كيف روّضت الديبلوماسية التركية الدب الروسي؟
2 ربيع الأول 1437
رضا بودراع

في إدارة أزمة إسقاط الطائرة الروسية، حاولت أن أتابع كيف ستدار أزمة إسقاط الطائرة من الجانبين التركي والروسي، واتخذت منهج القراءة الحصرية ابتداء، قبل التجاوز للتحليل، وسأسردها وأترك للقارئ التقييم الذاتي .

 

 

 

يجب التركيز قبل ذلك أنه بمجرد ما تبين أن الطائرة التي أسقطها الجيش التركي روسية عقدت الرئاسة التركية اجتماع أزمة طارئ يضم كل رؤوس صناعة القرار، وتبيّن لنا من خلال متابعة الأداء التركي أنه تم رسم كل السيناريوهات المحتملة وعلى ضوئها تم حصر كل أوراق الضغط المتوفرة لدى الجانب الروسي وراحت تفكّكها وقة ورقة معتمدة على ثلاث أمور استراتيجية:

 

 

1- الدقة من شأنها تركيز الجهد الديبلوماسي والاستخباراتي .

2- السرعة من شأنها تحقيق السبق واكتشاف المحيط الديبوماسي أولا .

3- الكثافة من شأنها الإلمام وـيضا إرباك الروس وإغراقهم في محيط من المعلومات والتحليلات على حساب الإجراءات .

 

 

 

 

 

 دعونا الآن نلقي نظرة على أهم الأدوات التي اعتُمدت في إدارة الأزمة .

أولا – على مستوى الجيوعسكري
1- توجّهت تركيا فور إسقاط الطائرة بتسريع إجراءات تفعيل امتيازات العضوية في حلف الناتو .

2- توجّه رئيس الحكومة داود أوغلو نحو قبرص لتفعيل العلاقات التاريخية والعسكرية بقصد تفكيك ورقة تجديد الطلب الروسي لقبرص لغرض إقامة قاعدتها العسكرية لتكون أسفل بطن تركيا .. ولم يصل المبعوث الروسي إلا بعده بثلاثة أيام ضمن وفد هزيل مستعينا بالكنيسة الأورثوذوكسية .

3- جاويش أوغلو يكثف اتصالاته بصربيا والجبل الأسود وحضر ترتيبا عالي المستوى مستغلا إجراءات ضم الجبل الأسود لحلف الناتو لتليين موقف بلغراد وقد أثمر هذا عن أول لقاء تهدئة ديبلوماسية بين أنقرة وموسكو.

4-تفعيل التقارب التركي الأوكراني البلغاري أسفر عن غلق أجوائهما عن الطيران الروسي.

5-صدى تعاطف المسلمين التتر كان حاضرا بقوة رغم أن تركيا لم تهمس ببنت شفه.

6-ظهور أول بوادر الحلف الاستراتيجي السني بدخول السعودية على الخط، فاستقبال الملك سلمان لرئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني بمراسيم ملكية لأول مرة سحبت فرصة بوتين استعمال ورقة أكراد العراق التي عوّل عليها كثيرا.

7-بقيت ورقة تنظيم البي كي كي بين العراق وإيران و تركيا فكّكها وصول 1200 جندي ألماني _ألمانيا تدعم البيشمركة_ وقد تعاملت تركيا مع ذلك بنوع من المرونة والحذر في حين لم تجد موسكو منفذا إلا إيصال مساعدات لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي قصفته تركيا بوابل من الكثافة الإعلامية وحاصرته استخباراتيا.

8-قامت تركيا بزعزعة الثقة العسكرية الروسية المتولّدة من نشر منظومة صواريخ اس 400 حين نشرت على حدودها بالمقابل منظزمة “كورال” الإلكترونية العالية الدقة وما أربك الخبراء الروس أن كفاءتها سرية للغاية ولم يسبق الكشف عنها حتى لحلف الأطلسي.

9-أخيرا وقّعت تركيا مع الجانب الأمريكي خطة مشتركة لمراقبة حدودها السورية.

 

 

 

 

 

 

 ثانيا – على المستوى الجيو اقتصادي
1- الرئيس أردوغان في قطر وتوقيع 15 اتفاقية استراتيجية و 1.2 مليار مكعب من الغاز السائل تحسّبا لتعليق السيل التركي من روسيا عبر البحر الأسود.

2- رئيس الحكومة داود أوغلو إلى باكو عاصمة أذربيجان –عرق وعمق تركي- لاستكمال خط الغاز المار عبر تركيا إلى أوروبا قبل 2018.

3- أوكرانيا تتعهد بتغطية النقص الغذائي لتركيا إن حصل جراء العقوبات الروسية.

