15 شعبان 1438

السؤال

أعاني من رهاب اجتماعي وعزلة عن الناس، وضعف كبير في صلتي بالناس حتى أقربهم إلي، ولي محاولات للعلاج النفسي استمرت إحداها لعام كامل ولم أجد الفائدة المرجوة.

أجاب عنها:
د. صفية الودغيري

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

فأما بعد:

أخي السائل الكريم، بداية أشكر لك ثقتك بموقع المسلم، وطرحك لاستشارتك، أما بالنسبة لمشكلتك فألخصها فيما يلي:

ـ الشعور بالرهاب الاجتماعي والرغبة بالعزلة عن الناس..

ـ الشعور بالعجز والضعف في التواصل الاجتماعي..

 

وهذه المشكلة يتعرض لها الأشخاص الذين يعانون عادة من الخوف الزائِد عن الحد الطبيعي، والشاذ عن الخوف الفطري الذي هو من خصائص الطبيعة الإنسانية، فيتسبب ذلك في الإصابة بمرض "الرهاب" الذي يؤثر سلبا على المُصابين به، فيصيبهم القصور في التواصل الاجتماعي، والفتور عند أداء بعض الأنشطة والوظائف، والميل إلى الوحدة والعزلة..

 

ومن النصائح والإرشادات التي أقدمها لحل مشكلتك ما يلي:

 أولا: عليك أن تُوَثِّق علاقتك بالله، وتُقَوِّي صِلَتك به سبحانه، وتَهْتدي بهَدْيِه ومنهاجه، فهو من سيمنحك الدَّعْم النفسي الحقيقي، وذاك عن طريق:

ـ الالتزام بورد لقراءة القرآن، وورد للحفظ مع التَّدَبُّر، والالتزام بأذكار الصباح والمساء، وسائر الأذكار المأثورة والصحيحة، والإكثار من الاستغفار، لما للذكر من آثار طيبة على النفس، وما تبعثه من السكينة والطمأنينة والراحة النفسية، والشعور بالسعادة مصداقا لقوله تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ سورة الرعد: 28.

ـ والمواظبة على أداء الصلوات المفروضة في وقتها، والحِفاظ على حضور صلاة الجماعة في المسجد، وبهذا تكسر أول حاجز للعزلة، وتتحدى الفتور والضعف النفسي، وهو أنجع علاج للخروج من عزلتك، ومواجهة خوفك وهلعك وقلقك..

ـ والتَّواصُل الدائم مع الناس في خمس صلوات، يجعل قلبك فارغاً من هموم الدنيا وعامِرًا بذكره وعبادته، مصداقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) ﴾ سورة المعارج.

والتزاما بما أوصى به الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث أرشده إلى الإكثار من التسبح والسجود لما في ذلك من الخير والسعادة وانشراح الصدر، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾ سورة الحجر.

ـ والتَّحَلَّى بالصِّفات الإيمانية والفضائل الإسلامية التي ذُكِرت في تتمة الآيات السابقة في سورة المعارج: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ (35) ﴾.

فكلما أدركت درجة من الايمان والتقوى، ستفيض عليك العَطايا والهِبات والكرامات، وستجْني السعادة الحقيقية..

ثانيا: عليك أن تُمَرِّن نفسك على تَنْشيط وتَنْبيه الذِّهن، حتى تنفصل عن ذاك الخطاب الداخلي الذي يجعلك تشعر بالخوف من التواصل مع الآخرين، وبالتالي تتصدى لتلك الأفكار والتَّخَيُّلات التشاؤمية التي تتحرَّك بداخلك، والتي تُصَوِّر لك المشاهد في الواقع قبل حُدوثِها، وتُقَدِّم النتائج وتحللها خِلافَ الواقِع والحقيقة، وهذا من شأنه أن يُحَرِّرَك من العًزوف عن مقابلة الناس، ويجعلك في مراقبة دائمة لتفكيرك الشخصي، فتصبح أنت من تعالج نفسَك بنفسك، وتمارس وظيفة الطبيب النفسي، تُصْغي لحديثِك وخواطرك، وتنقدها وتقومها وتصحح أخطاءك..

ثالثا: عليك أن تُعالج تفكيرَك السلبي، وذلك بأنْ تُعاكِس ما تُحَدِّثُك به نفسك، وتُخالف تَصَوُّرَك الخاطئ لما قد يحدُث، وتُواجِه ما يُرْهِبُك ويُخيفك، فالمُواجهة هي سِلاحُك الذي به تنتصر على مخاوفك، وتهزم به عَدُوَّك النفسي، وتتحَرَّر من الرهاب الاجتماعي..

رابعا: إنَّ مفتاح التَّغَلب على معاناتك النفسية هو بين يديك، وطريقُك الموصِل إليه هو مُغالبَة ضعفك والانتصار على خجلك، ومقاومة مشاعر الخوف التي تمنعك من التواصل مع الناس ومع أقرب الناس إليك، وطرد الأفكار الخاطئة التي تسيطر عليك، فكلما تَعرَّضْت للمواقف الاجتماعية التي تخشى مواجهتها، ستشعر تلقائيا أن حجم مخاوفك بدأ يتقلَّص، وثقتك بنفسك تزداد وتتضاعف يوما بعد يوم..

خامسا: بدل أن تجعل تفكيرَك يقودك إلى طريق الخوف المَرضي، اجْعله يَنْقاد إلى سلطة العقل المنطقي الذي يتساءل ويجيب، ويُحَلِّل ويُناقِش بصورة صحيحة، ويميِّز بين الصَّواب والخطأ، ويصِل إلى نتائج وحلول وبَدائِل مُرْضِيَة، تستنِد إلى الدَّليل والمنطِق، والتَّجربة، فالعقل هو الميزان المُحْكَم الذي يجعل الإنسان مُتوازِنا ومعتدلا في أفكاره، وسديدًا في آرائه، وهادِئا في انفعالاته، ومستقرا نفسيا وعاطفيا، ذلك أن التفكير السلبي غالبا ما يركن إلى العاطفة المتأجِّجة، والشعور المنفصِل عن توظيف العقل المُتَّزِن وطرح التساؤل بطريقة صحيحة، والإحساس المُغالي في الاحْتِكام إلى نظرة الناس، والاهتمام الزَّائِد بآرائهم وانتقاداتهم وأحكامهم على السلوك والمعاملات..

وختاما:

عليك أن تدرك ـ أخي الفاضل ـ أن الشجاعة هي نعمة عظيمة، فإن عَوَّدت نفسك على المواجهة والمقاومة، والصمود في وجه كل فكرة خاطئة، وكل ما يشعرك بالخوف أو القلق، ستمتلك الثقة بنفسك، وستشعر بالقوة والقدرة على التواصل..

واعْلَم ـ أخي الفاضل ـ أن المؤمن القوي أكرم عند الله من المؤمن الضعيف، ومن ملأ قلبه باليقين والخوف من الله تعالى، فقد كل شعور بالضعف والهزيمة، وسقط أمامه كل خوف يُراوِده، وذهب عنه كل شعور بالرهاب، والقلق، والجزع..

أسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يشفيك شفاء تاما لا يغادر سقما، وأن يمتعك بالقوة والسلامة من العلل والأسقام، وأسأله سبحانه أن يملأ قلبك باليقين والإيمان، ويرزقك الطمأنينة والسعادة في الدنيا والآخرة..