تعالوا إلى كلمة سواء
17 ربيع الأول 1424
فقد وقعت في بلادنا خلال الأيام الماضية أحداث جسام، ومصائب عظام، وفتن تدع الحليم حيرانا، حيث تم الإعلان عن اكتشاف أسلحة وذخائر معدّة للتفجير، ثم انطلق الإعلام لايلوي على شيء، اتهاماً وسخرية وتصفية حسابات، ثم كانت ثالثة الأثافي حيث وقعت تلك التفجيرات التي هزت القلوب قبل الأجسام، وتسارعت الأحداث بشكل ينذر بخطر عظيم :
أرى خلل الرماد وميض نار | ويوشك أن يكون لها ضرام | |
فإن لم يطفها عقلاء قومي | يكون وراءها فتن عظام |
وانطلقت الأصوات هنا وهناك لعلاج ماحدث، وتدارك الأمر قبل فوات الأوان، واختلط الحق بالباطل، وتكلم المحق والمبطل، والصادق والكاذب، والعالم والجاهل، والسيد والرويبضة، كل يدعي الإصلاح، ويبحث عن المخرج، فأصبح الناس في هرج ومرج، تفوق آثاره تلك الإنفجارات المدمرة، وانطلاقاً من العهد الذي أخذه الله على أهل العلم كتبت هذه الكلمات ناصحاً ومشفقاً ومبيناً، دون أن أجامل أحداً، أو أكتم حقاً، فالوقت وقت الجد، ولانجاة إلا بالصدق، وقول الحق ولوكان مراً:
أولا: موقفي من هذه الأعمال، وتلك التفجيرات ليس وليد الساعة، ولاحديث اليوم، وليس ردة فعل قد يشوبها شيء من التعجل وعدم الاتزان، بل هو موقف أعلنته مراراً وتكراراً، قبل أكثر من عشر سنوات، وبينت أن هذا ليس هو طريق الإصلاح، وأؤكد هذا مرة أخرى فأقول عن هذه التفجيرات، وماتركته من آثار أنه عمل محرم، حيث ذهبت ضحيته أنفس بريئة، وانتهكت فيه حرمات مصونة، والله سبحانه وتعالى يقول في محكم التنزيل : (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة:32) وقال سبحانه: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93)، وقد ثبت عن المصطفى – صلى الله عليه وسلم – أنه قال كما روى جابر – رضي الله عنه – : "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" رواه مسلم . وفساد مثل هذه الأعمال أمر ظاهر بيِّن وجلي، ولاينفع في هذا المقام، ومثل هذه الأفعال التأويلات الفاسدة، ولا التعميمات الجائرة، فهل أضل الخوارج إلا مثل ذلك، ولايمكن أن يتم الإصلاح عن طريق الإفساد، فإن الله لايصلح عمل المفسدين.
ثانياً: اتهام الأبرياء، والأخذ بالظن والتخمين، ورمي المؤمنين بما لم يعملوا، وبهتهم بما لم يفعلوا، ظلم عظيم وإثم مبين، وعاقبته وخيمة، وآثاره أليمة في الدنيا والآخرة (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور:15) ولن يغني عنك من الله شيئاً أن تقول سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (النور:16).
واتهام الأبرياء أذىً ومنكراً، كما قال سبحانه: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب:58)، وقال سبحانه: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (النساء:112).
فحذار حذار من اتهام مسلم بريء دون بينة أو برهان، (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: من الآية111) فأمسك عليك لسانك، والسلامة لايعدلها شيء، كيف ولم يقبض على فاعل، ولم تعلن جهة مسؤوليتها عما حدث، (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام: من الآية164) و (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر:38) ولذا فليكن الحديث عن الفعل لاعن الفاعل، حتى نتبين ونتثبت التزاماً بقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6) وكما أن دماء المسلمين محرمة فأعراضهم مصونة، كما في حديث أبي بكرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) متفق عليه.
وكما جاء الإسلام بحفظ الدين والنفس والمال فقد جاء بحفظ العرض، فهذه فتنة نجاك الله منها، فلا تقع فيها بقلبك أو لسانك، والزم منهج السلف في السلامة من الفتن.
