كان عبد الجبار بن حمديس يتحاشي ركوب البحر ويصيبه الدوار، فلاموه، فقال:
لا أركب البحر أخشى ... علي منه المعاطب
طين أنا وهو ماءٌ ... والطين في الماء ذائب!
وكأنما كان أبو القاسم الشابي يرد عليه إذ يقول:
ومن يتهيّب صعود الجبال ... يعش أبد الدهر بين الحفر!
نفخ الروح الملائكية في الطين من شأن الله (البديع)، أما نحن فشأننا نفخ روح الحماس والمخاطرة المحسوبة، والإصرار والإبداع في مشاريع العمل والحياة..
هذا المشهد التاريخي الموغل في القدم.. والموغل في الحداثة لقربه منا.. مشهد الخلق الأول يلهمنا السعي نحو بلوغ الكمال، حتى لو استنزف العمر كله، مجرد أن نحلم بملامسة الهدف وننهض إليه شيء رائع!
كيفية الخلق واستغراقه للسنين الطوال الطوال تُذكّر بقصة خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وهي من أيام الله؛ لأنها كانت قبل أن يوجد شمس ولا قمر.
قال ابن عباس: (خلق السموات والأرض في ستة أيام، وكلّ يوم من هذه كألف سنة مما تعدّون أنتم).
الخلق الإلهي ليس إرادات عشوائية متفرقة ومفاجئة، بل هو نواميس محكمة لا مجال فيها للاستعجال ولا لحرق المراحل!
التدرج قدرٌ مقدور في الخلق وشرعٌ قائم بالحق، ظاهرة في خلق آدم، وفي ذريته، وفي التحولات السلبية والإيجابية معاً، وكل شيء له درجات:
اللذة، والألم، والقوة، والشهوة، والعلم، والطاعة، والمعصية.
والإنسان يمر بها (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ، وَيُكَذِّبُهُ) (متفق عليه من حديث ابن عباس).
وفق إرادة الله تحين لحظة انبثاق الروح في الجسد، وهي لحظة تاريخية توجت تكوين آدم، وأحدثت (معجزة الإنسان) بكل إبداعها المذهل وتفصيلاتها الآسرة وجمالياتها الممتدة..
تكريس مبدأ السببية في الكون والإنسان مقصود هنا، والله قادر على أن يخلق آدم والسماء والأرض بكلمة، ولكنه أراد أن يتعلّم الناس السير وفق السُّنن والنواميس الطبيعية.
الله يلهمنا أن نتعلم سلوك الطريق ولو طال، وأن لا نتكل على الأماني الفارغة والرغبات الجوفاء.
نبكي ونتضرّع إليه وهو سميعٌ رحيمٌ قريبٌ، ولكنه يعلِّمنا حين يؤخر الإجابة أن لحظة انبثاق الروح في موات الشعوب لم تحن بعد {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} (104:هود).
كل شيء له أوان وإبّان لا يتقدم ولا يتأخر ولو كره الناس وضجوا واستبطؤوا.. « وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ » (رواه البخاري من حديث خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ).
أحلام النهوض والتنمية والحضارة والانتصار لابد أن تخضع للسنن الإلهية، وتستعمل الصبر، وتتلمّس الطريق ولو طال.. وفيما سوى ذلك سنصطدم بالجدران مرة تلو الأخرى.. حتى نفيق!
النصر لايأتي سهلاً رخيصاً، ولو جاء كذلك لما بقي..
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} (214:البقرة).
قال ابن تيمية: مسّتهم الضراء في أبدانهم، والبأساء في أموالهم، والزلزال في إيمانهم!
ثمَّ أقدار إلهية ضخمة نحار في فهمها وإدراك مراميها حتى تكتمل صورتها..
لا تستطيع أن تقرأ تمام الحكمة الإلهية للخلق والأحداث من حولك؛ لأنك تقرأ لوناً هنا وخطاً هناك، ولا زالت بعض أجزاء اللوحة لم يُرسم بعد.
لك في البريّة حكمةٌ ومشيئةٌ ... أعيت مذاهبها أُلي الألبابِ
إن شئت أجريت الصحاري أنهراً ... أو شئت فالأنهارُ موجُ سرابِ
ماذا دهى الإسلام في أبنائه ... حتى انطووا في محنةٍ وعذابِ؟
فثراؤهم فقرٌ ودولة مجدهم ... في الأرض نهب ثعالبٍ وذئابِ
أيها الإنسان!
فيك نفخة السماء، وفيك طين الأرض..
انظر عالياً يوم أن تحتاج
وانظر إلى الأرض يوم أن تغتر.
المصدر/ الإسلام اليوم