لقد أخذ الفيلم الكرتوني الشهير «توم وجيري» شهرةً واسعةً وأجمع على حبه ومشاهدته عدة أجيال. ومع التقادم زادت محبته لشريحة واسعة من الأطفال بل حتى من الشباب والكهول الذين ينظرون إلى طفولتهم عبر متابعة حلقاته التي لا ينتهي فيها الصراع الدائم والأبدي بين الفأر الوديع والقط الشرير. أو هذا هو ما تم زرعه فينا على مدى سنوات وبقيت تلك الفكرة راسخة غير قابلة للبحث والنظر، غير أن المتمعن بدقة في هذا “الفيلم الكرتوني” سيرى شيئًا آخر فيه خطورة مرعبة على أولادنا و أبنائنا وتهديدًا شديدًا على أفكارنا ومعتقداتنا، فلو كان منتجه يبتغي بذلك إضحاك الأطفال وتسليتهم لكانت غاية ساذجة، وإن جنى من ورائها ما جنى من الأموال الطائلة من خلال توزيعه على جميع أقطار العالم،بل كانت الغاية أكبر مما يتصوره حتى الحذاق من الناس.
الحبكة الملتوية
المعروف من قصة “توم وجيري” أن القط توم -وهو ملك لصاحبة الدار السوداء- وُضِعَت على عاتقه مسؤولية حماية البيت من الفأر الدخيل الذي يعيث فيه فسادًا، فالأصل أن يكون القط هو المحمود والممدوح على محاولاته المتكررة لردع الفأر، لأن القط هو صاحب حق الدفاع عن الممتلكات، وفعله هذا واجب عليه مادام الفأر حيا يرزق.
غير أن المشكل الكبير هو أنه عند انتهاء كل حلقة يخرج الأطفال فرحين منبسطين لأن القط الغبي لم يقدر ولا مرة على إمساكه، وهكذا مرارًا وتكرارًا وعلى مر الأيام ترسخ فكرة هدامة، أن المحتل وإن كان نجسا نجاسة الفأر فهو أحسن بكثير من الذي يصارع ذاك الإحتلال ويعمل جهده لإخراجه وإن كان طاهرًا طهارة القط [1]،بل الأدهى والأمر أنه في بعض الحلقات يستسلم القط لذكاء الفأر فيقبل بشروطه حتى يصير صديقًا حميمًا له، بل ومتعاونين مرات على بعض القطط التي تريد أن تسترزق من البيت، هذا ما يريده غيرنا أن نقبل به في آخر القصة.
لقد أطلق المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي رحمه الله نظريته المشهورة التي شرحها في كتابه (شروط النهضة)[2]، إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر. عُرِفت نظريته باسم قابلية الاستعمار ، إذ يقول في مقدمته على كتاب آثار العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله تعالى صــ 11:
لقد تغير الزمان: فالاستعمار وقابلية الاستعمار غيرا كل المعطيات في الجزائر كما فعلا ذلك في سائر البلدان الإسلامية.
هذه الكلمة الموجزة في عباراتها تختزن معاني جليلة في طياتها؛ وهي أن البلدان الإسلامية من مشرق الأرض قد فرض عليها أمران سماهما بالمصطلح الرياضي “المعامل”:
المعامل الأول: وهو المعامل الاستعماري وبتعبير أصح، الاحتلال العسكري الذي يجر من ورائه احتلالاً اقتصاديًا وفكريًا ومَثّلَ له بما فعله الجنرال الفرنسي والحاكم العسكري “بوجو bugaud” في الجزائر بعد أن رأى المستوى المعيشي والفكري للشعب الجزائري. إذ قام بإيجاد بديل لمركبات المجتمع الجزائري بآخرين من المستعمرين الأوروبيين سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، أعطوهم جميع الصلاحيات لتكوين ثروات عن طريق قوانين ومواثيق إجبارية، نتج عنه تفقير السكان الأصليين الذين صار اسمهم فيما بعد بالأهالي “Indigènes”.
