24 صفر 1439

السؤال

كيف أرد على قائل يقول: فيم التعب والمشقة إذن، إذا كان يتساوى الرجل يصبر على الشهوات طوال عمره، مع آخر يقع فيها ويمارسها ثم يأتي في نهاية أيامه فيتوب، فيتوب الله عليه، فيستويان؟!

أجاب عنها:
الشيخ أ.د. ناصر بن سليمان العمر

الجواب

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد:
فعندما تتزايد الفتن، وتتداعى على المجتمعات، تحتاج للثبات أمامها قلباً سليماً، قوياً، خالياً من الشبهات والشهوات، وهو القلب الذي أخبرنا سبحانه عنه أنه لن ينجو إلا صاحبه {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.

 

ومن علامة القلب السليم أنه مقبلٌ على ربه سبحانه يجد حياته ولذته في عبادته، ويجد سكينته وراحته في ذكره، ويسعى للفوز بالدرجات العليا من جنته، فهو يسابق غيره في الصالحات والطاعات..
 

وحول سؤالك، فهناك عدة نقاط:
فالله سبحانه مالك الملك، الحي القيوم، له الخلق وله الأمر، أمرنا بعبوديته، والتسليم لأمره، والرضا بقضائه، فقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.

 

فالعبد عليه ألا يتدخل في أمر الله سبحانه وملكه، فهو سبحانه الذي قدر المقادير، وهو سبحانه الذي أمرنا بالعمل {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، فقد وجب العمل كما أمر سبحانه، والواجب أن نثق بحكمة الله وعدله سبحانه.
 

وقد سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: "إذن ففيم العمل؟" - لما ذكر لهم القدر - فقال صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكل ميسر لما خُلق له" متفق عليه.
 

قال العلماء: إن معنى هذا أن الفعل والعمل وإن كان من العبد، إلا أن الله سبحانه وتعالى هو الهادي، وهو الذي يضل من يشاء، فإن من كتبه الله من أهل السعادة ييسر لعمل أهل السعادة، ومن كتبه الله شقياً فإنه ييسر لعمل أهل الشقاوة، وهذا ليس مشكلاً من جهة العقل، بل كما قال شيخ الإسلام: (إن جوابه صلى الله عليه وسلم هو أتم الأجوبة من جهة الشرع ومن جهة العقل).
 

وقال الإمام ابن عبد البر: وأهل السنة مجتمعون على الإيمان بهذه الآثار واعتقادها وترك المجادلة فيها، وبالله العصمة والتوفيق.
 

كذلك فإنا نسأل كل متشكك: من يضمن لك أن تعيش حتى تتوب؟ ثم من يضمن لك أن تتوب؟!
ألم يمت عدد من الناس وهم على معاصيهم يقترفون المعصية، أي ماتوا على ضلالهم وماتوا على انحرافهم؟!

 

بل لعلنا لو عرفنا حقائق هؤلاء الذين يعملون ثم يُختم لهم بالصالحات فغالباً نجد لهم سريرة سابقة كانت من أسباب هدايتهم تكون خبيئة صالحة أو عملاً صالحاً خفياً فيكون سبباً لهدايتهم {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}، {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}.
 

وانظر إلى قوله سبحانه عن يونس عليه السلام: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.. الآيات}، فانظر كيف نفعت يونس عليه السلام سابقة الخير والصلاح..
 

كما أنه ثابت نقلاً وعقلاً أن الذي يعمل طوال حياته صالحاً، فلا شك أن له درجات أعلى قطعاً، ممن يعمل أقل، فلماذا لا يبحث المؤمن عن الدرجات العلى، وفي الحديث: "سلوا الله الفردوس الأعلى"..
 

واقرأ قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، فلا تقل: في المستقبل، بل الآن مباشرة، وحتى يأتيك اليقين؛ لتكون حياتك كلها عبادة لله سبحانه وتعالى.
 

أما من جهة العصاة، فالإسلام يفتح لهم الباب للتوبة، ويفسح المجال للعودة، ولا يقتل أمل الآملين في الله، بل يأمرهم بقوله تعالى: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
 

لكنه دائماً يحذر أهل العصيان من الاستدراج، والغفلة، والتمادي، ونسيان أنفسهم، فقد يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وعندها يكون الندم البالغ يوم لا ينفع الندم.. قال سبحانه: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.