كل ألعاب السياسة لا تنقضي بانتهاء بعض جولاتها؛ فالآن بعض الأمطار والفيضانات خففت مؤقتاً من وقع الاضطرابات التي ضربت العاصمة الباكستانية إسلام آباد، لكنها لم تخفف من حدة القلق على مستقبل باكستان السياسي.
انحسرت المظاهرات قليلاً، لكن يبدو أن الأزمة لم تزل مشتعلة، وإن خبت فإن آثارها ستظل مؤثرة على حكومة نواز شريف؛ فالذين خرجوا ضده أملوا أن يمثلوا "ثورة مليونية"، لكن رجاءهم قد خاب، فالشعب الباكستاني لم يخرج ضد شريف لأنه يعرف ببساطة وسائل التغيير السلمي للسلطة حتى وإن كانت شكلية نوعاً ما، ولم يخرج من أجل "السياسي المفسد" كما يلقبونه، عمران خان، لاعب الكريكت الذي لا يشبع من السفر ولا السهر في لندن، لحنقه على نواز شريف بزعم تجاهله للتحقيق في وقائع تزوير محدودة في الانتخابات الماضية، ولم يخرج من أجل الدكتور محمد طاهر القادري بائع الوهم، "الإسلام الغربي".. لكن مع كل هذا؛ فإن أحداً لم يأخذ مغامرات ونزوات هؤلاء على محمل الجد، وإنما حمل كثير من المراقبين صمت المؤسسة العسكرية الباكستانية وتماهيها مع المظاهرات حتى تنجح على محمل الاهتمام.. لكنها لم تنجح!
المظاهرات إذن كانت جولة ضد شريف التي أسفرت المؤسسة العسكرية بوضوح لا تخطئه عين عن أنها غير مرتاحة له، وإن قبلت بوجوده على رأس الحكومة على مضض هذه المرة، ربما بعد فشل المظاهرات حتى الآن، وإعلان الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة العلاقة الوثيقة مع عسكر باكستان، وكل عسكر تقريباً، عن عدم قبولها بتغيير قواعد اللعبة الديمقراطية في باكستان.
والولايات المتحدة لديها تحفظان على تغيير نواز شريف بطريقة تتخطى صناديق الانتخابات، لسببين رئيسين، أولهما أنها تريد عرقلة مطامح الاستخبارات العسكرية الباكستانية في العودة مجدداً لأفغانستان، وثانيهما أنها لا ترغب في أن تنتشر عدوى الانقلابات إلى بلاد مؤثرة أخرى من دول تحتفظ بعلاقات دافئة مع أنظمتها؛ فهي تكتفي في هذه المرحلة بما تم في بلاد أخرى، وتحجم عن تكرار ذلك حتى في بلد اعتاد على الانقلابات العسكرية، لأنها لم تعد تأمن مغبة استرسالها في دعم النظم الشمولية العسكرية الاستبدادية على مستقبل تلك النظم ذاتها.
ربما العسكر يكتفون في هذه المرحلة بممارسة ضغط عنيف على نواز شريف لتطويعه تماماً، وربما استرسلوا في دعم "الثورة" الوهمية التي لا تشارك فيها الأحزاب الرئيسة في حكم ولا معارضة، ولا قطاعات جماهيرية عريضة، وإنما مجموعات أشبه بالبلطجية الذين عرفهم "الربيع العربي" لإجهاضه!
لكن على أية حال؛ فإن ما حصل من فوضى بالقرب من مؤسسات التلفزة والبرلمان والحكومة في باكستان، وتواطؤ أجهزة عسكرية وأمنية في تركه حتى يصل السكين حد عنق رئيس الوزراء، مؤذن بأن مرحلة ما قبل هذه الفوضى ليست كما بعدها؛ فبعدها إما ضعف شريف وخضوعه لإملاءات العسكر إن لم تفلح عملية إطاحته، أو حافز يغلب على رئيس الوزراء لكي يسعى لـ"مدنية" باكستان التي أصر الغرب الذي كان يحكم شبه القارة الهندية على أن تبقى عسكرية.. والأيام كاشفة