
يبدو أن تونس التي كانت فاتحة الربيع العربي المأمول من خلال ثورتها السلمية التي أطاحت بحكم زين العابدين بن علي , كما كانت أيضا ملهمة الثورات العربية المتتالية بعدها في كل من مصر وليبيا واليمن وسوريا , باتت اليوم – بعد أكثر من عامين – خاتمة ونهاية هذه الثورات , بعد هجمات وضربات العلمانيين التي ارتدت على الربيع العربي , وحولته إلى خريف علماني بامتياز .
فرغم أن أبجديات كل الديمقراطيات في العالم ترتكز على مبدأ الاحتكام إلى صناديق الاقتراع , وما تفرزه الانتخابات من أكثرية قد تستطيع الانفراد بالحكم , أو تتحالف مع بعض الأحزاب الأخرى إن لم تنل داخل البرلمان على الأغلبية المطلوبة التي تخولها تشكيل الحكومة بمفردها , إلا أن علمانيو الدول العربية – ومنها تونس – ابتدعت لنا ديمقراطية جديدة , تقوم على مبدأ : إما أن أحكم أو لا أدع أحدا غيري يحكم .
لقد بدا هذا المبدأ واضحا بعد فوز التيار الإسلامي التونسي المتمثل بحزب النهضة بأغلبية مقاعد المجلس التأسيسي , في انتخابات ديمقراطية ونزيهة , وقد طلب الحزب بعد ذلك من كل من المؤتمر من أجل الجمهورية (اليساري) والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات (الديمقراطي الاشتركي) بالانضمام لتشكيل ائتلاف حاكم بقيادته سمي بالترويكا الحاكمة .
ورغم وجود بعض اليساريين والاشتراكيين ضمن تركيبة الحكومة التونسية , إلا أن زعامة حركة النهضة لم ترق للعلمانيين في تونس , الذين شعروا أن الحكم قد خرج منهم إلى التيار الإسلامي , والذي إن تركت له فسحة من الوقت والهدوء النسبي في الشارع , حقق من الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ما قد يستأثر – من خلال صناديق الاقتراع - بالحكم لسنوات طويلة مديدة , نظرا لنظافة يده ونزاهته التي ستبعد فلول الفساد التي أرهقت البلاد وأفسدت العباد , ونظرا لعمق وأصالة مشروعه الإسلامي السياسي والاجتماعي الذي يجمع ولا يشتت , ويوحد ولا يفرق , وهي بلا شك أهم أسباب النهوض والتقدم والازدهار .
ولذلك لم يترك علمانيو تونس للتيار الإسلامي هذه الفسحة من الهدوء , فخرجوا بمظاهرات ومسيرات لأتفه الأسباب , واستفادوا من حادثتين كان لهما الأثر البالغ في تأجيج هذه المظاهرات وزيادة وتيرتها وجعلها وقودا لحركة شبابها وأنصارها :
1- حادثة اغتيال كل من العلماني شكري بلعيد واليساري محمد البراهمي , حيث وجهت أصابع الاتهام بالمسؤولية عن اغتيالهما إلى التيار الإسلامي , وخرجت على إثرها مظاهرات كبيرة تطالب بإسقاط الحكومة والمجلس التأسيسي , والانقلاب على كل منجزات الثورة التونسية الديمقراطية .
2- أما الحادثة الثانية التي أعطت دفعا كبيرا لعلمانيي تونس , فهي ما حدث في 3 يوليو في مصر , من عزل الرئيس المصري المنتخب من الحكم , وتعطيل العمل بدستور 2012م المستفتى عليه , وإعلان خارطة طريق كان الداعم الأول والأهم لها جبهة الإنقاذ وحركة تمرد ذات التوجهات العلمانية واليسارية , الأمر الذي شكل سابقة فريدة من نوعها , وتلقفتها المعارضة التونسية لتجعلها مثالا يحتذى وقدوة
ومنذ ذلك الوقت وعلمانيو تونس يخطون نفس خطوات علمانيي مصر , علهم يصلون إلى خارطة طريق كتلك التي نالها زملاؤهم هناك , فنشأ ما سمي بحركة تمرد في تونس , كما كانت هناك جبهة إنقاذ على غرار جبهة إنقاذ مصر , وخرجوا بمظاهرات كبيرة في الشارع لإرباك الحكومة وتعطيل عملها , وطالبوا مرارا بحل الحكومة والمجلس التأسيسي , إلا أن الخطة لم تنجح لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها في هذا التقرير .
