كيف دمّر الانقلاب العسكري الأوّل تركيا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا؟
10 شعبان 1436
لجين محمد

في مثل هذا اليوم الـ27 من مايو 1960 استيقظت تركيا على حدث غيّر مجرى الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد طيلة أكثر من 4عقود، حيث شهدت تركيا أول انقلاب عسكري أطاح بالحكومة الديمقراطية المنتخبة ورئيس البلاد.

الانقلاب الذي جر بعده ثلاثة انقلابات عسكرية أضرّت بالحياة السياسية والاقتصادية بالبلاد، وكبّدتها خسائر غير مسبوقة، وعزّزت الخلافات الداخلية لتسود حالة القمع والظلم كما يصفها المراقبون للشأن التركي.

 

 

 

القصة
القصة تتلخّص حينما قام 38 ضابطا برئاسة الجنرال “جمال جورسيل” بالسيطرة على مقاليد الحكم في البلاد، وأحال الانقلابيون وقتها 235 جنرالا وخمسة آلاف ضابط بينهم رئيس هيئة الأركان إلى التقاعد، كما تم وقف نشاط الحزب الديمقراطي واعتقل رئيس الوزراء “عدنان مندريس” ورئيس الجمهورية “جلال بايار” مع عدد من الوزراء وأرسلوا إلى سجن في جزيرة يصي أدا.

 وفي صباح 27 مايو 1960 تحرّك الجيش التركي ليقوم بأول انقلاب عسكري خلال العهد الجمهوري، وتم وقف نشاط الحزب الديمقراطي.

 تلا هذا محاكمة شكلية للرئيس والحكومة، حيث تم سجن رئيس الجمهورية مدى الحياة فيما حكم بالإعدام على مندريس، ووزير الخارجية فطين رشدي زورلو، ووزير المالية حسن بلاتقان، بتهمة العزم على قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية.

وفي اليوم التالي لصدور الحكم في أواسط سبتمبر/أيلول عام 1960 تم تنفيذ حكم الإعدام بمندريس ليكون أول ضحايا العلمانيين في الصراع الداخلي بتركيا.

وبعد أيام نفّذ حكم الإعدام بوزيريه، ودفنت جثامين الثلاثة في الجزيرة ذاتها حتى التسعينيات حينما جرى نقلها إلى إسطنبول حيث دفنت هناك وأُعيد الاعتبار لأصحابها بجهود من الرئيس الأسبق تورغوت أوزال.

 

 

 

سياسة الانقلابات
لكن الضرر الذي تسبّب به انقلاب 1960 لم يقف عند هذا الحد فقد فتح الباب أمام “تدخّلات” للجيش في الحياة السياسية، فقد تلا الانقلاب الأول بـ 11عاما وتحديدا في 1971 الانقلاب العسكري الثاني في تركيا.

ففي 12 مارس 1971 من ذلك العام، حدث ما عرف باسم “انقلاب المذكّرة”، وهي مذكّرة عسكرية أرسلها الجيش بدلا من الدبابات، كما فعل في الانقلاب السابق.

ثم انقلاب كنعان إيفرين 1980م وهو من أشهر الانقلابات في التاريخ التركي لما تبعها من قمع ودموية أشد من سابقيها.

 

 

 

كنعان إيفرين
وعقب الانقلاب الذي وقع في 12 سبتمبر 1980، جمع الرئيس الراحل إلى جانب مناصبه السابقة، رئاسة مجلس الأمن القومي، ورئاسة الجمهورية التركية.

 وبالدستور الذي قدّم للاستفتاء الشعبي في 7 نوفمبر 1982، أصبح رسميا الرئيس السابع للجمهورية التركية، وذلك في التاسع من نوفمبر من ذات العام، وذلك حتى التاسع من الشهر ذاته عام 1989.

 وقد توفي ايفرين 11مايو الجاري في مستشفى عسكري بالعاصمة التركية أنقرة عن عمر 98 عام، وقد نقل إيفرين إلى وحدة العناية المركزة، إثر فشل في وظائف العديد من الأعضاء بسبب كبر سنّه، حيث وضِع على جهاز التنفس الصناعي.

 وهو الرئيس الذي وصفته الصحف التركية بأنه أصبح رمزا لهيمنة الجيش على مقدّرات السياسة طيلة عقود من الزمن، وهو من مهّد بانقلابه الطريق أمام نظام عسكري تعرّض خلاله الآلاف للتعذيب، وحكم على مئات بالإعدام، كما اختفى كثيرون، وبدأت مرحلة من هيمنة الجيش على السياسة التركية.

وكان إيفرين قد صدر عليه حكم بالسجن مدى الحياة عام 2014 مع قائد القوات الجوية الأسبق “تحسين شاهين كايا” لدورهما في انقلاب عسكري عام 1980، وذلك بتهمة “قلب النظام الدستوري“.

 

 

 

ما الذي أحدثه انقلاب 1960؟
شهدت تركيا العديد من أعمال العنف والاضطرابات طوال أيام الستينيات من القرن العشرين.

وأثار الركود الاقتصادي في أواخر هذا العقد موجة من الاضطرابات الاجتماعية والتي تمثّلت في المظاهرات التي تجوب الشوارع، وإضرابات العمال، والاغتيالات السياسية.

 كما تم تشكيل حركات عمالية وطلابية يسارية تعارضها الجماعات اليمينية القومية والإسلامية.

 وقام الجناح اليساري بتنفيذ هجمات تفجيرية، وعمليات سرقة، واختطاف.

