اسطورة علمانية الدولة الفرنسية
11 جمادى الأول 1436
ترجمة: موسى السادة

مقدمة المترجم:

ان التصورات المبنية للمجتمعات و الأنظمة الغربية في المشرق عموما و الوطن العربي خصوصا منطلقة من مسلمات مغلوطة و مشوهة لعبت فيها آلة الاعلام الغربية الضخمة وتوابعها دور المخرج و المنتج حيث ان واقع تلك المجتمعات و زواياها المظلمة قل ما سلط عليها الضوء.

ان مرحلة ما بعد الهجوم على احدى المجلات الساخرة في باريس تشكل مثالا حيا لما تقوم به وسائل الاعلام الغربية من سوق الاحداث في المسارات التي تحددها و تريدها هي لرسم تصور محدد و ضيق للأحداث غير ان كامل الحقيقة مغيبة.

تناقش هذه المقالة أساس العلمانية الفرنسية و تناقضاتها و كذلك التمييز و المشكلة الهوياتية التني يعاني منها الفرنسيون المسلمون في ظل ما يسمى العلمانية الفرنسية.

اتخذ المعلقون والمراقبون في فرنسا وفي بقاع أخرى حادثة الهجوم الإرهابي في باريس فرصة لتسليط الضوء وبشكل أوسع حول المسلمين في فرنسا، وكان بعضهم قد قرأ الهجوم كعلامة لرفض المسلمين الفرنسيين الاندماج مع غيرهم، وتساءل المراقبون حول إمكانية ان يصبح المسلمون علمانيين بشكل تام وطرحوا شكوك أخرى حول إمكانية ان يكون شخص ما مسلم ومواطنا فرنسيا في آن. ولكن حتى نحن نحاول ان نحلل منطقيا ما حدث، ويجب علينا الحذر والتدقيق في اسطورة العلمانية الفرنسية والمواطنة الفرنسية التي نسجت بعد الهجوم.

فرنسا تفهم نفسها وتُصور عادة كأمة صارمة العلمانية والتي تفصل تماما بين الدولة والكنيسة وتحصر الديانات في المجالات الخاصة فقط، لكن الحقيقة أكثر تعقيدا كما استخلصت وتعلمت من عشر سنين من البحث والدراسة.

في عام 1905 ميلادية فصل القانون وبشكل رسمي بين الدولة والكنيسة في فرنسا، على الرغم من انها لم تدخل حيز التنفيذ في المناطق الشمالية الشرقية وخصوصا الألزاس وموزيل التي كانتا تخضع في ذلك الوقت الى الحكم البروسي والتي ضمت الى فرنسا بعدها لكنها لم تخضع لقانون العام 1905، حيث لازالت الكاثوليكية والكالفينية واللوثرية واليهودية اديان رسمية في تلك المناطق ونتيجة لذلك فإن دراسة احدى هذه الديانات الزامية في المدارس الحكومية وتدفع الحكومة الإقليمية رواتب رجال الدين من الديانات الأربع المعترف بها.

 

استثناءات أخرى لفصل الكنيسة عن الدولة

قانون العام 1905 في حد ذاته يتضمن العديد من الاستثناءات فمثلا فهو يمنع الدولة من تمويل عمليات تشييد مباني دينية جديدة، لكنه يسمح للدولة بدفع مصاريف ترميم واصلاح أي صروح بنيت لديانات أخرى قبل عام 1905 «أغلبية هذه المباني هي كنائس كاثوليكية»، وبفضل قوانين لاحقة فإن الدولة تدعم أيضا المدارس الدينية الخاصة ومعظمهم من الكاثوليك وبعضهم مدارس يهودية. وكما انها توكد أثار أخرى من الكاثوليكية داخل النظام التعليمي حيث ان تقويم المدارس العامة نظم ليتناسب مع الأيام المقدسة الكاثوليكية وكما ان المقاصف المدرسية العامة تقدم السمك يوم الجمعة.

ولكن عندما يطلب الفرنسي المسلم توفير هذا النوع من البنى التحتية والدعم المقدم للمجتمعات الدينية الأخرى في فرنسا، مثلا في أن يطلب مدارس إسلامية مدعومة من الدولة او نظام تقويم مدرسي يأخذ بالاعتبار الأيام المقدسة الإسلامية وأيضا الاعتراف بالدين الإسلامي كدين رسمي في الألزاس وموزيل، يرد عليه ويذكر ان فرنسا بلد علماني حيث تتطلب المواطنة الصحيحة فصل الدين تماما عن الحياة العامة.

ويناشد المسلمين ببنى تحتية لإقامة شعائرهم الدينية وهي مطالبات بالمساواة المدنية تحت سقف «المعايير» العلمانية القائمة، لكن وللمفارقة تظل هذه المناشدات قيد استجواب «صلاحية المسلمين ليكونوا مواطنين فرنسيين» من قبل اليمين ذو النزعة الكاثوليكية واليسار ذوي النزعة العلمانية.

التمييز ضد المسلمين

اشعل المسلمون الفرنسيون تناقضات النموذج الفرنسي للمواطنة، حيث ان الدولة الفرنسية تزعم انها تعترف بأفراد كأفراد و ليس كأعضاء في مجتمعات لكنها تميز و باستمرار ضد الأقليات و لأنها ترفض الاعتراف بالهويات الطائفية فإنه ومن الصعب اثبات ادعاءات التمييز على أساس الانتماء الطائفي، حيث انه من المفترض على المواطنين التخلي عن أي ارتباط مع عرق او ثقافة او دين يحل محل الهوية الفرنسية الوطنية، فبالتالي ترفض الدولة جمع بيانات النسب السكانية لعنصر او دين ما، وهذا ما يجعل من الصعب قياس الفوارق العرقية وغيرها سواء في الحكومة او التعليم العالي او الوظائف.

