تحفلُ الكثيرُ من المجالس بالحديث عن مختلف القضايا، سواء ما اتصل منها بالقضايا الشرعية أم الاجتماعية أم غيرها..وفي بعض الأحيان يسيطر عليها حديثٌ في قضيةٍ ـ قد تكون حديث الشارع ـ وكلٌ يُدلي برأيه في هذه القضايا، والأمرُ إلى هذا الحدّ مفهوم، ما لم يكن حديثاً بغير علم في قضايا الشريعة، فالنصوص الشرعية واضحة في التحذير من الخوض فيها بغير علم.
تبدأ المشكلةُ حين يتداول الحضورُ قضيةً ذات أبعادٍ كثيرة، وربما كانت معقّدة، فيطرحُ بعضُهم وِجهةَ نظَره في تلك القضية، فإذا ما خولف في رأيه ردّ مباشرةً بتخطئةِ الرأي الآخر، دون إعطائه فرصةً للتوضيح، أو إعطاء نسبة احتمال صوابٍ في رأيه، والمحصّلة النهائية لكلامه هي أن رأيي صوابٌ لا يحتمل الخطأ!
هذا المشهد يتكرر في كثير من المجالس مع عددٍ من القضايا، وهذا لا يعود لأن المسألة فيها نصٌّ تلقّاه ذلك "الصوابيّ" عن طريق الوحي! كلا، وإنما يعود لطبيعة تفكيره وأسلوبه في الحوار، والذي يكشف عن جهل أو كِبْرٍ، واللذان ينشأُ عنهما ألوانٌ من الخطأ بل والصَّلَف في طرح الرأي، ومناقشة آراء الآخرين، وذاك المسكينُ يظنُّ أنه مَلَك ناصيةَ الحق، أو أن الناس يسكتون عن إتمام الحوار معه لأنه أفحم غيرَه بالحجج الباهرة، والبراهين الساطعة، وهو لا يدري أنه لم يناقشه أحدٌ لجهله وظلمه لا غير، ورحم الله الإمام الشافعي يوم قال: "رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصواب"([1]).
هذا الأسلوب في القطع لا يقتصر على القضايا التي لا نصّ فيها، بل يمتد إلى مسائل شتى خاصةً المسائل الشرعية، والتي تأخذ نصيبَ الأسد من الحديث في كثيرٍ من مجالسنا، والعجيب أن ترى تلك الحماسة للقطعية بصواب الرأي في مسائل فيها الأدلة متكافئة، ولو تحدث عنها عالم لقدّم وأخّر في الترجيح، بل قد يكون جمهور العلماء على خلاف تلك المسألة التي تحمّس لها المتحدِّث!
أذكر أن أحدهم اتصل بي يريدني أن أتصل على أحد المشايخ الذين أفتوا في مسألةٍ على خلاف ما يَعهد هو منها من الحكم الشرعي، يريدني أن أنصحه عن هذا القول الذي قال به! معلّلاً أنه خلاف ما نعرفه، وما عليه الفتوى التي كنا نسمعها من مشايخنا الكبار...الخ كلامه، فقلتُ له: إن القول الذي أفتى به هذا الشيخ هو قول جماهير العلماء، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، فدهش دهشةً عظيمة! ثم سكت.
هذا الاتصال يكشف عن سببٍ من أسباب اعتقاد الصوابية المطلقة في آرائنا الشرعية أو غيرها، وهو جهلُ المتحدث بالخلاف، وبأطراف المسألة التي يخوض فيها، وصدق أبو حنيفة يوم قال: "أعلمُ الناسِ أعلمُهم باختلاف الناس"([2])، ومفهومُ كلمة هذا الإمام ظاهر وبيّن.
وقد قلتُ في نفسي ـ بعد اتصال ذاك الأخ ـ: هذا شخصٌ استطاع أن يستوضح ممن يثق به، فكم هو عدد الأشخاص الذين مضوا لا يلْوُون على شيء؛ ليخطّئوا ذلك الشيخ الذي استغرب صاحبي فتواه؟ وكم نِيْلَ منه بسبب جهل المتكلم عليه بالخلاف في تلك المسألة؟!
ومن شؤم هذه الطريقة في التعامل مع المسائل: شحنُ النفوس على المخالِف، بحجّة أنه خالف الحق! وما هو إلا الحق الذي في رأس ذلك المتحدِّث فحسب، وقد يكون الحق في خلافه!
ومهما يكن مِن أمرٍ، فإن من العقل والحكمة أن يكون الإنسانُ واسع الأفق، معتدلاً في طرحه، واضعاً مساحةً من الصواب للطرف المقابل، ما لم يكن في المسألة إجماع، أو نصٌّ صريح لا يقبل التأويل، مع الاحتفاظ بأكبر قدر من العبارات الليّنة في التعبير عن خطأِ مَن ثبتت مخالفته، خاصةً وقد عُلم صدقُه واجتهادُه في تحرّي الحق، وهذا كلّه في ذلك النوع من المسائل التي تتجاذبها الأدلّة، أما ما سوى ذلك فدائرةُ العذر فيها ينبغي أن تكون أوسع وأكثر.
________________________
([1]) انظر: التعريفات للجرجاني (ص: 135).
([2]) سير أعلام النبلاء (6/ 258).
* المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور عمر بن عبد الله المقبل