حسرات من نوع آخر
16 محرم 1438
د. عمر بن عبد الله المقبل

في النصف الأول من عام 1420هـ كنت في زيارة للأردن، ولعاصمتها عمّان تحديداً، فعزمت على رؤية الشيخ العلامة، محدِّث العصر ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ، وبعد جهدٍ جهيد وصلتُ إلى بيته في "ماركا الجنوبية"، وكم كانت فرحتي حين رأيت اسمَ الشيخ على البيت بنفس الخط الفارسي التعليق (محمد ناصر الدين الألباني)!

لكن هذه الفرحة سرعان ما تبددت حين باءت محاولاتي بالفشل مع أهل بيته ـ وأنا ألتمس الدخول عليه ـ حيث اعتذروا بمرضه، وعدم إمكانية الدخول عليه.. لم يشفع لي إخبارُهم أنني قادم من السعودية.. ولا أنني سأسافر قريبًا.. ولا شيءٌ من تلك التوسلات التي لم يدفع إليها إلا الحبُّ الكبير لهذا العالم الجليل.. وبعدها بأسابيع قليلة، وإذا بخبر وفاته! رحمه الله ورفع درجاته، وجمعنا به في عليين.

تذكرتُ موقفي هذا، وتذكرتُ معه تلك الحسرات التي زفرتها قلوبُ المحبين، والكلمات الصادقة التي ترجمت مكنونات الأفئدة، لأولئك الأعلام الذين رحلوا ليلقوا علماءَ أكابر فسبق القدَر؛ فحال بينهم وبين لقائهم هادمُ اللذات، ومفرّق الجماعات.

ومن أكثر المواقف التي تقطر حُزناً في التعبير عن هذا المعنى: ما سطّره عبدالله بن حامد الشافعي، في رسالته لابن رُشيّق ـ رحمهم الله ـ في التعبير عن أسَفه على فوات لقاء شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث يقول: "ولما حججتُ سنة ثمان وعشرين وسبعمائة صمَّمت العزمَ على السفر إِلى دمشق لأتوصل إلى ملاقاته، ببذل مهما أَمكن من النفس والمال للتفريج عنه، فوافاني خبرُ وفاته - رحمه الله تعالى - مع الرجوع إلى العراقِ، قبيل وصولي الكوفة! وجدتُ عليه مالا يجده الأخ على شقيقه - استغفر الله - بل ولا الوالد الثّاكِل على ولده، وما دخل في قلبي من الحزن لموت أَحدٍ من الولد والأقارب والإِخوان كما وجدته عليه - رحمه الله تعالى - ولا تخيّلته قط في نفسي ولا تمثّلتُه في قلبي؛ إِلا ويتجدد لي حزنٌ قديمُه كأنه مُحدَث، ووالله ما كتبتُها إلا وأَدمعي تتساقط عند ذكره أَسفًا على فراقه وعدم ملاقاته، فإنّا لله وإنّا إِليه راجعون، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"([1]).

ومن أشد اللحظات التي يستشعرها الإنسانُ ـ وهو يتذكر هذا المعنى ـ تلك الحسرات التي وجدها من رَحَلَ من بلده ميمّماً وجهه شطر مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، قاصداً لقاء صاحبها عليه الصلاة والسلام، والتشرف برؤية ذلك الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وإذا به يسمع خبرَ وفاته صلى الله عليه وسلم ينزل كالصاعقة عليه! وهذا ما وقع لجماعة من المخضرمين، من أشهرهم: عبدالرحمن بن عسيلة الصنابحي المرادي ـ رحمه الله ـ، الذي بلغه موتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجحفة ـ وهي تبعد عن المدينة 183كم ـ ليصل المدينة بعد خمس ليالٍ من وفاته صلى الله عليه وسلم! يا الله! أي أشواقٍ ولواعج كانت تعتلج في قلب الصنابحي وهو في الطريق! وأي أقدامٍ تلك التي حملتْه بعد سماع الخبر؟! وما مشاعره وهو يمرّ بالقبر الشريف الذي لم يجفّ بعد، ولم تزل آثارُ الأيدي عليه!

هذه الحسرات تتجدّد اليوم في صورٍ شتى، يقرأها الإنسانُ في نبرات أولئك الذين فرّطوا في الإفادة من علم عالمٍ كان في مدينتهم، أو في جامعتهم.

وتأتي في قالب الندم ـ في آخر العمر ـ على التفريط في سنيّ العمر الأولى وبواكير الشباب، حيث لم يغتنمها في شيءٍ ينفع ويفيد، ويكون رصيداً تَقرُّ به عينُه في الدنيا قبل الآخرة!

ومن أرقى هذه العبارات الممتزجة بالعبَرات: تلك الأماني التي سطّرها جمعٌ من العلماء في أواخر أعمارهم على التقصير في تدبر كتاب الله والتأمل فيه، والعيش معه وفي ظلاله، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الذي قال كلمتَه الشهيرة: "قد فتح اللهُ عليَّ في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن، ومن أصول العلم؛ بأشياء كَانَ كثيرٌ من العلماء يتمنونها، وندمتُ على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن"([2])!

والسؤال الأهم بعد هذا: لماذا ينتظر أحدُنا تلك اللحظات ليبثّ حسراته، ويعبّر عن ندمه؟ ولماذا لا يجعلُ له مشروعاً كبيراً يستهلك أكثرَ أوقات العمر، وتندرج تحته مشاريعُ صغيرة تخدم المشروع الكبير؟ فإن زمانَ النشاط والقوة البدنية والذهنية لا يتهيأ كلَّ وقت.. ونعوذ بالله من تقطّع العمر بغير طائل، وخَتْمِهِ بحسراتٍ البطّالين! ورحم الله الشافعي إذ يقول:

إذا هبّت رياحُك فاغتنمها *** فعقبى كلّ خافقةٍ سكون
_____________________
([1]) ينظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون (ص: 243).
([2]) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (4/ 519).

 

* المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور عمر بن عبد الله المقبل