كوباني وسايكس بيكو ..من سيرسم الحدود هذه المرة ؟
13 محرم 1436
إبراهيم قارا غُل

المسألة ليست كوباني بل تركيا". هذه الجملة تحمل من القوة ما يكشف حقيقة كل شيء. لقد عبر رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان من خلال تأكيده على هذه الجملة -وعتابه على من لم يفهمها- عن أهمية مرحلة تصفية الحسابات التي لا هوادة فيها والتي نعيشها اليوم في الشرق الأوسط.

 

ونحن ندرك حقيقة أن المنطقة تخضع لإعادة ترسيم وتشكيل في الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى، وأن مهندسي الحرب العالمية يعملون اليوم على إعادة تقسيم المنطقة، وفرض وضع راهن جديد محلّ الأنظمة القديمة، وإبعاد القوى الاقليمية عن المشهد، وإغراق الرافضين لهذا المخطط في دوامة الحروب الطاحنة التي تستنزفهم. حتى أننا نعلم أن جميع الأزمات التي عاشتها تركيا في السنوت الأخيرة كانت نتيجة تلك المخططات.

إن ربطنا لكل ما يجري في المنطقة في السنوات الماضية بفكرة تصفية الحسابات المئوية ينبع من هذا السبب. وندرك أن كلا من اللاهثين خلف المصالح القصيرة المدى، والجماعات والأحزاب التي قضت على المشاعر الجمعية للأمة وألقت بالدولة في مهب الريح تلقاء سعيها خلف السلطة، والمتحالفين ضد تركيا مع مهندسي القرن الجديد يشكلون معاً جبهة واحدة في عملية المحاسبة الكبرى هذه.

 

ما الذي تحاول تركيا أن تفعله؟

إن الحسابات وموازنات القوى الجديدة تنشأ اليوم على أساس سيناريوهات تتضمن إخضاع تركيا لموقف العاجز أمام مسألة كوباني واستخدام تنظيم الدولة وحزب الاتحاد الديمقراطي (تنظيم بي يه ديه) الإرهابيين، كحصاني طروادة في رسم معالم المستقبل.

ودعوني أقول بصراحة، إن ضحايا هذا المخطط هم الأتراك والأكراد. فالآلية التي سيتم من خلالها تشكيل معالم المنطقة تتمثل في استغلال القومية الكردية ومن ثم إفشالها. والجهود الداخلية والخارجية الرامية إلى إفشال عملية التسوية تهدف في الحقيقة إلى منع تحقيق وحدة قوى تستطيع التأثير في المستقبل.

وبإلقاء نظرة على الإعلام الأمريكي والأوروبي في الأشهر الأخيرة نلحظ تركيزاً على تحليلات الشأن التركي وإختلافاً في بعض التوجهات، حيث اختلفت طريقة التعاطي مع الشأن التركي، وقدمت التوقعات حول مستقبل المنطقة والمشكلات التركية الداخلية، وبدلاً من التحليل والبحث في "السياسة الداخلية الضيقة" تم التركيز بشكل واضح على أسئلة من قبل "ما الذي تحاول تركيا أن تفعله؟"، "ما هي تركيا الجديدة؟"، "بأي خطاب تتجه تركيا إلى المنطقة؟" و"كيف سيؤثر هذا الواقع على مستقبل المنطقة؟".

 

الإعلام الغربي لم يعد يناقش تركيا في إطر شأنها الداخلي فحسب. بل أصبح يتناولها على البعد الاقليمي والعالمي. حيث يعبَّر عن تأثيرها على هذين المستويين "بالمخرج المفسد للعبة"، وتدار محاولات لتشكيل جبهة ضد تركيا.

إن خطاب لمعارضة الداخلية يدل على الفشل السياسي الذي تتمتع به هذه الجبهة. ولكن هذا مرتبط بالواقع التاريخي والجغرافي. والمهمة الموكلة إلى المعارضة هو تمويه هذه الحقيقة والتقليل من شأنها. الأمر الذي لم يدركه الجبناء.

 

إن الدولة الكبيرة إن كانت تمر في تصفية حسابات فإنها تجد ضدها ما يقارب السبع دول. تماماً مثلما حصل معنا في الحرب العالمية الأولى ومعركة "شاناقلي". يشهد العالم اليوم على نضال تركيا للتخلص من الوصاية والوقوف على قدمها في الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى. وندرك أن وقوف تركيا على قدميها يعني وقوف المنطقة على قدميها. لذلك فإنهم يسعون إلى تركيع تركيا وحرفها عن مسارها، وجرها إلى منطقة تسهل السيطرة عليها، ومنعها من رفع الرأس والنظر لأبعد مما يسمح لها به.

