السؤال
أنا فتاة أبلغ من العمر 15 عاماً، وأنا طالبة في الثانوية، وأشعر بأنني أنوي ترك المدرسة والجلوس في المنزل، وقد يئست من الحياة، وأشعر بأنه لا يوجد حولي من يُحبني، وكل يوم أجلس وحدي وأبكي دون أن يعرف بأمري أحد، ولا أعرف ماذا حلَّ بي فقد تدهور مستوى تحصيلي الدراسي، وكرهت الحياة بشدة عل عكس ما كنت عليه في السنة الماضية، حيث كنت أحبُ المدرسة بشدة، وأحبُ الذهاب إلى المدرسة والجلوس مع صديقاتي، وكنت متميزة في دراستي، أما في هذه السنة وبعد أن نقلني أبي من المدرسة، أصبحت وحيدة ولا أرغب في أن يكلمني أحد، وكرهت حياتي وصرت أفكر في الموت، وأحس أنه ليس لدي مستقبل، ماذا أفعل؟ ساعدوني لا أريد أن أظل هكذا..
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: ابْنتي الكريمة بداية أشكرك على رسالتك، وعلى ثقتك بموقع المسلم وطرحك لاستشارتك، أما بالنسبة لمشكلتك فألخصها في مسألة واحدة هي :
ما ينتابك من مشاعر سلبية بسبب التغيُّرات الطَّارئة على حياتِك الدِّراسية، وتفسُّخ علاقاتِك الاجتماعِيَّة سواء مع زميلاتِك بالمدرسة الجديدة، أو مع أسرتِك والمحيطين بك، وافْتقادِك للحب وللأمان، وللثِّقة بنفسِك وبمُؤَهِّلاتك، مما أثَّر تدريجيا على صِحَّتِك النَّفسِيَّة، ووصَلَ بك إلى حَدِّ اليأس من حياتِك والتفكير بالانتحار.
وبعد اطِّلاعي على حالتك ومشكلتك، وما لفت انتباهي صراحتك القوية، في عرضِ استشارتِك، على الرغم من تدهور حالتِك النفسية ومشاعِرِك السِّلبية..
وهذا معناه أنك تحتاجين لمن ينصت إليكِ، ويتفهَّم ظروفَكِ وواقعكِ الحالي، ويشعر بما يؤرِّقكِ ويتعبُكِ نفسيا وجسديا، ويعمل على مساعدتِك في التحكُّم في نفسك وزمام ِأمورِك التي أفلتت من يديكِ، وفي اتِّخاذِ القرارِ المناسِبِ والصَّحيح..
وهذا يستوجب علي أن أكلمك كأم تتحدث لابنتها التي تحبها وترجو لها الخير والسعادة في الدارين، فأنت يا ابنتي الحبيبة: ما زلت في عمر الزهور المتفتِّحة، وأمامك الكثير من العمل الدَّؤوب، وأحلاما وطموحاتٍ لتحقِِّّقينها، ومشاريعََ مستقبليَّة تسعين جادَّةً لإنجازِها، وعليكِ حقوقًا وواجبات اتِّجاه خالقِك، ثم اتجاه أسرتِك والمحيطين بكِ من أقربائِك وأفراد مجتمعك، وأنِؤ تلك الفَسيلة الخضراء التي ستَرْبو وتنمو ويقوى عودُها الرَّيان، وتُؤْتي أُكْلها وتُتْمِر حصادا طَيِّبًا، فعليكِ أن تكوني بقدر المسؤولية المَنوطَة بك، وتتحمَّلي الأمانة التي اسْتخلفَكِ الله عليها، وتشعُري بعظمة خالقِك الذي لم يخلُقك في هذه الدُّنيا عبثًا، وإنما لعبادتِه بحق قولاً، وفعلاً، وسلوكًا، ومعاملات..
وتشْعُري كذلك بعِظَمِ رِسالتِك العلمية النبيلة، فأنت لا تدرسين بهدف الوظيفة والعمل بالأساس، بل للتكوني ناضجَةً، ومثقََّّّفة، وواعية بالمستوى الذي سيؤهِّلُكِ لريادةِ الأفكار وإنتاجها، وصناعة الحياة المشرقة بالتفاؤل والتفكير المنتِج، ولِتكوني صالحَةً في المجتمع..
