح أصحاب الهجمة شطب أول أهداف التعليم في المملكة الذي نصت عليه سياسته، وأن يقترحوا على وزارة الشؤون الإسلامية غلق قسم الدعوة في الداخل، وتسريح دعاته، فليبينوا لنا كيف نفعل بالقرآن الذي يشاركوننا الإيمان بأنه حق ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) حيث ترد نصوصه بأمر المؤمنين بالإيمان كقول الله (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله..) وأمر المسلم المصلي قارىء القرآن بأن يردد في كل صلواته أكثر من 17 مرة (اهدنا الصراط المستقيم) وتوجه دعوة صريحة للمؤمنين كقول الله سبحانه (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) فما الحيلة مع هذه النصوص؟ هل نقبلها فنؤمن بها، ونعمل بمقتضاها، أو ننقلب عليها، فنحكها من المصحف.. مثلاً، أو نتعامل معها بعقلية الببغاء فنمرها كما جاءت، بلا فهم لمعانيها، ولا عمل بمقتضاها.
كما أنها تفتقر إلى العلم بمن تهاجمه، فهي تظن أنها تهاجم طائفة قليلة من المجتمع، يحلو لها أن تسِمَهم بـ "المحافظون" أو "السلفية الحركية" أو "الصحويون" أو "غلاة الوهابية" والحقيقة الساطعة أن كل من يدين بالولاء لهذا الدين، والعمل لنصرته، ويفرح بكل انتصار يحققه، ويحزنه كل هجوم من أعدائه على مقدسات الدين، وعلمائه، ودعاته، ومؤسساته، يشعر بأنه هدف هذه الهجمة، وهذا يشمل المسلمين جميعاً، من أعضاء هيئة كبار العلماء إلى عجائز المسلين في القرى والهجر، فهاتوا أحداً من هؤلاء يقبل تصريح بعض أولئك المهاجمين بأن أحد عناصر ثالوث الإرهاب (العقيدة التيمية الوهابية).
ولئن احتالت الهجمة بأن تقصر التهمة على تلك الطائفة، وأن تبرىء المجتمع منها، وتبرىء الدين منها ظاهراً، فحيلتها مكر سيء (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) وهو أسلوب رخيص سبقتهم إليه الإدارة الأميركية في حربها على الإسلام وأهله، حين احتالت بدعوى معاداة الأصولية لا الإسلام، ومحاربة الإسلاميين لا المسلمين، فما استساغ حيلتها المسلمون في أقطار الأرض كلها، فكيف ينتظر أن يستسيغها هذا المجتمع وحظوظ أهل العلم والدعوة فيه أعظم من حظوظ الصحافة، وأقدامهم في أرضه أرسخ من أقدامها، وأيديهم أطول، وقلوبهم أثبت، ونفوسهم أشجع، ومقاصدهم أسمى، وأعمالهم أزكى، فنصرة المجتمع ستكون لهم، لا لها، وغضبه سيكون عليها، لا عليهم، كيف وهم أهل الإسلام، وفي جزيرة الإسلام، وجوارهم حرم الكعبة قبلة الإسلام، وحرم المدينة أول مسجد بني في الإسلام. وهاهي حملتها نفسها تكشف للمتبصر ما لأولئك العلماء والدعاة من الحضور، حيث طلب رأيهم المجتمع كله وتطلع إليه، حتى هذه الصحافة أصرت على إحراجهم فإذا هي تعزز حضورهم من حيث أرادت أن تسحب البساط من تحتهم، فأطبق المجتمع على أن أي جهود لحل العنف لا يكون للعلماء والدعاة فيها القدح المعلى فمآلها الفشل. ويالها من مفارقة! وصدق ربنا إذ يقول (إن الله لا يهدي كيد الخائنين).
كما تفتقر إلى المصداقية،أهم سمات الصحافة الهادفة الشريفة، وذلك ما شاهده الناس، وشهدوا به، وبخاصة في حملاتها على مؤسسات الدولة الشرعية، وأكذبهم فيها المسئولون أنفسهم، وليس آخرها تغطية بعض الصحف لتمثيلية الانتحار الساذجة في الأسبوع قبل الماضي، وهي بمعايير الصحافة كلها فضيحة مخزية، لو كان ثمة من يحاسب. إن رسالة الصحافة الإصلاح، وليس الكذب، أو الاستفزاز تحت اسم الإثارة، وما ينبغي أن تكون مكاناً لنفث أحقاد الصدور، أو دعوة الناس إلى "الكراهية".
كما تفتقر إلى النصح، فأما عدم نصحها للدين فذلك أيسر ما يمكن المتابع التوصل إليه، وأما المجتمع فما نصح له من ضرب عامته بأئمته، وأوقد فيه نار الاحتراب، وهذا ما أحسب الهجمة قد أوغلت فيه.
وهي بهذا تفتقر إلى الحكمة؛ لأنها إذ تعمم تهمة الإرهاب على مجتمع العلم والدعوة كله، وهو الذي يواليه بل وينضم إليه غالب المجتمع فإنما تفتت وحدة المجتمع أبلغ تفتيت، وترسخ –بلا وعي- قدم الإرهاب في المجتمع، وتقوي ذراعه، حيث يظن من هو واقع في الإرهاب حقاً بدافع ديني –على فرض صدق التهمة- أن قاعدة المجتمع العريضة تؤيده، فيوغل في العنف، كما أنها تقدم الذريعة القوية للإدارة الأميركية لمزيد من الضغط على المجتمع وابتزازه في مرحلة عصيبة من تاريخه، فأي خير للمجتمع –يا أصحاب الهجمة- تجلبون، وأي شر تدفعون؟!.