لكن بحوث العلوم الاجتماعية تظهر ان المهاجرين غير البيض والمنحدرين منهم يعانون من تمييز ممنهج على أساس العرق والثقافة والدين.

في الواقع ان العرق والديانة يشتملان ويندمجان معا في مصطلح «مسلم» حيث ان هذا المصطلح يستخدم لتعريف الشريحة التي تنحدر أصولها الى شمال وغرب افريقيا والذي كانوا يوصفون بالمهاجرين والأجانب قبل عدة عقود، او انهم يعرفون عبر انتمائهم العرقي كالعرب مثلا.

ان المواطنين والمقيمين المسلمين يعانون وبما لا يتناسب مع حجمهم السكاني من نسبة كبيرة من البطالة حيث انهم يعانون من التمييز في مراحل التوظيف، حيث انه غالبا ما ترفض السير الذاتية على أساس كون الاسم فقط يرمز لمسلم. وكما ان نسبة المساجين المسلمين غير متناسبة مع حجمهم السكاني ويرجع ذلك جزئيا الى التنميط العنصري والمعاملة المختلفة في نظام العدالة الجنائية، وأيضا كون ان أطفال المسلمين يدرسون في مدارس مكتظة وتعاني من نقص في التموين من الدولة.

علاوة على ذلك فانه وفي السنوات الأخيرة أصبحت الممارسة العلنية للإسلام أصعب على نحو متزايد حيث انه ينص قانون عام 2004 على منع ارتداء الحجاب في المدارس العامة وكما يحظر قانون عام 2010 النقاب في جميع الأماكن العامة، كما انه يتم رفض النساء المحجبات من دخول الفصول الجامعية والبنوك ومكاتب الأطباء.

القوانين المحايدة ليست محايدة!

ونظرا لكون النموذج الجمهوري للمواطنة يرفض الاعتراف بأي مطالبات او ادعاءات طائفية او خاصة بمجتمع معين، فإن أي شخص يدعي انه ضحية ممارسات تمييز ضد المسلمين فإنه «يعزز» الفوارق الطائفية والمجتمعية في داخل ما يسمى «المواطنة» الفرنسية. وعلاوة على ذلك فان التشريعات التمييزية الكثيرة كقانونَيْ الحجاب فقد صيغوا بعبارات محايدة رغم انها وبوضوح تستهدف الممارسات الإسلامية بالتحديد.

فعلى سبيل المثال فإن قانون العام 2004 ضد الحجاب يحظر ما سماه «الرموز الدينية الظاهرة» واما قانون العام 2010 فانه يحظر «ستر وتغطية الوجه» وعندما يحاول أي فرنسيي مسلم اثارة الانتباه لهذه المشكلة فإنه يواجه بتهم اثارة الطائفية والتحدث والتفكير كثيرا ككونه مسلم بدلا عن كونه مواطنا فرنسيا، وليس من المستغرب انه كثيرا ما اتهم تجمع مكافحة الإسلاموفوبيا في فرنسا «CCIF» بإثارة الطائفية.

و حتى عندما يدعي المسلمون و بصراحة انهم فرنسيين «والغالبية العظمى تقوم بذلك» تلك الإدعاءات طالما قوبلت بالرفض و كشاهد فقد رفضت هيئة المواصلات الفرنسية في عام 2012 للسماح لتجمع مكافحة الاسلاموفوبيا بنشر إعلانات تحت ذرائع ان هذه الإعلانات تحمل «طابع ديني» و «مطالبات سياسية»، و كان جزء من حملة تجمع مكافحة الاسلاموفوبيا تحت عنوان «نحن أيضا جزء من الأمة» كما اعيد رسم لوحة لرسام الثورة الفرنسية في عهد داوود  «عهد ملعب التنس» مع إضافة نساء محجبات و رجال عرب مع اغطية الرأس  «Hoodies»  و ابراز التواجد الأرثودوكسي و اليهودي و غيرهم من المواطنين رافعين الاعلام الفرنسية و نسخ من عهد الالتزام بمبادئ الثورة،و بالتالي يؤكد تجمع مكافحة الاسلاموفوبيا التزامهم بفرنسييتهم و دونوا وبشكل رمزي أسمائهم كمواطنين اصليين.

وبدلا عن انشاء تصور نابع من رفض المسلمين لهويتهم الفرنسية، يتم انشاء تصور و استحالة مفترضة لإمكانية كون شخص مسلم ومواطن فرنسي في آن وهذه الاستحالة المفترضة منبثقة من تناقصات العلمانية الفرنسية والمواطنة الفرنسية وبسبب عجز الأغلبية عن تصور المسلمين جزءا من الأمة الفرنسية.

 لا يجب علينا ان ننكر الرعب الذي انتجه هجوم السادس من يناير، ولكن وبدلا عن التأكيد والالتزام دون تمحيص ونقد على الهوية الفرنسية ورفع أيدينا عن فكرة دمج المسلمين فيها، ينبغي علينا ان نستثمر هذه الفرصة لتفكير وفهم تلك الطرق المختلفة التي يتم عبرها استبعاد واقصاء المسلمين على الدوام من الأمة، وإعادة تقييم الحدود الضيقة لما يعنيه مصطلح ان يكون المرء فرنسيا.