17 شعبان 1436

السؤال

لا أعرف بالتحديد هل ما أعاني منه نتيجة لأعراض مرضية أم وهم ، فأنا عمري 19 سنة وقد تعرضت للتحرش في سن العاشرة، ثم بعد انتقالي إلى المرحلة المتوسطة صرت أسبب حساسية للرجال البالغين، فكل من يجلس بقربي أو خلفي يصيبه العطاس وسيلان الأنف وارتفاع درجة الحرارة...الخ، وهذا بدون أن ألمس أحداً، وأنا فتاة محجبة ولا أضع عطراً ولا مكياجا ولا ما يثير..
وفي المرحلة الثانوية ارتحت لأنني كنت بمؤسسة تعليمية خاصة بالبنات، لكن بعد انتقالي إلى الجامعة صار بعض من في القاعة من الرجال يتحسسون بسببي، حتى عندما يزورنا ابن عمتي أو خالي، بمجرد أن أقف أمامهم أو أسلم على أحدهم تظهر عليهم الأعراض نفسها من عطس وسيلان الأنف، فأنا حائرة ولا أعرف سبب ما يحصل معي، هل هو خلل هرموني أم ماذا؟؟

أجاب عنها:
صفية الودغيري

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أختي السائلة الكريمة، بداية أشكرك على رسالتك، وعلى ثقتك بموقع المسلم وطرحك لاستشارتك، أما بالنسبة لمشكلتك فألخصها في مسألة محورية وهي: معاناتك من ظهور أعراض الحساسية على الرجال البالغين في أماكن اختلاطك بهم، كسيلان الأنف، والعطاس، وارتفاع الحرارة، مع جهلك بالأسباب..
وتفسيرها العلمي والطبي: أن أعراض الحساسية ترتبط عادة بمواد معينة تُعرف بعد تشخيص حالة المريض وإجراء تحاليل تُظْهِر مادَّة التحسُّس، وهي كنتيجة إفراط في استجابة جهاز المناعة وتعرُّض أغشية الأنف لأجسام غريبة، تؤدي إلى تهيُّجِها وانتفاخها، فيؤدي ذلك إلى أعراض الحساسية كالعطاس، والحكة، وارتفاع الحرارة..، وهي في أغلب الحالات نتيجة مرض وراثي، وبالتالي فلا علاقة لأعراض الحساسية بأعراض الإثارة والشهوة، ولا ترتبط بالتحسُّس بين الجنسين..
وعليه فالمشكلة لها علاقة بالاختلاط، بدليل أن تلك الأعراض اختفت عند المرحلة الثانوية، لأنك كنت بمؤسسة تعليمية خاصة بالبنات..
وغالب ماأظنه أن ذلك ظن من عندك لا يدعمه الدليل العلمي، وقد يكون ذلك من أثر نفسي تراكمي.
ومن الإرشادات التي أقدمها لك - أختي الكريمة - ما يلي:
أولا: عليك أن تدركي بأن حكمة الله اقتضت وجود فوارق ثابتة بين الرَّجل والمرأة ليكمِّل كلاهما الآخر، ويكون عونًا له على طاعته لا معصيته، مصداقا لقوله عز وجل: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾، وهذا من شأنه أن ينير بصيرتك للخير والصلاح والاستقامة..
فالأولى بك - أختي الكريمة - أن تحْرصي على أن تجعلي حدودًا فاصلة بينك وبين الرجل، حمايةً لك من ضِعاف القلوب وسيِّئي الخُلُق والدِّيانة، ولهذه الغاية حذَّرنا شرعنا الحنيف من الاختلاط بين الجنسين، حماية للمُجتمع من الرَّذائل، وحِفاظًا على استقامة النُّفوس وعِفَّتِها، وصلاحِ البيوت واستقرارها، فخاطب نساء النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرات، فقال عز من قائل: ﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾، وقال جلَّ وعلا: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾..
ثانيا: احْتاطي ما استطعت لذلك سبيلا بأن يكون حجابك أكثر سُتْرَة واحْتِشامًا، وأن تتوفَّر فيه شروط الالتزام بالحجاب الشرعي المأمور به، واصْرفي نفسك عن كلِّ مظاهر الزِّينة والتبرُّج خارج البيت أو أمام الأجانب من الرجال، وتجَنَّبي الخلوة والاختلاط بالرجال، أو مزاحمتهم في الأسواق، ووسائل المواصلات، وما شابهها إلا لقضاء حاجة أو ضرورة، مصداقا للأمر الإلهي: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾؛ لأن في ذلك سدًّا للذرائع ولكلِّ الطُّرُق الموصِلة إلى الوقوع في الفاحشة والرذيلة وإثارة الشهوات..
