عندما تنقص أو تشح المعلومات الموثقة عن قادة الأحداث الجماهيرية المفاجئة، يلجأ بعض المحللين -تحت ضغط طلب الأجهزة الإعلامية بأنواعها المتعددة -إلى توجهاتهم وتحيزاتهم الشخصية الفكرية والسياسية، أو إلى التحليل الرغبي أو للتركيز على الأسباب الاحتمالية، لتعويض نقص المعلومات عما يجري، وهو أمر يجري عادة حين تكون الأجواء ملبدة بالتحركات الخلفية لدول خارجية -كما هو حال الدورين الإيراني والأمريكي في العراق -وحين تشتد الأزمات وتتعقد ويأتي لهيب الحركة الجماهيرية ليعيد ترتيب أوراقها.
مثل تلك التحليلات، هي أقرب إلى تحديد موقف من الأحداث ولا تقدم فهمًا أو رؤية بشأنها، وهي قد تسبب ضررًا شديدًا لحراك الشارع، إذ الجمهور العام يتأثر خلال الأحداث بالنظرة التي ينظر الآخرون بها لجهوده أو لدوره أو بالدقة لعطائه، إذ هو لا يخرج للتنزه بل هو يعرض نفسه لمخاطر حقيقية، وفي واقع الحال فإن هناك من المعادين للحراك الشعبي من يتعمد ذلك، يستخدم "سلاح التحليل لتشويه واقع الحراك الشعبي أو لإسباغ صوره غير حقيقية على الجمهور العام، ولعل ما هو حادث الآن من الحديث عن المندسين والمخربين وعن خروج المظاهرات عن مسارها السلمي أو وقوف إيران خلف ما يجري أو عن دور أمريكا...الخ، نموذج واضح لذلك.
هنا يجب اعتماد دليل وخريطة منهجية لتحليل المجرى العام للحدث، يتلخص الأهم فيه في أمرين:
الأمر الأول: هو تحديد العوامل الصلبة القاطعة الفاعلة في تحديد أسباب الأحداث، باعتبارها ما يشكل البيئة الحقيقية القادرة على إنتاج الحراك الجماهيري أو الغضب كما يقال، وفي العراق وأينما وليت وجهك، ستجد مئات الأسباب التي تدفع المواطن العراقي لا للتظاهر فقط بل للثورة، من قهر السلطة والميلشيات وأعمال الإعدام والقتل خارج القانون والتعذيب ومن الفساد والسرقات وانهيار الاقتصاد والخدمات والبطالة، وقبل هذا وبعده حالة الاحتلال التي تسلب من الإنسان شعوره بالعزة والاستقلال والحياة والحرية، عبر عملية سياسية أشبه بحكم وصراع المافيات..الخ.
وإذا تشبثنا بهذا الأمر، فإن كل حديث عن هذا الطرف أو ذاك يصبح حديثًا عن مفجر الحدث لا أكثر ولا أقل، ويصبح التركيز على مفجر الحدث لا أسباب الحدث محاولة للتغطية على الأسباب الحقيقية للحدث.
أما الأمر الثاني، فهو التمييز بدقة بين حركة الجمهور العام وبين العمليات الاستخبارية والإعلامية والسياسية المخططة التي تستهدف إعادة توجيه الحركة ودفع مجرياتها لتحقيق أهداف مضادة لمصالح الجمهور العام، بل مضادة ومعادية للأهداف التي خرج لأجلها المتظاهرون أو الثائرون.
أذكر هنا تصريحًا شهيرًا لرئيس الوزراء البريطاني السابق في بداية الربيع العربي، إذ قال: "نحن سندير التغييرات"، والقصد هنا أن يجري الفصل بين الدوافع والأسباب ولحظة تفجر الحدث من جهة، وبين محاولات توظيف الحركة الجماهيرية لخدمة أطراف معادية لها، وهذا هو الأهم الذي يجب التركيز عليه في التحليلات بجلاء ووضوح.
هنا بالتحديد يجب أن تكون الكتابات والتحليلات قاطعة في الفصل بين الحراك الجماهيري نفسه وبين أعمال غرف إدارة العمليات القذرة التي تسعى لتوظيف الأحداث - أو اعادة توجيه الفعل الجماهيري- عبر شبكة معقدة من المزج بين أعمال استخبارية وتغطيات إعلامية، تستبدل خلالها الحالة الواقعية والفعلية للدور الشعبي، بصورة أخرى تصنعها تلك الغرف وتسوق لها في الإعلام، وتحت هذا العنوان تأتي أعمال قطع الإنترنت والاتصالات عمومًا لمنع الحدث الحقيقي من الإفصاح عن نفسه، ولفتح المجال عبر الإعلام المتحكم فيه لتسيد الصورة المزيفة ووضعها في مكان الصورة الحقيقية، وبطبيعة الحال لا يزال الجميع يذكر كيف تعامل نوري المالكي مع مظاهرات المحافظات الست، التي ظلت تحتشد سلميًا طوال عام كامل، فيما هو يتحدث منذ اليوم الأول عن إيواء ارهابيين وعن حشد مسلح في داخلها، حتى وصل أخيرًا للاعتداء بالأسلحة الثقيلة على المتظاهرين السلميين تحت عنوان مكافحة الإرهاب.
هذا العامل في تحليل مظاهرات الوقت الراهن يحتل أهمية قصوى، إذ تلك الغرف متعددة بتعدد الأطراف المتدخلة في الأزمة الراهنة، ليس فقط على صعيد التدخل الخارجي بل على صعيد الأطراف الداخلية التي تخوض معركة دفاع عما نهبته وبحكم ما تمتلكه من أدوات إعلامية وأسلحة وثروات ومصالح متضاربة.
إن وظيفة التحليل هنا تتمثل في التركيز على الفصل بين الأسباب الحقيقية، من جهة ومفجر الحدث من جهة أخرى، وبين الصورة الحقيقية للحدث وتلك المصنعة بهدف توظيف الأحداث – عبر تغيير صورتها - لعكس ما خرج من أجله المتظاهرون أو الثائرون.
المصدر/ الهيئة نت