آمنّا برب الغلام ....
26 رمضان 1435
براء نزار ريان

فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ"!*

 

لم يخطر ببال المستوطنين المجرمين الذين قتلوا محمّد أبو خضير أن يروا "إسرائيل" كلّها تحت القصف ببركة دمه، تخلو الشوارع، وتتعطّل الأعمال، وتحتشدُ الملايين في الملاجئ، ويعيشُ "شعب إسرائيل" أيامًا أسوأ من الكوابيس، ويجود الفلسطينيون بأنهارٍ من الدماء مقاومةً وتحديًا، ضنًّا أن يُهدروا دم فتىً مقدسيٍّ قُتل غيلةً وغدرًا.

 

لطالما لاحظ المتأملون أن في دماء الصغار بركةً ولعنة، بركةً تحلّ في أولياء الدم، توحّد صفّهم، وتبارك أعمالهم، ويحسن بها ختامُهم، ولعنةً تلاحق أعداءهم، وتقضّ مضاجعهم، ولا تغادرهم إلا مهزومين مخذولين مخزيين، هي لعنةٌ محذورةٌ مخيفة: "أدري بأنك لا تخاف الطفل حياً، إنما أدعوك صدقاً، أن تخاف من الصغار الميتين!!"

 

ولو أن المحتلّ نظر تاريخنا معه، لرأى الانتفاضة الأولى اشتعلت بدماء حاتم السيسي، والثانية بدماء محمّد الدرّة، والآن تثور فلسطين كلّها بدماء محمّد أبو خضير! إنه دمُ الغلام!

 

قُتل محمّد وأحرق، غير أنّ النار التي اشتعلت فيه، انتثرت شررًا في قلوب كلّ فلسطيني، واستحالت غضبًا اكتوى به المحتلّ في القدس وسائر الضفة وأراضينا المحتلّة سنة 1948، ثمّ تُوّج بمعركةٍ غزّية بطولية جعلت الكيان من أقصاه إلى أقصاه يستحيل بالرّعب كعصفٍ مأكول! لقد وقع ما كان يحذرُ الصهاينة! آمن الناس!!

 

إنّ ما يميّز غزّة هذه المعركة هو صمود أهلها الأسطوري، صبرُهم على القتل، وما أحرّ القتل، وتجلدهم أمام الفقد، وما أمرّ الفقد! وتطليقهم للخوف، وما أكثر أسبابه! غزّة اليوم تواجه –كما في تتمة قصة الغلام- أخدودًا حقيقيًا من نارٍ وقودها حديد وبارود! وأهلُها في اطمئنانٍ عجيب، يثبتون في دُورههم، ويهتفون لمقاومتهم، ويتشددون في الشروط، ويستهزئون بالمحتلّ الجبان المستقوي بطيرانه، الفارّ من مواجهتهم على الأرض!

 

إنّك إن قلّبت صفحات أهل غزّة على مواقع التواصل، لن تجد منهم إلا ثباتًا ورباطة جأش، وإعراضًا عن التهدئة وأخبارها، وبهجةً بالصواريخ والضفادع البشرية والطائرات القسامية، ودعواتٍ للمقاومة أن ترفع السقف، وأن تتشدد في الشروط، فتختلط عليك المشاعرُ بين فرحةٍ وإكبار، وغبطةٍ وشعورٍ بالصغر أمام هؤلاء الثابتين، وأمنيةٍ لو أن الله كتب لك أن تعيش هذه الأيام معهم، وهم يتمثّلون قوله عزّ وجلّ: "فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم، وأنتم الأعلون، والله معكم ولن يتركم أعمالكم"!

 

أما المقاومة الفلسطينية فقد سجلت في هذه المعركة العظيمة نقاطًا كثيرة في سجلّ الشرف والمجد، وصار لها على العرب والمسلمين أيدٍ كثيرة، ومنّة عظيمة، إذ تصنعُ سلاحها بيدها، وتقهر المستحيل منازلةً علنية، وتعطي الدّرس لكلّ صاحب قضية في الأمّة، أن لا يُعوّل على غير الله ومبادئ الحق والعدل، إذ أنها وقد حاصرها بنو الجلدة، وتآمر عليها عبيد أمريكا من حكام الجور، وانفضّ عنها الحلفاء، وزهد فيها الداعمون، واشترط عليها المشترطون! فإذا بها تزدادُ تألّقًا، وتجعلها الظروف الصعبة تخلقُ نموذجها الجديد، وطريقتها الفريدة!

 

هذه الكلماتُ تُكتبُ، ورحى المعركة تدور، والآمالُ الكبيرة معقودةٌ على فلسطين كلها، الضفة وأراضينا المحتلة أن تعلو فيها وتيرة المواجهات حتى تغدو انتفاضة شاملة، وعلى غزة الإباء أن تزداد صمودًا وجهادًا، وتفاجئنا كلّ يومٍ بما أعدّت وخبّأت، ثم تنتزع لفلسطين انتصارًا جديدًا، وتقرّبنا نحو التحرير أكثر فأكثر، وما ذلك على الله بعزيز.

 

المصدر/ موقع القسام