وبالمستوى الذي سيؤهِّلُكِ إن شاء الله لتتحمَّلي أعباء الزَّواج، وتشاركي زوجِك في مستوى تفكيرِه وفهمِه، ومشاريعِه، وتكوني له منارةً وسراجًا منيرا، وزوجة صالحة، وأمَّا مربِّيةً ونافِعَةً لأبنائِها، وقادِرةً على بناءِ نواةِ الأسرة، وإخراجِ جيلٍ طيِّب الأعراق..
أما بخصوص هذه المشاعر التي تنتابك، فعادةً في مثلِ مرحلتِك العمريَّة تتعرَّض الفتيات لما يشبه أحاسيسك بنسبٍ مختلفة ومتناقضة، وبشكل أخف أو أشدَّ وأخطر، والسبب قد يكون ناتجًا عن تقلبات المزاج والحالة النفسية، التي تتأثَّر بالواقع المُعاش وبالوسط والأسرة والبيئة، أو بسبب ما قد يتعرَّضْنَ له يوميا من مشاحنات، أو خلافات، أو مشاكل داخل الأسرة والبيت، أو بالشارع، أو المدرسة..
ولهذا تكون انفعالاتهم غير مستقرة، وتصرفاتهم غير متَّزِنة أو أفكارهم غير ناضِجَة بما يكفي، وسلوكهم العام قد ينحرف بهم عن الصَّوابِ وجادَّة الطريق، مما ينتج عنه ألام نفسية ومعاناة يومية يكون لها أبعاد سلبية على الصحة وعلى النشاط والعمل والإنتاج..
إلا أنك يا ابنتي.. إنسانة مسلمة قد أعزَّكِ الله، وشرفك، وكرَّمَكِ بكرامة هذا الدين العظيم الشأن، وهذا لوحده تشريفًا وتكليفا يبعث في قلبك الأمل والفرح والسعادة، والرَّغبة في تحقيق مصالحَة مع خالقِك أولا، ثم مع نفسِك والمحيطين بك ثانيا، وأن تشْحَذي هِمَّتكِ وعزيمتكِ، وتُقْْبِلي على دراسَتِك بجِدٍّ ونشاط كما كان معهودًا بكِ من قبل وأفضل.. وأنا مقدِّرةٌ لكلِّ مشاعرك، ومتفهِّمة لطبيعة مشكلتك، وأنك تبحثين عن أسباب عمليَّة وعاجِلَة لحلِّها..
لهذا سأحاول إن شاء الله أن أقدِّم لك بعض النصائح والإرشادات كمعالم تنير لك الطريق :
-------------------------------------
أولا : من خلال قراءتي لرسالتي وما ينتابك من مشاعر، تبيَّن لي أنَّكِ تمرِّين بما هو أشْبه بحالة الاكتئاب النفسي، مما يقوِّي لديكِ خلال هذه المرحلة شعورَكِ بالعجز واليأس، وانْطِوائك على نفسِك، وإحساسِك بالكسل والتبلُّد العام، وفقدانِك الرَّغبة بالاهتمامِ بدراسَتِك وأنشِطَتِك اليومِيَّة، وشعورِك بالحزنِ الشَّديد، واليأسِ والقلق، والصُّعوبة في التَّركيز، وإحساسِك بالتَّفَسُّخ الاجتماعي، والفراغِ النَّفسي، والحِرْمانِ العاطِفي، وافتقادِك للحب، ورفضِك لأيَّة مصالحَة مع ذاتِك، أو رَبْطِ علاقاتٍ إيجابِيَّة ومتفاعِلَة مع المحيطين بك، إضافة لاتِّجاهاتٍ أخرى طارِئَةً صار لها آثارًا سلبِيَّةً على معنَوِيَّاتِك، وصِحَّتِك النَّفسِيَّة، واستقرارِك السُُّّلوكي، حتى أَفْضَي بكِ إلى فتورٍ عام، ورفضٍ للتَّمَتُّع والاستمرارِ بالحياة، وبالتالي التَّفكير بالانتحار كناقوسِ خطرٍ يُهدِّد حياتك، وكشكلٍ من أشكالِ الخلاصِ من معاناتك..
