21 ربيع الأول 1438

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا فتاة أبلغ من العمر ١٥ سنة، وأعاني من مشكلتين، أما مشكلتي الأولى: فقد التزمت قبل سنه ولله الحمد، وكنت في بداية التزامي أحب الله كثيراً، وكان قلبي رقيقا، ولكن أحوالي تغيرت للأسوأ، ولما حل شهر رمضان استبشرت خيرا واعتقدت بأنني سأتغير للأحسن ولكنني للأسف لم أنجح في أن أحقق أي تقدم، مع أنني دائما أحاول أن أتقرب إلى الله بطاعته، وأقوم الليل قدر استطاعتي، وفي كل ليله أتوب إلى الله وأعاهده على أن لا أعصاه أبدا.. وأصلي الفجر وأنام وفي اليوم الموالي أنسي عهدي مع الله وأعود مثلما كنت عليه، وقد دعوت الله كثيراً أن يهديني ولكن حالي على ما هو عليه، فماذا علي فعله لكي أتغيّر؟ أما مشكلتي الثانية: فأنا أعاني من مرض العُجب، ولا أعلم إن كنت حقا كما أعتقد أعاني من هذا المرض أم يتهيأ لي، ولكنني خائفة جداً من أن يخالط عملي عجب وآتي يوم القيامة فيحبط كل عملي، ولا أزِنُ عند الله شيئاً ثم أُكبُّ في النار، فأنا أعلم بأن الله هو من يوفقني لكل خير، وهو سبحانه من يتداركني برحمته ويهدي قلبي لطاعته، ولكنني أحيانا إذا أطعت الله أفرح بعملي وأُعجب به، حاولت كثيرا أن أتغير في رمضان وأسعى للهداية، وأقوم الليل كله وألحُّ على الله بالدعاء ليهديني الطريق المستقيم، ولكن نفسي السيئة تقول لي: ما دام عملك كلّه سيحبط بسبب العُجْب الذي في قلبك لماذا تطيعين الله كثيراً وتحاولين؟! أرجوكم ساعدوني لأجد حلا لمشكلتي وأتخلص من العُجب الذي في قلبي وإلا سيهلكني في دنياي وآخرتي، والله الموفق.

أجاب عنها:
صفية الودغيري

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

 

يسرني اليوم أن أستقبل من فتاة في مقتبل عمرها استشارة تسأل من خلالها عن حلٍّ لمشكلتين تعاني منهما، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على ما تحملينه في قلبك الفتي من صفاء ونقاء فطرة، واستعداد قوي للتوبة والهدايه، وإصرار على التغيير والإصلاح، وعزيمة قوية على شق طريقك على بصيرة، فأسأل الله العلي القدير أن يوفقني ني لمساعدتك.

 

فأما بخصوص مشكلتك الأولى فتتمحور حول قضية واحدة جوهرية وهي: معاناتك من تقلُّب أحوالك بين رقة القلب وقساوته، وقوة الإيمان وضعفه، وبين الهداية والظلال، وبين الطاعة والمعصية..

 

وهذه الحالة يشتكي منها الجميع، ولكن الذي يتقدَّمُنا هو من ينتصر على ضعفه بقوته، ولا يستسلم لليأس والإحباط، فهو دائما في محاربة للشيطان، ومجاهدة للنفس، وأنت الآن أختي الكريمة في أول طريق الهدايه، فماذا عليك لتحقيق التغيير الحقيقي والجذري؟؟

 

إن ارتقاء سلم الطاعة ليس بالهين السهل، بل يبدأ من الأسفل في صعود إلى الأعلى، والصعود ليس كالهبوط يحتاج قوة صبر وكفاح ونضال وشجاعة..

 

وكلما ارتقيت هذا السلم ستتعرَّضين للمتاعب والشدائد، وستواجهين بطريقك الحفر فتتعثَّرين وتزلُّ قدمك وتهوى وقد تنكسر.. ولكن هل ستستسلمين؟؟

 

إنك أختي الغالية إذا أردت الهدايه عليك أن تسلُكي سبيلها، وتتركي ما ينافيها، ولكن كيف ذلك؟؟

 

أولا: عليك بالتوبة النَّصوح بالإقلاع عن كل ذنب، وليس بالاستمرار والإصرار على معصية الله، مصداقا لقول الحق سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون"

 

ثانيا: عليك أن تستحضري دائما عظمة الله، وقدرته، وبطشه، وعقابه، وتتخيَّلي في جلسة محاسبة ومكاشفة وخلوة ذلك المشهد العظيم يوم القيامة، والعرض عليه سبحانه، والوقوف بين يديه، وتتخيَّلي كيف ستقبلين على الله؟، وكيف ستسلكين الصراط؟، وكيف ستفتحين كتابك أمام كل الخلائق؟ وكيف ستقرئين من أول السطر حتى آخره كل مثقال ذرة من خير أو شر قلته أو فعلته؟؟..

 

وكلما قسا قلبك تكررين عرض هذا الشريط من المشاهد مع الصدق في استشعار الخوف من لقاء الله وسؤالك عن أعمالك، واستحضاره بالقلب والجِنان، وتذكُّر الموت والحساب والعقاب، والجزاء والثواب، وهذا كفيل بأن يردع نفسك عن هواها، ويبعث فيك الحرص على مراقبته في سِرِّك وعلنك، ويحُثَّكِ على التقرب من الله بكل جوارحك، حتى يتمكَّن حبه من قلبك ويمتلكه فلا يسَعُ سواه.