وعلى الجانب السياسي، عانت أيضا حكومة رئيس الوزراء “سليمان ديميريل”، المكونة من حزب العدالة اليميني المعتدل والتي أعيد انتخابها عام 1969، من المشكلة.

فقد انشق العديد من الفصائل داخل حزبه مكونين مجموعات خاصة بهم، مما أدى إلى الحد من أغلبيته البرلمانية تدريجيا، وبالتالي توقفت العملية التشريعية.

بحلول يناير عام 1971، عمّت الفوضى أرجاء تركيا، وتوقّفت الجامعات عن العمل، وقام الطلاب بسرقة البنوك، وخُطِف الجنود الأمريكيون، ومهاجمة أهداف أمريكية محاكين بذلك العصابات الحضرية في أمريكا اللاتينية، كما تم قصف منازل أساتذة الجامعات اللذين ينتقدون الحكومة وهو العام الذي شهد ثاني انقلاب عسكري بالبلاد.

ولم يختلف الحال في الفترة بين الانقلاب الثاني 1971، وحتى انقلاب كنعان إيفرين في 1980 الذي أعقبه حالة قمع سياسي غير مسبوقة.

في 1997 حدث ما سمي بالانقلاب الأبيض على حكومة “نجم الدين أربكان” أو ما يعرف بـ”الانقلاب ما بعد الحداثي”

ففي عام 1995 وصل حزب الرفاه و حليفه الطريق القويم إلى السلطة ليصبح الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان رئيسا للوزراء -أول رجل ذي توجّه إسلامي صريح يصل إلى السلطة- وهو الأمر الذي أغضب العلمانيين و دعاهم إلى تحريك الأذرع العسكرية ضد الحكومة المنتخبة.

 

 

انقلابات ليس لها مثيل
يقول بعض المختصين بالشأن التركي أن الانقلابات العسكرية في تركيا تختلف عن بقية الانقلابات في العالم الثالث، باعتبار أنها تأتي تحت غطاء صيانة الدستور وحماية مبادئ الجمهورية والقضاء على الفوضى التى تعصف بتلك المبادئ.

ويؤكّد البعض أن الغرب نفسه لم يكن يريد لتركيا الديمقراطية التي يمكن أن تجلب الموروث الثقافي للأتراك إلى حياتهم العامة.

كذلك لم يرد الغرب لتركيا أن تنهج كما هو الأمر في أوروبا الشرقية في مواصلة دور الحزب الشمولي الواحد باعتبار أن ذلك يؤدي إلى التمدد الاشتراكي في المنطقة.

 

 

تدمير تركيا
ظلّت تركيا طيلة عقود الانقلابات العسكرية تعاني من أزمات اقتصادية حادة، انعكس بدوره على الوضع الاجتماعي ، فنصف مليون شاب تركي يضافون إلى سوق العمل سنويا ، مما زاد بمستوى نسبة البطالة 1-5%.

وهو ما أدى بدوره إلى زيادة الهجرة من الريف إلى المدينة لا سيما مدن اسطنبول وانقرة، اللتان شهدتا ارتفاعا كبيرا في عدد السكان 6-7 % سنويا، وكانت لهذه الهجرة القروية انعكاساتها الخطيرة على الوضع الاقتصادي.

 خصوصا بعد ارتفاع نسبة استعمال الآلات والمكننة الحديثة في الفلاحة، فانتشرت الأحياء السكنية الفقيرة حول المدن والتي شهدت الكثير من حوادث العنف.

ومن أسباب تضرّر الاقتصاد ارتفاع التضخم ليصل سنة 1976 رقم 20% ثم 40% عام 1977 ثم 60% عام 1978.

 

 

ووصلت نسبة التضخم في فبراير 1980 إلى 137% في حين أخذ مستوى المعيشة يقل تدريجيا.

وارتفعت نسبة البطالة إذ بلغ عدد العاطلين حتى عام 1977 أكثر من مليوني عاطل ليرتفع إلى 4 ملايين عاطل في العامين التاليين.

وأثقلت الديون الخارجية كاهل الاقتصاد التركي فقد وصلت عام 1970 إلى 2,2 بليون دولار أمريكي وارتفع إلى 12.5 بليون دولار أمريكي في نهاية 1977، وفي عام 1979 وصل إلى أكثر من 15 بليون دولار أمريكي.

ومن الأسباب الخارجية أزمة النفط سنة 1973، والتي أضرّت بالاقتصاد التركي، فضلا عن إيقاف استقبال العمال الأتراك في دول أوروبا الغربية.

 

 

تركيا تحاكم قادة الانقلاب
سياسيا ظلّت سيطرة الجيش على كل مقاليد الدولة التركية وفرضت الاعتقالات والإعدامات والإقصاء السياسي عن كل من ظنّ الجيش أنه يحاول تغيير نظام الدولة العلمانية، بالإضافة لفرض حالة الطوارئ بالبلاد، وفرض نظام الصوت الواحد.

 ولكن تركيا قاومت كل ذلك من وصول حزب العدالة والتنمية للحكم حتى أنها حاكمت قادة الانقلاب العسكرية لما سبّبوه من دمار وتأخّر اقتصادي وسياسي وعلمي لتركيا، كما عزّز الحزب من حقوق المواطن التركي ورفع مستوى معيشته ليصبح دخله من 300-500 دولار ليتجاوز الآن العشرة آلاف دولار، كما تم تعزيز الديمقراطية بالبلاد والحرية السياسية والاجتماعية.

المصدر: تركيا بوست