ومثل هذه المشاعر قد تَظهر على الشخص في مراحل عُمْرِيَّة مختلفة، ولأسبابٍ قد تكون معروفَةٍ أو مجهولَةٍ لديه، إما بسببِ تراكُماتٍ قديمَةٍ وموروثاتٍ بالذَّاكرة، أو بسبب مشاكِلَ غير مُحْتملَة أو لا حلَّ لها، وأحيانا بسببِ التفَّكير الملازِم للشخص في جزئِيَّةٍ معَيَّنة، أو قي مشكلةٍ محدَّدَة، لا يملك أن ينتقلَ بتفكيرِه عنها، أو فكرةٍ مشوِّشَة لعقلِه، ومدمِّرة لجهازِه النفسي والعَصبي، أو بسبب عدم توازن الكيماويات الحيوية داخل مخِّه..
ومهما تكن الأسباب فالواجب عليك ابْنتي أولا :
ـ أن تُسْرعي بعَرْضِ حالتِك على طبيبةٍ نفسيَّة مختصَّة، أو مرشِدَة اجتماعية، لأن أغلب العلاماتِ الظَّاهِرة عليك مشابِهَةً لحدٍّ كبير لأعراضِ الاكتئاب النفسي، وهذا يحتاج إلى تدخُّلٍ سريع من طرف الأسرة من جهة، وتقَبُّلِ العلاجِ النَّفسي من جهةٍ أخرى، فلا تتردَّدي أو تشعري بالخجل، أو الإحراج من الإقدام على مثل هذه الخطوة ما دامت في مصلحَتِك جلساتُ الإنصاتِ النَّفسي والاجتماعي، كعلاجٍ خاص يناسبُ حالتِك، حتى تتجاوَزي هذه المرحلة على خير، وتعودي لسابِقِِ عهدِك وحيوِيَّتَكِ ونشاطِك المعْهودَين، ولاسْتقرارِك وتوازُنِك النفسي..
ثم انْتقلي للخطوة الثانية، وحبَّذا لو كانت ملازمة للعلاج النفسي ومكمِّلَة له، وتتمثل فيما يلي :
ـ حصِّني نفسك ابْنتي من هذه المشاعر، التي قد تكون بسبب نزَعات الشيطان، ونفخِه، ونفَثِه، ووساوسِه التي تجري من الإنسان مجرى الدم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة عليـك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انْحَلّتْ عُقْدَة، فإن صلى انحلت عُقدهُ كلها فأصبح نشيطًا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان"..
ومعنى هذا أن عليك تقوية جوانب الضُّعف الإيماني، المسبِّبَة لشعورِك بالإحباط والاكتئاب النفسي، وتقويةِ الوازعِ الديني، والتقرُّب إلى الله تعالى بالالتزام بفرائضِ الصلوات الخمس، وبقية العبادات المشروعة في الكتاب والسنة، وتتميمِها بنوافل الطاعات والعبادات، كأداءِ السُّننِ الرَّواتب المصاحِبَة للصلوات الخمس المفروضة على العباد، وصيام الأيام المستحبَّة والمسْنونة كأيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، ويومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وصيام العشر الأوَّل من ذي الحجة، ويوم عرفة..
وواظِبي على أذكار الصباح والمساء، وسماعِ وقراءةِ وحفظِ وِرْدٍ يومي من القرآن، وتجويده، والمداومة عليه..
وراقِبي قلبَكِ وطهِّريه من الأمراضِ والأوصافِ الذَّميمة، لأنَّ عليه مدارُ الأعمال، والثواب والعقابَ، والقبول أو الردَّ، مصداقا لقول الحق سبحانه في هذا الشأن: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم) الشعراء: 88، 89..
وأخْلصي النيَّةِ والعمل والعبادة لله إجلالاً له ووجَلا منه، ورغبَةً في رحمته، ورجاءً في جنَّتِه ومثوبَتِه، لا طلبًا لمدحِ أحدٍ من خلقِه..
وطَهِّري جسَدِك من النجاسات والأوساخ، بالغُسْلِ والإكثارِ من الوضوء، لما يترتَّب عليه من أجرٍ وثواب، وفضلٍ عظيم، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن، فغسل وجهَه، خرج من وجهه كلُّ خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه، خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتْها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه، خرجت كل خطيئة مشتْها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب" رواه مسلم.
