هموم حول بحوث الترقية (2 /2)
16 جمادى الأول 1438
د. عمر بن عبد الله المقبل

بعد أن نشرت مقالي الماضي وردتني من مشايخي وزملائي كلمات تدور على أمرين رئيسين:

الأول: التأييد لما تضمّنَه.

والثاني: التحفُّظ على وصف "ضعف البحوث" بأنه يشكّل ظاهرةً، وأن هذا فيه مبالغة.

واقترح بعضُهم: التركيز على موضوع "السرقات العلمية"، فهو الذي فيه فشوٌّ وظهور.

 

وبقدْر سروري بقراءة هؤلاء الكرام لهذا المقال؛ فإنني أشكرهم على هذا التواصل، الذي يُثري هذه المقالات، ويَلفت الانتباه إلى ما تضمَّنتْه، بغض النظر عن الموافقة والمخالفة، ومع وافر الاحترام لوجهات نظر كل واحدٍ منهم.

 

وأودّ أن أُضيف ههنا شيئاً، وهو أن ما ذكرتُه مِن تنامي ظاهرة "الضعف العلمي" في مضامين بحوث الترقية؛ لم يكن رأياً فردياً، بل وافقني عليه عددٌ من الزملاء في تخصّصات شرعية وغير شرعية، ولم أكتبه إلا بعد أن حكّمتُ قرابة الأربعين بحثاً من بحوث الترقية، وردتْني من عدة جامعات وكراسي ومراكز بحثية، فلمستُ ما ذكرتُ.

 

ونظراً لأن بعض الأفاضل ظَنّ أن في كلامي مبالغة؛ فإنني مضطرٌ لإيراد بعضِ الأمثلة من بحثٍ واحد وردت فيه عشرات الأخطاء والأوهام؛ ليعذرني من وَصف ما ذكرتُه بالمبالغة:

المثال الأول: نقل الباحث في سياق ترجمة علي بن زيد بن جدعان أن "الإمام يحيى القطان كان ينتقي حديثه عن علي بن زيد"، وبالرجوع للمصدر الذي أحال إليه نجد العبارة: "يتقي الحديث عن علي بن زيد"، وكم بين العبارتين مِن فرق! ولا تظن أن العبارة متصحِّفة في المصدر الذي أحال عليه؛ بل هي صحيحة، ولو فرضنا أنها مصحّفة، فأين دور الباحث في تلمّس هذا التصحيف الذي لا يَخفى على من عرف حال علي، وشدّة يحيى في النقد؟!

 

المثال الثاني: نقل الباحث عن ابن مهدي قوله في أحد الرواة: "حديثه عن الحجار بن مقارب" هكذا، ثم انتهى النقل، وبالرجوع إلى المصدر الذي أحال إليه نجد أن صواب العبارة: "حديثه عن الحجازيين مقارب"، ولو افترضنا أنها قد تصحَّفت في المصدر؛ فلا بد أن يكون للباحثين دورٌ في اكتشاف الخلَل، فالجملة بدأت بالمبتدأ، ولم يأت الخبر، إذن فلا بد من وجود خلل في النقل.

 

كلّنا ذو خطأ، ولا يَسْلم مِن وهْم، لكن من الأخطاء ما لا يُحتمَل، وهي ـ على طريقة بعض النُّقاد من المحدّثين ـ قد تَقضي على حديثِ الراوي كلّه.

 

والإنصاف يُحتّم عليّ أن أقول: إن البحوث الجيدة - التي فيها إضافات علمية - كثيرة ولله الحمد، وهذا هو المأمول والمرجو من باحثٍ مرّ بتجربة الماجستير والدكتوراه، ويُنتظر منه الإثراء والإضافة للتخصّص، بعيدًا عن دعوى الكمال أو المثالية.

 

وإذا كان الحديث عن التساهل في فحص "بعض البحوث"، فيقابل هذا: تشدّدٌ وتعنّتٌ مِن بعض الفاحصين في التقييم، ورصد الملاحظات، فثمَّة مَن يُبالغ في معايير الإضافة للتخصص، والتميز في البحث، مع أنها مسألة نِسبية.