وأما أنها هجمة تفتقر إلى الاتفاق وعدم التناقض فلأن هدفها المعلن الكف عن الإرهاب، ومحاربته، وتجفيف منابعه، وأسلوب هجومها يناقض ذلك أشد مناقضة؛ لأن مسلكها العدائي الصارخ لمجتمع العلم والدعوة، والاستعداء عليه، الواقع عن إصرار وتعمد ينبت الإرهاب، بل هو ممارسة لأشد أنواع الإرهاب أثراً، فهو من جهة يحفز إلى الإرهاب الدموي، بمحاولته توسيع دائرة الاتهام به، ليشمل أكبر عدد من المسلمين البرآء، فيوقد نار العداوة في قلوبهم، ويغريهم بالانتقام. ولا أدري كيف يعزب عن أصحاب الهجمة الصحفية معرفة ما يحدثه هجومهم من غضب عارم في أوساط المسلمين، وأوساط الشباب خاصة، وسنهم سن الإرهاب الذي يخشونه؟ وهذا الأسلوب من جهة أخرى ممارسة للإرهاب الفكري؛ حيث يستعدي السلطة على ذلك المجتمع لتوجه إليه سوطها الغليظ، فتحاصر رأيه، وتضيق الخناق عليه، وتسلبه حقه في معالجة المشاكل وفق ما يراه هو، لا ما تراه الصحافة، ولتعليمنا درساً في الحرية التي تلوكها كثيراً ألسنة المهاجمين، يلزم رئيس تحرير إحدى الصحف السلطة بأن عليها لتفهم خطاب ولي العهد وتعمل به (ألا تقبل استنكاراً للحدث تعقبه"لكن".. أو يكون مشروطاً بنقد العلمانية ..). هذا الإرهاب الذي يؤصله أدعياء الحرية أشد وأنكى من الإرهاب الدموي، يقول ربنا (والفتنة أشد من القتل). فإلى مجففي منابع الإرهاب دعوة صادقة أن لا ينسوا تجفيف هذا المنبع الفوار بطوفان الإرهاب الذي قد يغرق المجتمع.
ومع هذا الحظ الكبير في الفشل الذي ينتظر الهجمة فإن لها فرصة في النجاح، هي فرصة الباطل الضعيف في غلية الحق القوي، لن يكون إلا استثناءً، غير كامل، ولا دائم، وسيكون سببه السبب نفسه الذي ينعتق به اليهود -لفترة من الزمن- من ربقة الذلة المضروبة عليهم، المنصوص عليه في الكتاب العزيز (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس) وفرصة النجاح هذه وإن كانت قليلة النفع لأصحاب الهجمة، قليلة الضرر على أهل العلم والدعوة، إلا أنا نرجو الله ألا تتاح لهم، فلا يمتد إليهم حبل من الله، ولا من الناس، وإن كان امتد منه شيء فنأمل أن ينقطع بهم، ليتردوا من شاهق في درك الذلة الذي يستحقونه.
ولأن هذه الهجمة قدمت لنا مثالاً غير مشرف للصحافة العدائية التي تنتهك شرف الصحافة، وداست على أدب الحوار، وأغلقت نوافذه، وبينت لنا كيف يُعمي الهوى ويصم، فلا يبصر صاحبه النور، ولا يسمع الحق، ولا يقتفي أثره، وبينت كيف يذره صريع الحقد و"الكراهية" والبغضاء، فإننا نتذكر الاستجابة لأمر الله جل وعلا فنقول: (موتوا بغيظكم).
وبعد، فإن التحدي الحق الذي يواجه مجتمع العلم والدعوة ليس في كيفية مواجهة سهام من الشبه ترشقها يد قصيرة، ولا الجواب على ألفاظ السباب التي يتقيؤها كل همزة لمزة، ولكنه في كيفية صياغة وتقديم مشروع الحياة الكريمة الرائدة، الذي يستلهم من الإسلام الأهداف والمقاصد، وينفتح في رشد وهدى على الآليات والوسائل، ويساهم في صياغته، وتطبيقه، والدعوة إليه كل من تحقق فيه شرط الإسلام، ويعاديه من يعادي الإسلام فحسب.
فيا أيتها الهجمة المعادية ..
امضي في عدائك واستعدائك.. وكيدك ومكرك.. إلى المدى الذي ترسمين..
فلن يهول أهل العلم والدعوة هذا العداء..
لن يحول بينهم وبين النصح الذي دانوا به والإصلاح الذي قصدوه ذلك الاستعداء..
لن تهزهم عبارات الاستهزاء ..
لن يجرهم إلى معركة لا يقتنعون بخوضها ذلك الاستفزاز..
لأنهم يؤمنون بأن هذا كله مكر سيء سيحيق بأهله، وكيد شيطاني و(إن كيد الشيطان كان ضعيفاً)..
ولأنهم يوقنون بأنهم يحملون دعوة وعد الله حاملها بالنصر فقال:(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) وقد نصرها الله فيما مضى من الدنيا وهو الأطول، فلن يعجز أن ينصرها فيما بقي وهو الأقل..
ولأنهم يتطلعون إلى الانضمام في سلك من قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله)..
امضوا في رشق سهامكم.. فلسوف تلاقي حصوناً حصينة، لا أجساداً هزيلة، فهي - لا محالة- على متونها متكسرة.. (والعاقبة للمتقين).