ثالثاً: العدل قديم لايبطله شيء، وبالعدل قامت السماوات والأرض، وأمر الله به عباده، وأنزله في كتبه وبعث به رسله (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (الأعراف: من الآية29) (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90) وقد أمر الله بالعدل مع المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المسجد الحرام وصدوهم عن المسجد الحرام فقال سبحانه: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) (المائدة: من الآية2) وقال سبحانه: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: من الآية8) وقد رأيت في كثير مما كتب وقيل اختلال هذا الركن العظيم، والبعض يفعل ذلك باسم الإصلاح، ودفع الظلم، وهو إفساد وظلم وشنئان والله لايصلح عمل المفسدين.
ومن مقتضيات العدل نصرة المظلوم، كما قال صلى الله عليه وسلم "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" .
وضد العدل الظلم، وقد حرمه الله على نفسه وجعله بين عباده محرماً كما في الحديث القدسي "ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا" .
فوطنوا أنفسكم على العدل، والتزموا به في الغضب والرضا، وحذار من الظلم، فإن عاقبة الظلم وخيمة، واتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.
رابعاً : ليس من حق كل أحد أن ينصب نفسه مفتياً وقاضياً، وحاكماً، فلكل أحد مجاله واختصاصه، وهذه الأمور العظيمة لو كانت في عهد عمر – رضي الله عنه – لجمع لها أهل بدر، وقد رأينا في وسائل الإعلام العجب العجاب، واختلاط الذهب بالتراب، فالكل يفتي ويحكم ويقضي، حتى رأينا سفلة القوم، وأراذل الناس يدلون بدلوهم، وتتصدر أقوالهم الصحف والإذاعات، وهنا تكلم الرويضة كما بيّن الصادق المصدوق، والمنهج الحق ترك الأمور لأهلها، وإعادة الحق إلى نصابه، التزاماً بقوله سبحانه: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83) وقوله سبحانه: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: من الآية59) وقوله سبحانه: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل: من الآية43) وقد كان الصحابة والتابعون يُسألون في أقل من ذلك فيقول قائلهم لاأدري، أو يقول اذهب إلى غيري فهو أعلم مني، ولو جاء مهندس وكتب وصفة لمريض لفزع الناس وأنكروا، فما بال شؤون الشرع وحقوق الناس ودماؤهم وأعراضهم أصبحت لكل غاد ورائح.
فيازمن العجائب أما آن لك أن ترحل، ويامدّعي الفروسية أما آن لك أن تترجل، فالأمر جدّ، والخطب عظيم: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ () وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ () يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) (المائدة: من الآية41) ، "فأمسك عليك لسانك وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك".
خامساً: لاشك أن لما حدث أسباباً ودوافعاً، وواجبنا جميعاً معالجة الأمر بحكمة وبصيرة، دون انفعال أو ردود أفعال، والأمر يحتاج إلى روية وبعد نظر، مع العدل والإنصاف، ودراسة الأمر دراسة موضوعية تُبنى على الحقائق والوقائع والثوابت، لا على الظن والحدس والتخمين، فضلاً عن اتهام الناس أو المؤسسات، أو الهيئات، فهذا لن يزيد النار إلا اشتعالاً، ولا النفوس إلا احتقاناً، ومن ثم يكون الانفجار المدوي الذي لن يسلم منه أحد، ومن هنا فإن مارأيناه من معالجة الأمر من قبل بعض من تصدى لذلك كان وبالاً، وشراً مستطيراً، وبخاصة أولئك المنافقين الذين سارعوا إلى اتهام العلماء والدعاة والصالحين، وثنّوا بمناهج التعليم التي خرَّجت رجالاً شهد لهم القاصي والداني، والعدو والصديق، طوال عقود مضت، وأزمنة خلت، وثلَّثوا بمنهج أهل السنة والجماعة الذي سار عليه أئمة الدعوة، وقامت عليه هذه الدولة قبل أكثر من ثلاثمائة سنة، وطفقوا يرددون أقوال أسيادهم من أهل الكتاب، وساروا على نهج أسلافهم من منافقي الأمس (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون: من الآية4).
وإذا ترك الأمر لهؤلاء، كما هو الآن، يقولون مايشاؤون، ويتهمون من يريدون، يزعمون الإصلاح وهم المفسدون (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (البقرة:12، 13).