 

بل مرّ بي نماذج تدلّ على أن الفاحص ـ مع تعنُّته ـ إلا أنه يكتب بنَفَس يَشعر معه المنصِف أنه كتب ما كتب دون تأمُّل وتروّ؛ إذ ذَكر أحدُ الإخوة أنه قدّم شرحاً لمتنٍ مشهور جدًا، ليكون وِحدة من وحدات الترقية المطلوبة، وقد كُتب على الغلاف اسم الشرح، واسم صاحب المتن المشروح، واسمُ الشارح بفاصل بيّن وهو: تأليف فلان بن فلان، فتعقَّب هذا الفاحصُ ما كُتب على الغلاف بأن القارئ لا يَدري لمن المتن، ولا لمن الشرح!! وأردفَ ذلك بقوله: لا جديد في الكتاب! بينما قال فاحصٌ آخر لنفس الكتاب: أقترح أن يُدرَّس في الجامعات؛ لسهولة أسلوبه، ومحافظته على اللغة العلمية، إلى غير ذلك من المزايا التي عدّدها.

 

ومما يُكدّر النفسَ: أن تَصدُر بعضُ العبارات التي لا تَنبغي من الفاحص للباحث! ومن ذلك قول أحدهم ـ لما رأى لحناً نادراً لا يَكاد يَسلم منه أحد ـ: "هذا خطأ لا يَصدر من طالبٍ في رابع ابتدائي"! وشدّد النكير على بعض التصحيفات النادرة، التي لا يكاد يسلم منها بحث، ولك أن تتصور أن ما يكتبه هذا الفاحص موجّه لأستاذٍ جامعي مثله!

 

وأطلعني أحدُ الزملاء على تعليقٍ لأحد الفاحصين على بحثٍ له، وفيه: ليس في البحث أي إضافة ولا جديد فيه! مع أن البحث ـ بيقين ـ لم يُكتب فيه من قبل، وبغضّ النظر عن قناعة الفاحص بالمضمون؛ فأين الإنصاف؟! ما ضرّه لو شكر الباحِث على البدء بالكتابة في هذا الموضوع، وأن له على البحث بعض الملاحظات؟

 

وذكر لي زميلٌ آخر أن الفاحص اتّهمه بالتدليس والتلبيس، وأنه يوهِم القارئ بأن المعلومات المحال على مصادرها موجودة فيه وهي ليست كذلك، مما يدل على أنه يَنقل عن غيره! هكذا قال الفاحص، مع أن المعلومات بلفظها موجودة في المصدر!

 

وزميل رابع يقول: إن الفاحص عتَب على المجلة كيف تَقبل مثل هذا البحث، دون إبداء ملحوظات علمية تُذكَر!

 

والأمثلة عندي كثيرة، لكن أردتُ أن أُبيّن أن التعنُّت أو رمْي التُّهَم موجود عند بعض الفاحصين، دون دليل وبرهانٍ علميٍ واضح.

 

وأخطرُ شيءٍ في هذا الباب ـ والذي يجب الحذرُ منه ـ دخولُ الهوى في الفحص، خاصةً أن اسم الباحث مكشوفٌ عند فحص البحوث، وقد يكون بينهما اختلافٌ في بعض المسائل العلمية أو المنهجيّة، والله تعالى يقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[المائدة: 8].

 

ومن جميل ما خطّته يراع العلامة المعلمي ـ رحمه الله ـ حين تحدَّث عن بعض مسالك الهوى الدقيقة، فقال: "ولم يكلَّف العالِمُ بأن لا يكون له هوى؛ فإنّ هذا خارج عن الوسع، وإنما الواجب على العالِم أن يفتِّش نفسَه عن هواها حتى يعرفه، ثم يحترز منه، ويُمعِنَ النظرَ في الحق من حيث هو حق؛ فإن بان له أنه مخالفٌ لهواه آثرَ الحق على هواه...، والعالِم قد يُقصِّر في الاحتراس من هواه، ويُسامح نفسَه؛ فتميل إلى الباطل، فينصره وهو يتوهّم أنه لم يخرج من الحق ولم يُعادِه! وهذا لا يكاد ينجو منه إلا المعصوم، وإنما يتفاوت العلماء، فمنهم من يَكثُر منه الاسترسال مع هواه ويفحُش، حتى يقطع من لا يعرف طباع الناس ومقدار تأثير الهوى بأنه متعمِّد، ومنهم من يقِلُّ ذلك منه ويخِفُّ"([1]).

 

والمقصود من هذا المقال والذي سبَقه: التواصي بالخير، والدعوة إلى الاجتهاد في فحص البحوث بقصْد النصح، وعلى جادة العدل والإنصاف؛ قياماً بأمانة العلم وواجب النصيحة، مع لزوم الأدب العلمي، والعبارات التي تحقِّق المقصود، وتقرّب ولا تنفِّر، وترتقي بالبحوث للمستوى المأمول، والله المستعان.

 

___________________________________________

([1]) التنكيل (2/197).

 

* المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور عمر بن عبد الله المقبل