وهذا لم يكن له مثيل في التاريخ حسب علمي، إلا مع الهنود الحمر الذين صاروا غرباء في وطنهم إلى الآن في أمريكا، فصار المكون الأصلي تابعًا للمكون الخارجي خادمًا له، بانيًا لمصالحه. مع أن الفرنسيين -مع كونهم أقل درجةً في المستوى الحضاري- ولأول لحظة من دخولهم للجزائر وحتى قبل ذلك في مصر كانوا ينشرون في الناس أنهم ناس حضارة ويريدون إخراج هذه المجتمعات من أوحال التخلف الناتجة عن الحكم الطويل للاحتلال العثماني -زعموا- لهذه المناطق. وهذه نفس الأسطوانة التي تدور مع كل استعمار جديد لبلاد الإسلام، مع تغيير طفيف في الخطاب وذلك بوضع مادة الإرهاب مكان التخلف والجهل.
يرى مالك بن نبي أنّ هذا الاستعمار و إن كان هو سبب تخلف العالم الإسلامي، لأنه يخدع ضعفاء النفوس ويخلق في أنفسهم رهبةً ووهمًا، ويشلهم عن مواجهته بكل قوة [3]، لكنه -أي الاستعمار- سببٌ في حد ذاته للخروج من هذه المعضلة الكبيرة والمشكلة العويصة؛ فكأنه شكّل ردة فعل، ولهذا قال:
… والتاريخ قد عوّدنا أن كل شعب يستسلم للنوم، فإن الله يبعث له سوطًا يوقظه.
المعامل الثاني: وهو معامل داخلي نابع من باطن الفرد، وهو معامل قابلية الاستعمار، وهو أخطر من الأول، ويؤدي بالأفراد والمجتمعات بجميع طبقاتها إلى قبوله والرضى به، بل وتصيير القوى الداخلية من العلماء والمفكرين والدعاة والمصلحين مدافعينَ عنه أشد مما يقوم به أهله، منافحين عليه بأكثر مما يريده أهله، وهذا الدور قد قام به العملاء السياسيون والجواسيس والخونة من بني جلدتنا أثناء استيطان الدول الغربية الكبرى لبلاد الإسلام.
فقد كان هؤلاء ينضمون للجيوش والمنظمات العسكرية، ويؤدون المهمات العسكرية بأبشع مما يقوم به المحتل، غير أن دور الجيل الثاني من العملاء الذين يظهرون للعلن بأزياء متعددة، طبيب أو صحفي أو مفكر وحتى شيخ بلحية وقميص وعمامة، يظهرون على الشاشات ويتلقون الأجور الغاليات وتوضع تحت تصرفهم جميع الإمكانات.
بمقارنة فعل المثقفين والإعلاميين والعلماء والمشايخ مع ما حدث للقط “توم”، نلاحظ أن الفكرة قد نجحت أيما نجاح وانتشر تطبيقها، حتى صار المدافع عن دينه وبلده وأرضه وعرضه مجرمًا في عرف القانونيين، خارجًا في عرف المتلبسين بالدين، متمردًا عند الوطنيين.
إن قابلية الاستعمار قد تكلم عنها مالك بن نبي في العصر الحديث والمعاصر على أنها داء حديث النشأة، لكن من يقرأ التاريخ ولو قبل 500 سنة سيلاحظ أن المسلمين لا يزالون متأخرين بهذا القدر من الأعوام والسنين، وأن هذا الداء قد شاخ فينا وتغلغل في عروقنا، فإن الاستعانة بالكافر كنموذج لهذه القابلية ظهرت في أقوام بظهور الدولة العثمانية، وبخاصة في الناحية الغربية لحوض البحر الأبيض المتوسط، الذي كان يعج بالصراعات الداخلية لغياب نظام مركزي يسيطر على الأوضاع الداخلية. وانتشر هذا الأمر في كل من الإمارات الأربع لمغرب الإسلام: المغرب الأقصى والجزائر وتونس وطرابلس الغرب.