فإن استمر الأمر على ذلك، فإن الأمر جدّ خطير، وستكون الفتن التي تأكل الأخضر واليابس، فإن الناس دون دينهم وعقيدتهم، وهناك ينفلت الزمام، ويتسع الخرق على الراقع، وعندئذ لاينفع الندم، ولا البكاء على الأطلال.
فحري بأولي الأمر، وأولى الأحلام والنهى، ومن استأمنهم الله على دين الناس وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم أن يوقفوا هؤلاء السفهاء عند حدهم، ويردعوهم عن غيهم، وإلا كان الهلاك والفساد والبوار، كما حذَّر العزيز الجبار (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الاسراء:16) وأي فساد أعظم من العبث بدين الله، والاستهزاء بالسنة، ولمز المؤمنين والصالحين (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (التوبة: من الآية65، 66) اللهم هل بلّغت؟ اللهم فاشهد ( ربنا لاتؤاخذنا بما فعل السفهاء منا).
سادساً : الجهاد ماض إلى قيام الساعة ، كما أخبر بذلك الذي لاينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فقال – صلى الله عليه وسلم: "لاتزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لايضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك" رواه مسلم.
فالجهاد ماض إلى يوم القيامة بعز عزيز، أو بذل ذليل، ومن مظاهر الفتنة الوقوع في أعراض المجاهدين، أو الطعن في الجهاد، أو النيل منه، أو تحميل أي خطأ يعمل باسم الجهاد عليه، وفي المقابل هناك من يرتكب أعمالاً يسفك فيها الدماء، وينتهك الحرمات باسم الجهاد، والجهاد منه بريء.
فالجهاد ليس عبثاً لكل غاد ورائح، وليس كل من ادعي الجهاد يسلَّم له، ولو يعطى الناس بدعاواهم لادعى أناس دماء قوم وأموالهم.
فالجهاد في سبيل الله له شروطه وموانعه وضوابطه، وقد بيَّنه الله في كتابه، وفصَّله محمد –صلى الله عليه وسلم– فيما ترك لنا من سنته، وجلَّى العلماء أصوله ومنطلقاته. وهناك جهاد الطلب، وجهاد الدفع، ولكل منهما دوافعه وضوابطه ومبرراته.
فالحذر الحذر من العبث بالجهاد، طعناً ولمزاً، فتلك صفات المنافقين، فإذا رأيت من أطلق لسانه في الجهاد أو المجاهدين فاعلم أن في قلبه مرض، (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) (المائدة: من الآية41)، وكذلك حذار من تبرير مايفعله بعض المتعجلين باسم الجهاد، وماذلك إلا من التأويل الفاسد، وقصور العلم والفقه في الدين، وعدم مراعاة قواعد المصالح والمفاسد، والمقدمات الخاطئة تؤدي إلى نتائج فاسدة، نعوذ بالله من الفتن ماظهر منها ومابطن.
سابعاً : إن من أسباب حلول سخط الله، ونزول عقابه،المعاصي والذنوب، والبعد عن شرع الله، وانتهاك الحرمات، وارتكاب الموبقات فما نزل بلاء إلاّ بذنب، وما رفع إلاّ بتوبة، والمجتمع الذي يرى المعصية فلا ينكرها، والذنب فلا يستقبحه، حري بأن يصاب بالبلاء والمحن والفتن، كما حل ببلاد كثيرة من بلاد المسلمين لما صدوا عن سبيل الله، وأعرضوا عن ذكره، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102)، (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام:47)، (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص: من الآية59).
والسلامة من المعاصي والذنوب، والأخذ على أيدي السفهاء، والقيام بواجب الإصلاح منقذ من عذاب الله، وأليم عقابه قال سبحانه: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود:117).
وصلاح بعض الأفراد دون القيام بواجب الإصلاح لايمنع من عقاب الله، كما في الحديث الصحيح: (أنهلك وفينا الصالحون، قال صلى الله عليه وسلم: "نعم ، إذا كثر الخبث".