ثالثا: لا تجعلي تركيزك بالكامل موجَّهًا إلى ما يظهر على الرجال من أعراض وتربطي صِلَة وَصْل بينك وبينها على أساس أنك السبب الجوهري، ولا تُعيري اهتماما أكبر لكلِّ ما يحدث حولك، ولا تفكِّري كثيرا فيما تلاحظينه بعينك، أو تشعرين به بوجدانك، فمن رحمة الله بنا أنه لم يكشف عنَّا الحجاب، وستر عتَّا كثيرا من التفاصيل ودقائق الأمور، ولم يخبرنا بكلِّ العلوم والمعارف والحقائق، لأنَّ العقل البشري قاصر عن إدراك ذلك في زمانه ومكانه..
رابعا: وجِّهي اهتمامك لدراستك، ودرِّبي عقلك على أن لا يفكِّر إلا بالغاية التي توصِلك إلى تحقيق طموحِك العلمي، والبحث عن أسباب الارتقاء بثقافتك ومعارفك وتوثيق علاقتك بخالقك، وتحسين أخلاقك وسلوكِك العام، وتجديد أسلوب التزامك وتديُّنِك، والارتباط بالقراءة المثمرة واليومية لأن من شأنها أن تطوِّر مهاراتك في التفكير والفهم، والتحليل والاستنتاج، وستساعدك في تنظيف وعاء العقل، وتطهيرِه من محتواه الفاسد، ومَلْئِه بمحتوى زاخِر بثراء في الأفكار والمعلومات والتجارب، التي تشحذ همَّتك للإنتاج الجيِّد والعطاء المُثمِر، وتصْقُل شخصِيَّتك، وترتقي بتفكيرك ووجدانك، وتفتح أمامك آفاق الثقافة والمعرفة الحقيقية، التي ستخلِّصك من رواسِب الماضي والأفكار التي لا قيمة لها، فلا يظل بذاكرتك إلا الأهم والأصْلح والأنفع والأجود..
خامسا: لا تنْساقي وراء أوهامِ مُخيِّلتك التي ما زالت فتِيَّة، ولا تميلي إلى كل ما تراوِدُك به نفسك، فهذا من شأنه أن يزرع الشكوك بقلبك، ويفسد صفاء عقلك، وينحرف بتفكيرك عن جادَّة الطريق..
وكوني صاحبة إرادة قوية توجِّهك لاختيار ما هو أهم وأفضل لحياتك، ولا تفقدي قوة شخصيتك وقدرتك على التحكُّم بمشاعرك، وقيادة أفكارك في الاتجاه الصحيح
سادسا: اكتشفي مفاتيح شخصيتك لوُلوجِ أبواب قلبك وعقلك، ولامتلاك كيان مستقل بذاته، واسْتخْدِمي بعدها تلك المفاتيح لتهزمي مواطن الضعف في شخصيتك، وتقودي رغباتك النفسِيَّة قيادة حكيمة ومتَّزِنة، وتتحكَّمي في احْتياجاتِك العاطفِيَّة والغريزِيَّة، وتُديري شؤون حياتك إدارة رشيدة..
واعْملي على تصحيح نظرتك للرجل وترشيد علاقتك به وِفْقَ ما يناسِبُ خصائص كلاًّ منكما، وما ينْسَجِم مع مؤهِّلاتِه، والمهام المنوطة به، لا وِفْقَ ما يناسِب الأهواء، والنزوات والرغبات العاطفية والجسدية..
وفي الختام..
أَفْسِحي لروحك مساحةً رَحْبَة للتقرب من الله تعالى بالطاعات، ومناجاته في أوقات استجابة الدعاء، حتى تتحرَّري من تلك الهواجس والمشاعر التي تُريبك، وتُتْعبُك وتسبِّب لك التأثُّر النفسي، واجتهِدي في دراستك لتحقِّقي غايات وجودك..
وتخلَّصي من القيود والأغلال التي تصْرفك عن تحقيق أهدافك النبيلة بالحياة، واكْبحي جِماح عواطفك وفورةَ مشاعرك، وما من شأنه أن يصرفك عن ممارسة حياتك بشكل طبيعي..
وركِّزي على الجانب المشرق والإيجابي في شخصيتك، واغتنمي مرحلة شبابك في التزوُّد بالعلم النافع، والإقبال على العمل الصالح، والجدِّ في الإنتاج، والسعي الطيب الحلال، وكوني الفتاة العاقلة الكيِّسَة الفطِنة التي تنجح في احتواء معاناتها احتواء كاملا..
أسأل الله العلي القدير أن ييسر لك سبل الهداية والاستقامة، وان يعفَّ نفسك ويحصنك بحصنه المنيع، وأن يشغلك بما فيه الخير والنفع..