تعددت القراءات في مسألة الإنسحاب الروسي المفاجئ ما بين من يرجعه إلى وضع اقتصادي روسي يترنح أو خلاف ما بين بوتين والأسد يمكن رصده من خلال تصريحات سياسية ومواقف إعلامية متعددة وعلى مستويات مختلفة أو إلى خشية روسيا من الغرق في المستنقع السوري ليصح فيها ما قاله حليفها في بشار الأسد في بداية الثورة من أن سوريا ستنتج عشرات الإفغانستانات إلى الحديث عن خلاف إيراني روسي محتد ومحتدم. بتقديري أن جميع تلك العوامل قد تكون ساهمت بشكل أو بآخر في قرار بوتين ولكن لا يمكن لأي منها منفردا أن يفسر قرار الانسحاب بشكل منطقي.
السؤال الأهم هو ماذا يريد بوتين من سوريا؟ وهل تحقق له ما يريد أو جزء منه؟ الهدف المعلن من التدخل في سوريا كان محاربة داعش والتي لم يستهدفها بوتين وقواته وطائراته إلا قليلا، بل كان استهداف خصومها من الفصائل والكتائب المسلحة مدعاة لتقويتها وليس لإضعافها. وهل فعلا نجح بوتين بحماية بلاده من الإرهاب بضربات استباقية لإرهابيين من الاتحاد الروسي انضموا لداعش وهناك خشية من عودتهم لبلادهم؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال بشكل دقيق ومقنع لأن قراءاته يمكن أن تكون عكسية وأن يقول السوريون للروس أنتم من صدرتم لنا الإرهابيين وليس العكس! كما أن ما أحدثه الروس في سوريا من دمار وقتل للأطفال واستهداف للمستشفيات والمساجد أمور ستتفاعل مستقبلا وستشكل بذور لمشاعر إسلامية ساخطة في داخل روسيا الاتحادية وخارجها وقد تترجم إلى عمليات عسكرية وعنفية للثأر من حرب تباهى بوتين بأبعادها الصليبية. كما أن أحد الأهداف التي تباهى بها بوتين هي تجربة الأسلحة الحديثة واستخدام سوريا ساحة للمناورة العسكرية الروسية وأيضا ربما للتخلص من الأسلحة القديمة – كما أشارت وسائل إعلام روسية - هذا الهدف والذي تبجح به بوتين علنا سيكون عاملا تاريخيا وأخلاقيا وإنسانيا يلاحق روسيا وقادتها لأجيال.
وحتى يتسنى لنا محاولة فهم أسباب الانسحاب الروسي بطريقة تخلو من المبالغة أو العاطفة، تعالوا لنفترض أن الحملة الروسية حققت نجاحا عسكريا باهرا، وأن السيطرة المطلقة على سوريا قد دانت للأسد وحلفائه الإيرانيين بفضل القوات الروسية، كيف ستصير الأمور؟ ومع تسليمنا بأن خلافًا روسيًا إيرانيًا على شكل سوريا السياسي ومستقبلها سيكون جليا فإنني ساتجاوز هذه النقطة لأفترض أن الروس يسيطرون على بلد مدمر يحتاج إلى مبالغ باهظة لإعادة إعماره. وإن المحيط السني الهادر في المنطقة وفي العالم سيكون محتقنا ومعاديا للروس وأن الوضع مع إسرائيل والتسوية السياسية سيكون ملفا مثقلا ومعقدا. باختصار فإن روسيا لا تستطيع تحمل العبء سياسيا واقتصاديا وبشريا بمفردها وبالتالي لا بد من أن تلقي الحمل على أطراف أخرى لتتحول من صانعة للدمار والحرب إلى شريكة في صنع السلام والاستقرار وتقاسم الأدوار والغنائم.
يمكن من خلال ما سبق فهم إصرار روسيا وهي تستقبل رؤوساء عرب يريدون دفع التوغل الإيراني بالتوحش الروسي إلى أن تستمع منهم لثناء على دورها كصانعة سلام في المنطقة، وفي نفس السياق يمكن النظر إلى تشكيل أحمد الجربا وفي القاهرة إلى تيار سوريا الغد بحضور السفير الروسي وإشادته بدور روسيا في صنع السلام. اختار بوتين إطلاق مسرحية جنيف الثالثة للإعلان عن انسحاب قواته من سوريا وهو ما رافقه تصريحات أممية ومن معارضين سوريين يحيون فيها الخطوة الروسية ليصفوها بأنها أنقذت مباحثات السلام وهو أمر كان يريده ويتوق إليه بوتين وبشدة.
حقيقة الأمر أن التدخل الروسي أدى وسيؤدي إلى إطالة الصراع في سوريا وإلى ارتكاب جرائم حرب إضافية من النظام ومن روسيا نفسها من خلال تصلب النظام وإن كنت أرى أن موسكو تريد الإبقاء على الأسد كورقة بيدها ولا تريد له أن يحسم الصراع –وإن كان ذلك صعبا- فهو ليس من مصلحتها. وبغض النظر عن حقيقة الموقف الروسي وأبعاده فلا ينبغي علينا أن نكافئ الإجرام الروسي من خلال وصف الروس كصانعي سلام أو عقد صفقات اقتصادية معهم. روسيا أجرمت في حق سوريا وشعبها وعليها أن تتحمل المسؤولية الأدبية والقانونية والمادية والإنسانية على تبعات جرائمها ومجازرها.
إن كل من يمتدح الموقف الروسي في سوريا أو يصف بوتين بصانع سلام فهو لا يقدم شهادة زور سياسية وإنسانية وأخلاقية فحسب، بل يشارك فعليا بالإجرام بحق سوريا وأطفالها!!
المصدر/ ترك برس