وهذا الأمر الذي غفل عنه كثير من الناس -حتى بعض الصالحين- من أعظم أسباب ماحدث وكان، ونسأل الله ألاّيؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
ثامناً: الأمن مطلب شرعي، ومنّة إلهية، ونفحة ربَّانية، امتن الله به على عباده في مواضع كثيرة من كتابه كما قال سبحانه (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش:3، 4)، والمحافظة على الأمن مسؤولية الجميع حكاماً ومحكومين، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، والأمن ليس هو أمن الأجسام فحسب، بل هو أمن العقول والأبدان، وسدّ منافذ الشرّ، وأعظم سبب لحفظ الأمن هو الإيمان بالله، وتطبيق شرعه، والاحتكام إلى كتابه وسنة رسوله، والبعد عن الظلم العام والخاص، وعمدة ذلك هو التوحيد وخلوصه، وتنقية المجتمع مما يضاده، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:82).
والمحافظة على الأمن عبادة نتقرب بها إلى الله، كيف والضرورات الخمس كلها، تدل عليه وتقتضيه.
في ظل الأمن تعمر المساجد وتقام الصلوات، وتحفظ الأعراض والأموال، وتأمن السبل، وينشر الخير، ويعم الرخاء، وتقام الحدود، وتنشر الدعوة، وتطبق شريعة الله، وإذا اختل الأمن كانت الفوضى، وحكم اللصوص وقطاع الطرق، قال حذيفة رضي الله عنه: "فابتلينا حتى جعل الرجل منا لايصلي إلا سراً" رواه مسلم ويقول سبحانه: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسـَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: من الآية40).
فلنكن كلنا جنوداً في حفظ الأمن، أمن العقول والقلوب، وأمن الأجساد والأعراض، ولتحقيق ذلك لابد أن نبدأ في تطبيق شرع الله في أنفسنا وفي بيوتنا ومجتمعنا. وإلاّ فلنحذر من ذلك المثل (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112).
والأمن كلي لايتجزأ، فمن أخذ ببعضه وترك بعضاً فعاقبته إلى خسار وبوار (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)(الحج: من الآية18).
تاسعاً: وفي هذه المرحلة العصيبة يتأكد الأخذ بمنهج الوسطية، وتربية الأمة عليه، فهو المنهج الذي اختاره الله للأمة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: من الآية143) وهو المنهج الذي سار عليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم– وصحابته الكرام، والقرون المفضلة، إنه المنهج الوسط، منهج الخيرية (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110)، إنه منهج الاعتدال واليسر والتوازن، وسط بين الغلو والجفاء، بين الإفراط والتفريط، وليس هو منهج التنازل، والتساهل والإفراط، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
وفي ضوء هذا المنطلق والأصل العظيم نبيّن أصول التوحيد وفروعه، مبدأ الولاء والبراء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة:51).
فواجب العلماء والدعاة والمربين والآباء أن يربو الأمة على هذا المنهج – منهج الوسطية والتيسير "إنما بعثتم ميسرين" وقال –صلى الله عليه وسلم– :"يسّرا ولاتعسّرا"، وأن يبعدوا الأمة عن المناهج المنحرفة، التي تضاد منهج أهل السنة والجماعة مناهج الغلو أو الجفاء، ومناهج الإفراط أو التفريط (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153).
وبعد :
فإن الأمر أكبر من أن يحصر في كلمات أو صفحات محدودة، وإنما يحتاج إلى وقفة جادة، وبرامج مدروسة، تتجاوز ردود الأفعال، وتسخير الفرص لهذا أو ذاك، فمصلحة الأمة فوق مصلحة الأفراد أو الهيئات والمؤسسات، ولذا لابد أن يتنادى المخلصون إلى كلمة سواء، ويجتمعوا ويعتصموا بحبل الله ولايتفرقوا، وأن تكون الشورى وسيلتهم، والمنهج الحق بغيتهم، وتخليص الأمة من عدوها هدفهم، وإقامة شرع الله غايتهم، فإن فعلوا ذلك كان الفلاح والأمن والرغد، وإلاّ فلا يلوموا إلا أنفسهم (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف:96-99).
فخذوا الأمر بجدّ، واستغفروا ربكم وتوبوا إليه، وتضرّعوا بين يديه (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (لأنفال: من الآية33).
نسأل الله أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه وأن يرد كيد الأعداء في نحورهم، وأن يجعل الدائرة عليهم.