 

 

 

 

 

 ثالثا- على المستوى السياسي والإنساني
1-في الوقت الذي تتخذ روسيا إجراءات للتضييق ديبلوماسيا على تركيا تحقق أنقرة مكاسب ديبلوماسية تاريخية أولها توقيع اتفاق إلغاء التأشيرة مع الاتحاد الأوروبي 2016.

2-إلغاء التأشيرة بين تركيا وقطر.

3-التضييق الإنساني والاقتصادي على الطلبة والمستثمرين الأتراك في روسيا قوبل بغاية التسامح مع نظرائهم الروس في تركيا مما أعطى لها غلبة واضحة على المستوى القيمي والإنساني وتصريحات أردوغان في ذلك تاريخية.

 

 

 

 

 

رابعا- على المستوى الإعلامي
1- لاشك أن الإعلام من الجهتين كان يعيش أجواء الحرب الباردة، لكن ما ميّز الجانب التركي هو الواقعية البسيطة مع التحدي العالي مقابل الاتهامات الحادة والأصوات الصاخبة من الجانب الروسي.

2- تابعت الإعلام الروسي بالروسية والعربية فلم يترك ما يقول من التهديد بالعقوبات الاقتصادية إلى ضرورة تصفية أردوغان إلى تصريح نائب روسي بوجوب ضربة نووية لتركيا ..في حين كان الإعلام التركي يركّز على مبدأ الدفاع عن النفس وتحمّل المسؤولية إذا ثبت تورّط أنقرة في المزاعم الروسية.

3- تركيز الإعلام التركي على أساليب الحرب الباردة كانت كفيلة بدحض محاولات موسكو النفوذ للمعارضة التركية.

4- تركيز الإعلام التركي على نفسية بوتين وذهنيته أضعف من تأثيره حتى داخل روسيا، في المقابل تركيز الإعلام الروسي على شخصية أردوغان زاد من شعبيته خصوصا عند المسلمين الروس.

 

 

 

 

 

 خامسا- على المستوى الحضاري
1- تجاوب العمق العربي والتركي والكردي بصفة منقطعة النظير مع تركيا في حين وجد بوتين صعوبة حتى في إقناع الشارع الروسي.

2- بعد التقارب اليهودي الروسي عقب سقوط الطائرة الروسية نكاية بالجانب التركي من طرف اليهود، توجّه وفد من رئاسة الشؤون الدينية التركية إلى غزة.

3- المرجعية الإسلامية التي اتخذها أردوغان عزّزت مواقفه المتمسكة بالدفاع عن النفس والمستضعفين في حين مرجعية بوتين القيصرية البيتيرية نسبة لبيتر الأول جعلت تصريحاته ووجوده في سوريا يبدو محاولة يائسة لاسترجاع مجد السوفييت الضائع.

 

 

 

 

 

 سادسا –على مستوى الشخصية والكاريزما
1- أحسن الأتراك تقسيم الأدوار فكان أردوغان يمثل النديّة الثابتة لعربدة بوتين فتراه يفنّد ويحاور ويتحدى أما بوتين فيسب ويتهم ويتوعد.

2- ظهر أردوغان أكثر اتّزانا وتحكما بالمعلومة وتفسير الأحداث في حين ظهر بوتين مرتبكا منفعلا غير متثبت من المعلومة فقد كرّر كلمة لا أدري كثيرا ولم يخرج وزير خارجيته لافروف عن ذلك أيضا.

3- داود أوغلو لعب دور صوت العقل والباحث عن الحقيقة ولو كانت مرة، وأن طاولة الحوار هي المكان الأنسب لفض المشاكل.

4- داود اوغلو يصرّح يوم الجمعة أن البعد النفسي للأزمة قد تجاوز الواقع ويطغى عليها البعد النفسي في إشارة لنفسية بوتين.

5- دفاع أردوغان عن الرعايا والسياح الروس داخل تركيا المطلة على آسيا وأوربا وأفريقيا جعل من الشعب الروسي دائم الحنين لتركيا ومتنفسه الحضاري والجغرافي.

إن ما يمكن قوله لحد الآن أن تركيا أبلت بلاءً منقطع النظير في احتواء وإدارة أزمة إسقاط الطائرة الروسية على المستوى الديبلوماسي والإعلامي لكن المدرسة الروسية ما زالت تعتمد على نفس الأساليب القديمة للحرب الباردة مما يجعلنا نتوقع أن الأمر سيتجه نحو التهدئة السياسية لكنه سينشط استخباراتيا خصوصا في وجود نفسية كالتي عند الرئيس الروسي فلاديمير بوتين .

المصدر: تركيا بوست