هل تنجح مبادرات وقف اقتتال المجاهدين بالشام؟
7 ربيع الأول 1435
تقرير إخباري ـ المسلم

أيا كان الخلاف بين المجاهدين في الشام فلا بد أن يحل , لأنه بلا شك لن يكون بحجم الخلاف بين الثوار وحكم الطاغية بشار , ومهما كانت أخطاء بعض الأطراف فيه كبيرة أو جسيمة - ولا تمس المعتقد والإيمان بالطبع - فلن تكون بحجم الكوارث التي جلبها نظام النصيرية على سورية , فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون كما ورد في الحديث .
وما دام الخلاف لم يصل إلى درجة التعنت والتمسك بالرأي , والخروج عن قواعد التحكيم المبينة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , والذي يعتمد على مبدأ الإصلاح والتوفيق بين الطرفين ضمن حدود الله وشرعه , من خلال قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } النساء/35 , فإن حل هذا الخلاف ممكن ويسير .
وما دام الخطأ لم يصل إلى درجة التآمر والتعاون مع العدو ضد مصالح المسلمين , وبقي في حدود خطأ الاجتهاد والتقدير , فإن تجاوزه ومعالجته ممكنه , مع محاسبة المسؤولين عن الدماء البريئة التي سفكت , والأموال التي أخذت , وجميع حقوق الناس التي انتهكت , والتي لا مفر في الإسلام من إنصاف أصحابها في الدنيا قبل الآخرة .
لقد وضع الله تعالى طريقة الإصلاح بين فئتين متصارعتين متقاتلتين من المؤمنين بقوله تعالى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } الحجرات/ 8-9 .
وأول ما يلفت النظر في هذه الآيات - كما قال المفسرون - أنها وصفت الفئتين رغم اقتتالهما بالإيمان , ولم تخرج فئة منها عن بوتقة الإسلام مع عظم الذنب والخطأ , وقد استدل البخاري بذلك على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم .
وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن ، عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما ومعه على المنبر الحسن بن علي، فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى ويقول : "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" رقم (2704) , فكان كما قال صلوات الله وسلامه عليه، أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق، بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة.
فأولى قواعد الإصلاح في اقتتال فئتين من المؤمنين هو الخضوع لتحكيم القرآن الكريم والسنة النبوية بينهما , وهو ما تسعى إليه بعض شخصيات الكتائب المقاتلة في سورية , من خلال مبادرات لرأب الصدع وحل الخلافات ووقف الاقتتال بين المجاهدين , وتوحيد الصف نحو الهدف المشترك الأهم بين الجميع , ألا وهو إسقاط نظام بشار وأعوانه , وتحرير سورية من القبضة الشيعية النصيرية .
فمنذ أيام طرح الناشط السوري هادي العبد الله مبادرة من 12 نقطة ؛ لوقف القتال الدائر منذ أيام بين الثوار وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المعروف بـ"داعش" في شمالي سوريا , وكان من أهم بنود هذه المبادرة :
التحاكم إلى محاكم شرعية مستقلة حصرا لا يهيمن عليها فصيل ، ويتمثل فيها الشرعيون من الجميع مع أصوات مرجحة حيادية يتفق عليها كل الفرقاء ، وتقوم هذه المحاكم بفض الخصومات ورد المظالم الحاصلة ، وتعزز بقوة لإنفاذ أحكامها , وأن لا يقوم أي فصيل - كائنا من كان - بطرح نفسه كجهة مهيمنة يتبع الآخرون لها ويأمر من خارجها ببيعتها .
كما قدم "أبو محمد الجولاني" ، قائد جبهة النصرة في الشام ، مبادرة وصفها بأنها إنقاذ للساحة السورية بالأمس , وهي قريبة جدا من مبادرة "العبد الله" , حيث تقوم على مبدأ احتواء الاشتباكات بين الفصائل , والتزام مبدأ التحكيم عبر هيئات شرعية محايدة , ووقف القتال والصراع مباشرة .
وتتضمن المبادرة، بحسب كلمة مسجلة للجولاني بثت عبر شبكة الإنترنت : "تشكيل لجنة شرعية من كافة الفصائل المعتبرة وبمرجح مستقل ، ووقف إطلاق النار" , كما تنص على "القضاء في الدماء والأموال المغتصبة ، وعلى وقوف الجماعات صفا واحدا وبالقوة أمام كل من لا يلتزم بقرارت اللجنة الشرعية ، بعد إقرارهم فيها ، حتى تفئ إلى أمر الله" .
فإذا كانت النيات مخلصة لله تعالى , وإذا كان هدف من جاء إلى سوريا مقاتلا هو الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله تعالى وإسقاط كلمة الكفر , فإن هذه المبادرات ستنجح بإذن الله , وستكون سببا في رص الصفوف ثانية نحو الهدف المشترك , ودليلا على خضوع الجميع لقواعد الشرع والحق الذي تنادي به , فالحق لا يمكن أن يكون حكرا على طرف دون طرف , بل هو واضح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
أما إن تعنت طرف من الأطراف برأيه واجتهاده , ورفض الانصياع لكلام الله وطريقته في حل الخلافات ووقف الاقتتال بين المؤمنين , فإنه بذلك يكون باغيا وخارجا عن نطاق الحق المبين في الآيات السابقة , ولا بد من رده عن بغيه وظلمه بالطريقة التي أمر الله بها : { فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } الحجرات/9 .
قال ابن كثير : أي حتى ترجع إلى أمر الله وتسمع للحق وتطيعه ، وقد ثبت في الصحيح عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". قلت : يا رسول الله ، هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال : "تمنعه من الظلم، فذاك نصرك إياه" صحيح البخاري برقم 2443 .
وفي الختام لا بد أن تضع الفصائل المتقاتلة في سورية باعتبارها أمرين في غاية الأهمية :
أولهما : أن العدو يتربص بكم الدوائر , ويبحث عن موطئ قدم له في سورية , ولن يجد أفضل من فرصة اقتتالكم فيما بينكم مدخلا وسبيلا لتثبيت قدمه , من خلال تثبيت حكم بشار , أو – على الأقل – تأخير أمد سقوطه , ناهيك عن تخويف الناس من خلافاتكم , وتشويه صورة الحكم الإسلامي باقتتالكم .
وثانيهما : أن الشعب السوري لم يقدم كل هذه التضحيات في الأرواح والأعراض والممتلكات , لتكون النتيجة صراعا داخليا وفصائليا , وإنما بذلها في سبيل إظهار الحق وإزهاق الباطل , ولن يسامح هذا الشعب كل من يحيد عن هذا الهدف النبيل .