واحْرِصي على طهارةِ لسانِك من آفاته وزلاَّته، لأنه دليلٌ على صلاحِ قلبِك أو فسادِه، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ، حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيمُ قلبُه، حتى يستقيمَ لسانُه"..
فإن أغلب ما يعترينا ابْنتي الحبيبة، من شدائد ومحن بسبب تقصيرِنا في حقِّ الله، من عبادة، أو طاعة، أو عمل، أو في حقِّ أحدٍ من عباده، أو بسبب ما جَنَتْهُ أيدينا وما اقْتَرفْناه من معاصي وذنوب، وكبائر.. واعْلمي بأن الشُّعورَ بالسعادة مَطْلَبٌ عزيز، لا يُدْرِكُه إلاَّ من وجد حلاوة الحياة في لَذَّةِ القُرْبِ من الله، ومحبَّتِه ورضاه، فاستغنى به عَمَّن سواه، ومن وجَدَ حلاوةَ الحياة في لَذَّةِ العبادة لا اعْتيادًا، ولا كروتينٍ يومِيٍّ يؤدِّيه في أوقاتٍ معينة، إنما هي لذَّةٌ لا يشعر بها إلا من أقبلَ على الله بقلبِه ووجدانِه بالكامل، وبروحِه وجسدِه، في لحظات خشوعٍ، أو خضوعٍ، أو تذلُّل، تذرف فيها العين م خشية الله..
وهذا الإحساسُ لا يُشْترى أو يُهْدى، إنما يُهْتَدَى إليه ويُطْلَب بالممارسة اليومية، ومعالجَةِ القلبِ باسْتحضارِ رَقابةِ الله، ومراقبَةِ النفس ومحاسبتها، وبالاعتناءِ بالطهارة الحسِّيَّة والمعنويَّة..
وصاحِبُ القلبِ السَّليم هو العارِفُ بالله الملتزم بحقِّه وبحقِّ المخلوقين، فيجد في ذلك لذَّةً ونعيمًا دائمين في جنَّةٍ على الأرض، تصِلُُهُ بجنَّةٍ عرضها السموات والأرض، لأنه يتحرَّك بالطََّاعة في القول ِوالفِعْل، وفي كل لحظَةِ تواصُلٍ مع الله، أو رَفْعِ الأكُفِّ بالدعاء، أو مناجاةٍ لله في الخلوات، أو حين قراءة القرآن..
وهذا هو ثوابُ القُربِ من الله بالنِّعمةِ المُسداة، والعطيَّة المُهداة لعبادِه الصالحين، المخلصين له في المحبَّة والعمل، وهذا وعد الله تعالى لهم: "إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيم" الانفطار: 13، 14، فيتفضَّل عليهم بالحياةَ ِالطَّيِّبةَ الكريمة، وبالنَّفسِ المطمئِنَّة لأقداره المتوكِّلة عليه والثَّابِتَة على الحق، وبالمُعافاةِ من كلِّ ما يكدّرُ الصَّدر، أو يُضَيِّقُ عليهم الحياة، أو يجعلُ عيْشَهُم ضنكًا..
ويتفضَّل عليهم بالشُّعورِ الدَّائم بسُرورِ القلبِ وفَرَحِه، مصداقا لقوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل: 97، وهذا هو النعيمُ والسعادة الحقيقية لا يدركها إلا من تذوَّقَ حلاوتها، وهي تفوق لَذَّةَ كل نعيمٍ آخر يتنعَّم به الإنسان.
أما الخطوة الثالثة في طريق إيجادِ الحلِّ لمعاناتِك :
ـ حاولي ابْنتي الحبيبة أن تتعايشي مع واقِعِك وظروفِك، خاصة مع انتقالِك لمدرسة جديدة، وخفِّفي من شعورِك بالإحباط، وتأكدي بأنَّ هذا الشعورَ لا يتعدَّى أن يكون مرحليًّا، وستتخلَّصين منه بالتدريج مع مرور الأيام، وستتعوَّدين عليه..
ـ وركِّزي خلال هذه المرحلة على بعثِ مكامِنِ القوَّةِ في شخصيَّتِك، وحسِّني من مهاراتِك، وتخلَّصي من قيودِك ومشاكلِك اليومِيَّة، من خلال ابتعادِك عن العزلة والانطواءِ على نفسِك..
