
قد لا تكون طريقة تعامل النظام الروسي مع أزمة الطائرة التي أسقطتها تركيا منذ أيام محل استغراب أو اندهاش من أولئك الذين يعرفون طريقة تفكير ساسة روسيا اليوم وعلى رأسهم "بوتين" , والتي تتسم بالغرور والعنجهية والتعالي على كل القوانين والأعراف الدولية , وتتسم بالديكتاتورية والسلطوية والدوران حول شخص الحاكم الفذ الملهم .
والمقصود بطريقة التعامل هنا ذلك الانقلاب الجذري في أسلوب التعامل مع كل من لا يتفق معهم في الرأي , أو لا يتجاوز عن حماقاتهم ومغامراتهم السياسية والعسكرية ....وإن كان بالأمس القريب من أقرب المقربين والأصدقاء الحميمين , وذلك من خلال كيل الاتهامات الباطلة وفبركة الافتراءات الكاذبة ضد كل من يعارضهم أو يعرقل مخططاتهم أو لا يسكت عن تجاوزاتهم غير المقبولة .
والحقيقة أن هذه الخصلة وتلك السمة ليست حكرا على طريقة تعامل ساسة روسيا مع تركيا بعد إسقاط الأخيرة طائرتها الحربية التي انتهكت أجواءها , حيث تحولت تركيا فجأة من دولة صديقة ومقربة إلى عدوة , وتحول أردغان من "رجل دولة صادق" حسب وصف بوتين منذ أقل من عام , إلى عكس ذلك تماما بعد حادثة إسقاط الطائرة .
نعم ....ليست هذه السمة حكرا على "بوتين" فحسب , بل هي سمة كثير من الطغاة الذين يعانون من نفس أعراض مرض الغرور والعنجهية والدكتاتورية , ولعل النسخة المماثلة للأخير طاغية الشام , الذي يعلم القاصي والداني طريقة تعامله مع كل من تركيا وقطر لمجرد وقوفهما إلى جانب ثورة الياسمين , ومعارضتهما لسياسة النظام السوري مع المتظاهرين السلميين .
لقد تحول أمير دولة قطر في وسائل إعلام نظام الأسد من رجل المقاومة والممانعة قبل الثورة , إلى عكس ذلك تماما بعدها , كما تحولت الحكومة التركية بقيادة أردغان من الصديق والشريك الأبرز للنظام , إلى العدو اللدود بعد مساندته لمطالب الشعب السوري .
ومن هذا المنطلق يمكن فهم سيل الاتهامات الباطلة التي وجهتها روسيا لتركيا بعد إسقاط الطائرة دون أي دليل أو برهان وما تزال , وكم الإشعات المفبركة التي روجتها وسائل إعلام "بوتين" للنيل من تركيا والانتقام من تصرفها الشرعي القانوني .
ويمكن استعراض بعض تلك الاتهامات والشائعات , وكيف سقطت جميعها أمام تفنيدها من قبل ساسة تركيا و وسائل إعلامها :
1- أولى هذه الاتهامات التي سقطت لكونها غير مفهومة ولا معقولة : إصرار روسيا على أن المقاتلة الحربية الروسية لم تخترق المجال الجوي التركي , رغم كل الأدلة التي ساقتها تركيا , والتي أكدتها كثير من دول العالم , وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي قالت المتحدثة باسم خارجيتها "إليزابيث ترودو" : إن "المعلومات المتاحة، بما في ذلك الأدلة التي قدمتها تركيا ومصادرنا الخاصة بنا كذلك ، تشير إلى أن الطائرة الروسية خرقت الأجواء التركية" .
وأمام سيل البراهين التي تثبت انتهاك الطائرة للمجال الجوي التركي بدأ "بوتين" يعزف على نغمة أن الطائرة لم تكن تشكل تهديدا لتركيا , وهو ما يشير إلى أن التمسك بعدم انتهاك الأجواء ليس له أي دليل سوى العنهجهية والتعالي عن الاعتراف بالحقيقة .
2- اتهام بوتين لتركيا صراحة بالتعامل مع "داعش" فيما يخص النفط قائلا على هامش مؤتمر المناخ بباريس : " لدينا كل الأسباب التي تدفعنا إلى الاعتقاد بأن قرار إسقاط طائرتنا اتخذ لحماية الطرق التي ينقل عبرها النفط إلى الأراضي التركية " مضيفا : " تلقينا معلومات إضافية تؤكد - للأسف - أن هذا النفط الذي ينتج في المناطق، التي يسيطر عليها تنظيم "الدولة الإسلامية" ومنظمات إرهابية أخرى ينقل بكميات كبيرة إلى تركيا" .
لم يكتف الرئيس التركي في الرد على هذا الاتهام بالنفي وبكونه غير مقبول وغير أخلاقي كذلك , ولم يكتف بمطالبة الجانب الروسي بعرض الوثائق والأدلة التي تثبت هذا الاتهام الخطير إن كانت حقا موجودة , بل تحدى "بوتين" بأنه في حال ثبوت حدوث أمر كهذا سيترك منصبه ، متوجها بالتحدي "لبوتين" هل ستبقى في منصبك في حال ثبوت كذب هذه المزاعم ؟!
إن الحقيقة المثبتة بالوثائق والأدلة هي أن النظام السوري - الذي تدافع عنه روسيا - هو من يشتري النفط من "داعش" وليس تركيا , وقد أكدت ذلك تقارير غربية كان آخرها تصريح نائب المتحدث باسم الخارجية الألمانية "سوسن شلبي" أمس : " إنَّ لدى بلادها وثائق تثبت شراء النظام السوري الكمية الأكبر من نفط تنظيم الدولة الإسلامية المعروف إعلاميًّا "داعش" , وهو ما يجعل سقوط هذا الاتهام الروسي لتركيا مدويا .
3- أمام فشل اتهام "بوتين" الحكومة التركية بالتعامل مع "داعش" وسقوط هذا الافتراء , لم تجد وسائل الإعلام الروسية – وكذلك السورية الأسدية - وسيلة للنيل من "أردغان" إلا بنشر شائعة وجود علاقة بين نجل أردغان و "داعش" , وذلك من خلال نشر صورة لبلال أردغان مع رجلين ملتحيين زعم الإعلام الروسي أنهما قياديان في "داعش" .
لم يكن هناك أي دليل على تلك الشائعة أو ذلك الاتهام الخطير إلا طول لحية الشخصين اللذين ظهرا في الصورة مع نجل أردغان , ليتبين لاحقا أنهما شقيقين تركيين هما : اسماعيل وعلي كيمبر , وهما شريكان في مطعم مشاوي وتوابعها في منطقة الفاتح السياحية في اسطنبول , والذي يرتاده نجل أردغان أحيانا .
وهكذا سقط افتراء آخر من افتراءات موسكو للنيل من تركيا , وتهاوت شائعة جديدة من شائعات الإعلام الروسي أمام الحقيقة , وهذ لا يعني أن روسيا ستتوقف – على ما يبدو - عن كيل الاتهامات ونشر الشائعات ضد تركيا لإشباع رغبتها في الانتقام , بل ربما ستزداد طمعا في اعتذار تركي لا يبدو أن الأخيرة مستعدة لتقديمه .