 

ثالثا: التزمي في كل حالاتك مجاهدة النفس لقوله تعالى قي سورة العنكبوت الآية69: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}..

 

ومحاربة الشيطان بمخالفة هواه وعدم الانسياق وراء خطواته، مصداقا لقول الحق سبحانه في سورة النور آية 21: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: من الآية21]..

 

رابعا: عليك أن تحصِّني نفسك من الفتن ومن حبائل الشيطان ومكائده، وتتفقَّدين ما يحمله قلبك ويستوطنه من الأمراض، فتعالجينه بترياق الذكر، والتزام ورد يومي لقراءة القرآن وتدبره وحفظه، مع المحافظة على أداء الفرائض والإكثار من النوافل، لأن من وفقه الله لذلك أحبه وسدَّد خطاه، فقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي بها، ويده التي يبطش بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"..

 

خامسا: أكثري من مجالسة أهل التُّقى والعفاف والصلاح، فالصحبة الصالحة كالشجرة المباركة المثمرة، إن لم تطعم من ثمارها تنعَّمت بظلالها، أو من يصاحب حامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاعي منه وإما أن تجدي منه ريحا طيبة، وكذلك شأن جلساء الخير ينالك ما ينالهم بطيب أقوالهم وصلاح حالهم واستقامتهم.

 

أما بخصوص مشكلتك الثانية فهي تتمحور حول شعورك بمعاناتك من مرض العجب، وأرى أنك أختي الكريمة بحسب ما عرضته علينا في استشارتك أن ما تعانين منه حقا ليس مرض العجب بل هي وسوسة من وساوس النفس والشيطان، يصيبك أذاها ليصرفك عن طريق الهدايه، ويضع على قلبك أقفالا وأصداء، حتى يتمكَّن منك اليأس والقنوط والإحباط فلا تقبلي على طريق الله بهمة وعزيمة، فالشيطان يحاربك من هذا الباب بأن يبث سمومه بداخلك، وينفث في روعك فيصيبك الشك بسهامه، حتى لا تبرِّي بعهدك مع الله، ولا تحافظي على التزامك بالطاعة والتوبة، لأن حَدَّ العُجْب هو الانصراف عن شكر الخالق إلى شكر النفس، وأنت أختي الكريمة تدركين أن ما وصلت إليه من فضل الله وتوفيقه، والعجب هو الانصراف عن الثناء على الله بما يستحق إلى الثناء على النفس، وأنت لا تفترين عن قيام الليل والدعاء وطلب الهدايه، والعجب هو ترك التواضع للخالق والانكسار بين يديه والتحوُّل إلى التكبر والغرور، وأنت تشعرين بالخوف من الله ورقابته وهو يظهر في سعيك للتغيير، وحرصك على أن لا تحبط أعمالك بما قد يخالط نفسك من أمراض القلوب..

 

وقد فسر ابن حجر إعجاب المرء بنفسه في الفتح فقال: قال القرطبي: (إعجاب المرء بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال، مع نسيان نعمة الله، فإن احتقر غيره مع ذلك فهو الكبر المذموم)..

 

وإذا كان الهلاك أختي الكريمة في إحباط العمل بالعجب فكذلك الهلاك في القنوط من رحمة الله، فليكن سبيلك لتحقيق الهدايه والصلاح والسعادة هو التوسُّط والاعتدال وعدم إرهاق النفس بالشك والوسوسة، وجعلها تتحمل أكثر مما تطيقه، فلا يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، ولكنها ساعة تتذوَّقين خلالها لذة العبادة وساعة تتذوقين لذة إقبال النفس على شهواتها الحلال، وليكن حالك ببين فرح النفس بالطاعة وفرح النفس بالتذلُّل لله والانكسار بين يديه، وبين حالتي الرَّجاء والخوف، وتحاربين شكوكك وأوهامك بالإكثار من شكر الله وعدم الاستسلام ليأسك، بالهمة في العمل، ودائما أنت في نصب وكدح، تنتقلين من طاعة إلى طاعة ومن عمل إلى عمل، وتصِلين السعي بالسعي، والدعاء بالدعاء، وتواظبين على المجاهدة، والطلب، والتشمير، في حالتي الجدِّ والكسل، والفتور والنشاط، والقوة والضعف..

 

وفي الختام هديتي إليك أختي الكريمة:

يا مظهرَ الكبر عجباً بصورته *** انظر خلاك فإن النتن تثريب
لو فكر الناس فيما في بطونهـم *** ما استشعر الكبر شبان ولا شيب
هل في ابن آدم مثل الرأٍس مكرُمةً *** وهو بخمس من الأقذار مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها سهـك *** والعين مرفضة الثغر ملعوب
يا ابن التراب ومـأكـول التـراب غدا ً *** أقصـر فإنـك مأكـول ومشروب

 

أسأل الله العلي القدير أن يرزقك الهدايه والصلاح والاستقامة، ويعيذك من حبائل الشيطان ومكائده، وينشئك على طاعته ومرضاته، ويثبتك على الحق، ويصرف نفسك عن شر الوساوس، ويطهر قلبك من الأمراض.