ما ينبثق عن الاجتماعات المتوالية التي تعقدها الحكومة الصهيونية المصغرة، هو ما يمكن توصيفه سياسياً بـ"الهروب إلى الأمام" عبر طريق واحدة، هي رفع وتيرة المجازر الوحشية، والضغط العسكري على المقاومة من خلال: قتل المدنيين، والتسبب في أزمة طبية شديدة بجرح عدد كبير بالآلاف بما تعجز الإدارات الطبية عن علاجهم، وقطع الكهرباء بقصف المحطات الكهربائية، التسبب في شح المياه والمؤن الغذائية، التهجير الداخلي في غزة.. لكن الصهاينة يدركون مع هذا أن كل يوم يمضي من القتال يزيد من فداحة خسائرهم؛ فحتى كتابة هذه السطور تكاد تقديرات المقاومة تلامس حد مائتي قتيل من جنود الاحتلال وأضعافهم من الجرحى، وهذا رقم هائل جداً مقارنة حتى بالحروب التي خاضتها "إسرائيل" مع جيوش نظامية مجتمعة، وهذا وضع لا يمكن استمراره من قبلهم لمدة طويلة.
المقاومة من جهتها، وأمام ما تكابده غزة من حصار خانق، لا يمكن قبول استمراره، ولا استمرار التحكم فيه من قبل آخرين لا يشاطرون أهل غزة في طموحهم بتحقيق استقلال تام عن الاحتلال الصهيوني، وتحرير وسائل الانتقال للمواطنين والبضائع من وإلى غزة، وحيال حجم الضحايا في صفوف المدنيين الفلسطينيين، ونقض الكيان الصهيوني لاتفاق 2012 واختراقه بما يزيد عن 100 اختراق من أبرزها إعادة اعتقال محرري صفقة شاليط، وإزاء معطيات انتصار على الأصعدة العسكرية، والسياسية، والأخلاقية دولياً وإقليمياً ومحلياً لا تجد ذاتها في وارد التراجع عما حققته من مكتسبات، وما بذلته من تضحيات.
الحلف المناوئ للمقاومة في غزة، أمريكياً، وأوروبياً، ومن بعض أنظمة الدول العربية المعادية لفلسطين لا يمكنه من جهته إعلان هزيمته أمام المقاومة الفلسطينية إن انتهت الحرب لصالحها، لما يترتب على ذلك من انعكاسات إقليمية ودولية، ولما سيترتب عليه تلقائياً من اشتعال الانتفاضة في الضفة الغربية، ولما سينجم عنه من تغيرات أيديولوجية مؤثرة في المنطقة، لاسيما على صعيد القطاعات الشبابية، لذا هو يعتقد أنه مضطر للاصطفاف مع الرغبة "الإسرائيلية" في هزيمة المقاومة الفلسطينية بتنوعاتها واختلاف أطيافها.
الحلف الذي يدعي المقاومة، وتحديداً إيران وسوريا و"حزب الله" يجد نفسه قد وقع في مأزق لا يحله إلا انهزام المقاومة في غزة، برغم ما قد يبديه إعلامياً من تعاطف باهت، لأنه يتعاطى الآن مع واقع جديد لا تعتبر فيه الفصائل الفلسطينية امتداداً له، وإنما مدداً للفصائل التي تقاتله في سوريا والعراق، لكنه مع ذلك، وتحديداً إيران، يستفيد من تنامي قوة مقاومة سنية في تخفيف أي ضغط يمكن أن يقع عليه مستقبلاً، باعتباره "البديل المضمون" حال مثلت السنة تحدياً أكبر.
روسيا، والصين، موقفهما غامض بعض الشيء، لكنه لا يمكن تجييره كلياً في اتجاه الولايات المتحدة، فقد سمح العدوان بفرصة لتمدد أكبر في أوكرانيا دون "معاناة دولية".. وثمة موقف متنامٍ لدول كان بعضها يدور في فلك الاتحاد السوفييتي سابقاً في أمريكا الجنوبية يدل على أن شعور رفض "الامبريالية الغربية" صاعد هناك، وعلى أكثر من محور.
في الأخير، تبدو المقاومة متمتعة بمزايا هذه المرة مختلفة جذرياً عن السابق؛ فبيدها أوراق الصواريخ التي أخفقت القبة الفولاذية في اصطيادها، والأنفاق، والخسائر الصهيونية الفادحة، والأسير الصهيوني، والتعاطف الشعبي في كثير من بلدان العالم، والانتصار في المعركة "الأخلاقية" للحرب، وصعود المحور المؤيد لها.. ولا تبدو "إسرائيل" في وضع لها ـ كما يقول أوباما ـ "باختيار الوسطاء"! وربما كان لهذه الحرب تأثيرها الإقليمي الذي تعجز التقديرات عن التكهن به الآن..