وحتى مع شعورِك بالحزن انْدَمِجي في أقربِ وقتٍ في عقد علاقاتٍ جديدة، واكْسَبي صُحبةً طيِّبَة تعينك في الدراسة وفي طاعة الله..
ـ تحدَّثي إلى أقربِ أفرادِ أسرتِك إلى نفسِك، كوالدتك أو والدك أو أحد إخوانِك أو أخواتك، أو أيَّ قريبٍ من أقربائك ممَّن تطْمئنِّينَ إليهم، أوممن تثقين بنزاهَتِهِم وتديُّنِهِم الصحيح، ورجاحَةِ عقلهِم، ورأيهِم السَّديد والحكيم، واسْتشيريهِم في أمرك، واشْرِكيهم في معاناتك، واطْلُبي منهم المساعدة والمساندة الفورِيَّة، وحتى لو لم يقدِّموا إليك أي حلولٍ ترضيك، فإخبارُهُم بمشاكلِك ومُكاشَفَتهُم بأسرار ِنفسِك، في حدّ ذاته انتصارٌ على معاناتك، وامْتصاصٌِ لغضبِك، وبكلِّ الحالات ستجدي معهم الراحة والطمأنينة..
ـ اطْرُدي عنك الأفكارَ السَّوداوِيَّة، والمشاعِرَ المكبوتة بداخلِك من خلال ملءِ فراغِك الفكري والعاطفي بممارسة هواياتك المفضلة، كالكتابة مثلا، أو الرسم، أو ممارسة الأعمال اليدوية أو المنزلية، أو القيام بالألعاب والتمارين الرياضية، أو الانخراط في نوادٍ ولقاءاتٍ علمية ودراسية، ومحاضرات خاصة بتوعية الشباب وترشيدِهِم..
أما الخطوة الرابعة في طريق إيجادِ الحلِّ لمعاناتِك :
ـ قوِّي لديكِ عناصرَ الدِّفاع النفسِيَّة، حتى لا تصلي إلى مدارِكِ التفكير السيء، أو تعذيبِ نفسك وجَلْدِها باستمرار، أو المداومَةِ على التفكير فيما فشلت فيه، أو فيما افْتقَدْتِه، أو حرِمْتِ منه خلال هذه المرحلة الرَّاهِنة، وابْتعِدي عن اجْتِرار خيباتِ أحلامِك أو طموحاتك، فيما كانت ِ تتأمَّلين تحقُّقَه
ـ تحرَّري من تلك القوقعة وذاك السِّجن النفسي الذي حصرْتِ نفسكِ داخِله، حتى صارت أغلالاً وقيودًا لا انْفكاكَ لكِ منها، وخطرًا محقَّقًا يهدِّد حياتك ومصيرك..
وفي الختام أقول لابنتي الحبيبة :
اعْلمي بأنكِ الفتاة المسلمة التي ترفُلُ بالشباب والنشاط، فاغْنمي هذا العمر قبل فواته، واعلمي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نبَّهنا لهذا فقال : "اغتنم خمساً قبلَ خمسٍ اغتنم حياتَكَ قبلَ موتِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وشبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وغِنَاكَ قبلَ فقرِكَ، وفراغَكَ قبلَ شغلِك"..
ولعلَّ الله سبحانه يكتُبَ لك أن تكوني من الشباب الذي ينشأ في طاعة الله وعبادتِه، وتدْخُلي في زمرةِ السبعة الذين سيظِلُّهُم الله في ظلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه، فاغنمي عمرََكِ، وشبابَكِ، وصِحَّتَكِ، وكلَّ ما حباكِ الله به وتفضَّلَ به عليك من نِعَم في بناءِ مستقبلٍ زاهِرٍ بالعطاء، وجاهِدي نفسكِ على المثابرَة والمُكابَدة، فقد خلقنا الحقُّ سبحانه في نَصَبٍ وتعَبٍ دائمين حتى نلقاه وهو راضٍ عَنَّا..