و ما أشبه اليوم بالأمس، قابلية الاستعمار بين الأمس واليوم
تكرر هذا المشهد كثيرًا، وقد أُعيدت صياغته مرة أخرى في إبادة حلب وأهلها من خلال عمليات القصف المروعة والمتتالية من طرف النظام النصيري وحلفائه الروس والفرس، وكذا خروج بعض الأطراف في مباركة هذه الإبادة، هذه الأطراف التي كانت متصارعة ومتنازعة سياسيًا وأيديولوجيًا من قوميين عرب وبربر وأكراد وعلمانيين وبعض مدعي الإسلام الوسطي وحكام ومحكومين. بل إن قابلية الاستعمار هذه تعدت إلى الكثير من الفصائل التي حملت راية الجهاد والثورة ضد الظلم، ففرت من محتل إلى محتل آخر يحمل صيغة أخرى، مما يلخص الأزمة الخطيرة التي نعيشها.
وبما أن نفس المقدمات تؤدي إلى نفس النتائج؛ فإن الاحتلال العسكري للدول الإسلامية سيعود مرة أخرى، مع أننا كنا نرى أن تجربة العراق وأفغانستان قد أعطت مثالاً واضحًا لفشل هذه العمليات، وأن الدول الكبرى سوف تنتهج أسلوبًا آخر وأنها لن تقع في الفخ مرة أخرى بجر نفسها لمعركة برية لا يحمد عقباها تعود عليها بنتائج سلبية من الناحية العسكرية والاقتصادية والسياسية.
غير أن ما يحدث في بلاد الشام، من احتلال ثنائي وتحالف دولي ضخم على الموصل والمناطق السنية التي يسيطر عليها تنظيم الدولة سيعيد نفس الطرح، لا لكون الدول المحتلة قوية أو جاهزة لأمر كهذا أو لأن قوتها لا ترد، وإنما لحتمية الفراغ الذي تعيشه هذه المنطقة برمتها وعدم وجود قائد فعال يرد كيد هؤلاء، و قابلية الاستعمار لبعض الاتجاهات السياسة في المنطقة لهذه الحملات العسكرية.
لقد عاش المسلمون هذا الفراغ نفسه في القرن السادس عشر الميلادي، وقد مُلِئَ اضطرارًا بقوة عظمى كانت تسير في عكس ما تريده الدول القومية الكبرى المطلة على البحر المتوسط، مما يوضح لنا أن ما نعيشه وإن كان مشابهًا لحد بعيد في ظاهره لكنه أسوأ بكثير مما يظهر للعيان. فمن يأتينا بدولة بحجم الدولة العثمانية لرفع هذا الأثقال عن كاهل المسلمين؟
قد يتجه بعض المحللين -خاصةً من يحملون توجها إخوانيًا بسبب أحداث مصر- أن تركيا ممثلةً بحزبها الحاكم – العدالة والتنمية، ورئيسها رجب طيب أردوغان هي من ستقوم بهذا الدور الرئيسي، وأن ما على الأمة إلا أن تقف صفًا واحدًا معه وتضع يدها بيده لقيادتها نحو الأمن المنشود. لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه عليهم ربما سيسهل لنا فهم السياسة المنتهجة فيما إذا كان هذا الذي يقول ويصرح بملأ فيه أنه حفيد أولئك الأوائل الذين أرعبوا أوروبا لثلاثة قرون قادر على التملص من التحالفات العسكرية والاستراتيجيات الحديثة في سبيل إعادة هيبة الأمة وتوحيدها تحت راية واحدة ويضع كل هذه العوائق وراءه في سبيل الهدف المنشود؟
أم أن أهداف الأمة ملغاة مقارنة بأهداف الدولة القومية الحديثة ومصالحها العليا التي تتحكم في توجهها؟!
وما يمكننا قوله باختصار أن الزمن والمستقبل هو الكفيل لمعرفة مدى تخلص الشعوب والحكومات من هذه القابلية، من خلال رد فعل قوي لا يعتمد على أي قوة خارجية تستغل كل هذه الحركات الارتدادية لصالحها.
المصدر/ أمه بوست
ــــــ
1.الحديث الذي رواه الأربعة عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: “إنها ليس بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم” الحديث.. فهو يدل دلالة تامة على طهارة القط.
2.شروط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، طبعة دار الفكر، سنة 1984،صــ 143
3.شروط النهضة، صــ 151