إنه نضال حقيقي، نضال الولادة من جديد. ولو أن تركيا قد وقفت مكانها وحنت الرأس أمام حلف الأطلسي وتركت سياساتها الداخلية والخارجية تدار من الخارج لما نشأت هذه الجبهة، ولما حدث هذا التحدي والتنازع التاريخي، كان دور تركيا حينها سيصغر ويحبس في إطار ضيق.

 

 

وعلى العكس فقد أفسدت حسابات التقدم. لقد اكتشفوا نقاط الضعف في الداخل التركي وبدأوا بتوجيه الضربات لها. ومن خلال التقليل من شأن النظام الديقراطي واستخدام عنف الشارع، استطاعوا استخدام كل السبل غير المشروعة.

وبهذا الأسلوب انتشرت هذه الفكرة المحلية الى كل المدن والمحافظات والقرى. واستوعبت الأمة وقبلت بهذه الفكرة الجديدة والحساب المستقبلي. ولن يكن من الممكن أن تتخلى ذهنية الشعب التركي عن هذه الفكرة. ولكن الذين يحاولون إنشاء جبهة ضد تركيا ليسوا مدركين لحقيقة ذلك بعد.

 

سايكس بيكو الجديدة والحدود الجديدة.

لفت انتباهي سؤالان وجها إلى أردوغان في معهد العلاقات الدولية الفرنسي. كان أحدهم سؤال صحفي فرنسي مشيراً إلى بناء رئاسة الجمهوري الجديد حيث قال: "لماذا تريدون نقل القصر الرئاسي إلى بناء جديد وليس "شاناكايا" (القصر الرئاسي القديم)؟". لقد كان يبحث من خلال سؤاله عن الرموز عن حقيقة وجود تغيير في النظام. والأهم من ذلك، كان يبحث عن موقف تركيا الجديدة من هذا التغيير.

عالِم السياسة الفرنسي "غيليس كيبيل" كان يرغب في الحصول على تصريح من أردوغان يفيد "انفكاك عروة الحدود المصطنعة التي أوجدت بعد الحرب العالمية الأولى". هل هناك حدود جديدة ترسم؟ وما موقع تركيا من الحدود الجديدة؟ ومن سيرسم هذه الحدود؟ وهل تعاكس اتفاقية سايكي بيكو التاريخ؟ واين تقع تركيا من كل هذا؟ هذه هي الأسئلة التي تحيرهم في الحقيقة.

 

لا أحد يهتم بأحداث السياسة اليومية العابرة. بل يحاولون فهم موقع تركيا على نطاق أوسع، على مستوى إقليمي أو حتى دولي. وكما يناقش الإعلام الغربي هذه النقاط، تواصل العواصم الغربية نقاشها حول تركيا. إن هذا موقف جديد وسيستمر على هذه الشاكلة. فالدول والاستراتيجيات الأمنية وتصاميم المنطقة ستناقش دوما ً في هذا الإطار وبحيث تكون تركيا مركز المعادلات.

لقد أدرك الإعلام الغربي والسياسة الغربية هذا التوجه التاريخي والموقف الجديد والتغير الكبير. كما أدركه الشعب التركي. إلا أن ذكاء المثقفين لم يسعفهم، ولم يدركه البعثيون من الأتراك والأكراد. أما الذين أدركوا حقيقة الموقف فهم يحاولون إعاقة حركة تركيا، بسبب خلوهم من مشاعر الانتماء للأمة أو بسبب انتماءاتهم إلى جماعة أو تنظيم معين أو بسبب العروض التي تقدم لهم من الخارج.

 

ماذا علمتنا أحداث كوباني؟

إن حرب التنظيمات الجارية في كوباني قد علمتنا شيئاً واحداً: حتى الداخل التركي قد يستغل كساحة حرب ضد تركيا. وهذه المرة قدم العنف تحت غطاء القومية الكردية. وسيستمر الحال هكذا. وستستغل كل الفرص بنفس الشكل.

إن تنظيم الدولة وحزب الاتحاد الديمقراطي يمثلان حصان طروادة في حرب القوى الاقليمية هذه. لقد احتلوا الواجهة الأمامية للحرب، ولكن في الخلف تدار حسابات أخرى تماماً، مثل التصميم الجديد للمنطقة، وتقسيم الدول أو ضمها.

هناك طريقة واحدة لإنفاذ هذه الحسابات وهو صرف تركيا بعيداً عن المسألة. ولكن كونوا واثقين تماماً من أنهم لن يستطيعوا فعل ذلك