وبعد مفاوضات ووساطات لم تنجح بحل الأزمة , خرجت علينا المعارضة التونسية أمس بخارطة طريق لحل الأزمة السياسية - التي افتعلتها – في البلاد , وترتكز الخطة على بنود تظهر بوضوح المكر العلماني بالتيار الإسلامي , ورغبته الجموح لإزاحته عن السلطة بأي ثمن , وخاصة المجلس التأسيسي الذي فاز حزب النهضة بأغلبية مقاعده , ومن أهم هذه البنود :
1- الدعوة إلى جلسة أولى للحوار الوطني يحضرها كل من الرؤساء الثلاثة وهم: رئيس الجمهورية ورئيس الوزاراء ورئيس المجلس التأسيسي, ومسؤولو الأحزاب السياسية الممثلة في المجلس الوطني التأسيسي .
2- القبول بتشكيل حكومة كفاءات ترأسها شخصية وطنية مستقلة لا يترشح أعضاؤها للانتخابات القادمة , تحل محل الحكومة الحالية التي تتعهد بتقديم استقالتها ، وتكون للحكومة الجديدة الصلاحيات الكاملة لتسيير البلاد، ولا تقبل لائحة لوم ضدها إلا بإمضاء نصف أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، ويتم التصويت على حجب الثقة عنها بموافقة ثلثي أعضائه على الأقل.
3- استئناف المجلس الوطني التأسيسي لجلساته , وتحديد مهامه ونهاية أشغاله خلال أربعة أسابيع من بداية جلسات الحوار الوطني , وتتمثل مهام المجلس في إنهاء أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات , وإصدار القانون الانتخابي وتحديد المواعيد الانتخابية , ويصادق على تعديلات قانون السلطات ومواد الدستور المتوافق عليها والحكومة ، ثم يمنح الأخيرة تفويضا تشريعيا، ثم يحل نفسه .
ورغم أن حل الحكومة لم يغب يوما عن قائمة المطالب العلمانية التونسية , إلا أن حل المجلي التأسيسي كان ولا يزال الأهم في أولوياتها , ورغم أن القاصي والداني يدرك عدم وجاهة المطالبة بحل المجلس التأسيسي , لكونه الضمانة الديمقراطية الوحيدة في البلاد , وقد نصح بذلك السفير الجزائري بتونس عبد القادر حجار , محذرا من حدوث أزمة سياسية أعمق في البلاد إن حصل ذلك , إلا أن المعارضة العلمانية مصرة على حل هذا المجلس , من خلال بنود مبادرة خارطة الطريق المقترحة , حيث يمنح المجلس للحكومة الجديدة تفويضا تشريعيا ثم يحل نفسه .
وقد تنبه لذلك عضو المكتب السياسي لحركة النهضة التونسية سامي الطريقي , الذي انتقد بشدة وجوب حل المجلس التأسيسى لنفسه بعد التصديق على نتاج الحوار الوطنى وتفويض سلطاته التشريعية لحكومة الكفاءات قائلا : تخويل حكومة الكفاءات سلطات تشريعية شىء مخالف للفقه الدستورى بصفة عامه ، وغير منطقى , وحل البرلمان المؤقت سيترك الحكومة دون رقابة لعدة أشهر .
يبدو أن الإطار الديمقراطي الطبيعي لا يروق لعلماني الدول العربية – ومنها تونس – فهم يريدون ديمقراطية على مقاسهم , تجعلهم دائما في سدة الحكم والرئاسة , وإلا فإن خصومهم – التيار الإسلامي – مستبد ومستأثر بالحكم , ولو جاء عبر صناديق الاقتراع ونتائج الانتخابات .