وانْجَحي في حياتك ودراستك وعلاقاتِك، وما دمت على قيد الحياة فلا شيء منكِ ضاع، ولا شيء لا يمكن استرجاعُه، أو تصحيحُه، ولا توجد مشكلة إلا ولها حلٌّ مناسب، ولا شيء أكبر ولا أعظم خسارةً للنفس من ضياعِ عُرَى الدين والبعد عن الله، وما عَدى ذلك يمكن علاجُه والشِّفاء منه، قال عليه الصلاة والسلام : "ما جعل الله شفاءكم فيما حرم عليكم"، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم : "ما أنزل الله داءً إلا وأنزل له دواء علمه من علمه، وجهله من جهله"
ومهما كانت ظروفك، أو آلامُكِ، أو واقِعُكِ مرًّا، فلا يحلُّ لك أن تفكري في الموت، ولا يحقُّ لك التَّعَدِّي على نفسِك أو امتِهانِ جسدِك، أو إلحاقِ الضرر به بأيِّ شكلٍ من أشكالِ الاعتداء، لأن قتل النفس عمدًا من كبائر الذنوب، وهو حرامٌ بكل صوره وأشكاله، وفاعِلُه متوعَّد بالخلود في نار جهنم، ويعذبه الله تعالى بالوسيلة التي قتل بها نفسه، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : "مَن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها [أي يطعن] في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً" رواه البخاري ومسلم..
فعليكِ أن تصْبري وتستعيني بالله تعالى، ومهما أصابكِ من شِدَّة في الدنيا أو ابتلاء أو محنة، فاعْلمي بأنه اختبار من الله تعالى، وتطهير لنفسِك ولروحِك، وتكفيرٌ عن ذنوبِك وآثامِك، فقد قال صلى الله عليه وسلم : "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ" رواه البخاري ومسلم، وهو سببُ خيرٍ لكِ للرجوعِ إلى الله والإنابة إليه والاجتهاد في طاعته..
ومهما كانت معاناتُك شديدة، فلن تكون أشدَّ من عذاب الآخرة، فلا يُفْتَرَض بكِ وأنتِ فتاةٌ مسلمة وعاقلة أن تُقْدِمي على مثلِ هذا الفِعلِ الشَّنيع، فتهرُبي من ضيقِ الدنيا لضيقٍ أَشَد وأََمَر في الآخرة، وتُفِلِتي من عذابٍ مؤقَّت لتُلُقي بنفسِك في التَّهْلُكَة، وعذابٍ خالد لا نهاية له، وبدلا من أن تجدي حلاًّ ممكنا، تسْتجِيري من الرَّمضاء بالنار، ويكفي أن تاقرئي معي آياتٍ من الذكر الحكيم لتفهمي معنى التحذير الإلهي من قتلِ النفسِ عمدا، كقوله سبحانه وتعالى : (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما، ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً)، وقوله تعالى: (ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق) إلى قوله تعالى : (ومن يفعل ذلك يلق أثاماً، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً)..
وانْظُري حولكِ وتأمَّلي في أحوالِ الناس وأحوالِ من هم في مثلِ عمرك، ستجِدي بأنَّكِ لستِ وحدك أعظم بلاءً ولا أشدُّ معاناةً، وأن هناك من هم أشدَّ منكِ بلاءً، وحينها ستهونُ عليكِ مصائب الدنيا
أتمنى أن أكون قد وفِّقت لحدٍّ كبير في التخفيف من حدَّةِ ما تشعرين به ابنتي الحبيبة، وأن أكون قد قدمت لك من النصائح والإرشادات المناسبة لحالتِك، وساعدتُكِ في تصحيحِ نظرتِك الأولى، وتقويمِ طريقةِ تفكيرِك وأسلوبِ معاملَتِك وتغييرِ سلوكِك العام، ومنحتُكِ طاقَةً أكبر، وإرادَةً إيجابِيَّةً لتحويل الأفكار ِاليائسة إلى أفكارِ مشرِقَة بالأمل، وعملٍ بنَّاء.
أسأل الله العلي القدير أن يخفف عنك معاناتك، ويثبِّتكِ على الحق، ويقويك على النسيان والصبر الجميل، وأن يبارك الله لك في عمرك وشبابك وعملك في طاعته، ويرزقك السداد والرشاد في القول والعمل، وأن يعجِّل الله لك بالفرج القريب.