خارطة الطريق العلمانية التونسية
14 ذو القعدة 1434
د. عامر الهوشان

يبدو أن تونس التي كانت فاتحة الربيع العربي المأمول من خلال ثورتها السلمية التي أطاحت بحكم زين العابدين بن علي , كما كانت أيضا ملهمة الثورات العربية المتتالية بعدها في كل من مصر وليبيا واليمن وسوريا , باتت اليوم – بعد أكثر من عامين – خاتمة ونهاية هذه الثورات , بعد هجمات وضربات العلمانيين التي ارتدت على الربيع العربي , وحولته إلى خريف علماني بامتياز .
فرغم أن أبجديات كل الديمقراطيات في العالم ترتكز على مبدأ الاحتكام إلى صناديق الاقتراع , وما تفرزه الانتخابات من أكثرية قد تستطيع الانفراد بالحكم , أو تتحالف مع بعض الأحزاب الأخرى إن لم تنل داخل البرلمان على الأغلبية المطلوبة التي تخولها تشكيل الحكومة بمفردها , إلا أن علمانيو الدول العربية – ومنها تونس – ابتدعت لنا ديمقراطية جديدة , تقوم على مبدأ : إما أن أحكم أو لا أدع أحدا غيري يحكم .
لقد بدا هذا المبدأ واضحا بعد فوز التيار الإسلامي التونسي المتمثل بحزب النهضة بأغلبية مقاعد المجلس التأسيسي , في انتخابات ديمقراطية ونزيهة , وقد طلب الحزب بعد ذلك من كل من المؤتمر من أجل الجمهورية (اليساري) والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات (الديمقراطي الاشتركي) بالانضمام لتشكيل ائتلاف حاكم بقيادته سمي بالترويكا الحاكمة .
ورغم وجود بعض اليساريين والاشتراكيين ضمن تركيبة الحكومة التونسية , إلا أن زعامة حركة النهضة لم ترق للعلمانيين في تونس , الذين شعروا أن الحكم قد خرج منهم إلى التيار الإسلامي , والذي إن تركت له فسحة من الوقت والهدوء النسبي في الشارع , حقق من الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ما قد يستأثر – من خلال صناديق الاقتراع - بالحكم لسنوات طويلة مديدة , نظرا لنظافة يده ونزاهته التي ستبعد فلول الفساد التي أرهقت البلاد وأفسدت العباد , ونظرا لعمق وأصالة مشروعه الإسلامي السياسي والاجتماعي الذي يجمع ولا يشتت , ويوحد ولا يفرق , وهي بلا شك أهم أسباب النهوض والتقدم والازدهار .
ولذلك لم يترك علمانيو تونس للتيار الإسلامي هذه الفسحة من الهدوء , فخرجوا بمظاهرات ومسيرات لأتفه الأسباب , واستفادوا من حادثتين كان لهما الأثر البالغ في تأجيج هذه المظاهرات وزيادة وتيرتها وجعلها وقودا لحركة شبابها وأنصارها :
1- حادثة اغتيال كل من العلماني شكري بلعيد واليساري محمد البراهمي , حيث وجهت أصابع الاتهام بالمسؤولية عن اغتيالهما إلى التيار الإسلامي , وخرجت على إثرها مظاهرات كبيرة تطالب بإسقاط الحكومة والمجلس التأسيسي , والانقلاب على كل منجزات الثورة التونسية الديمقراطية .
2- أما الحادثة الثانية التي أعطت دفعا كبيرا لعلمانيي تونس , فهي ما حدث في 3 يوليو في مصر , من عزل الرئيس المصري المنتخب من الحكم , وتعطيل العمل بدستور 2012م المستفتى عليه , وإعلان خارطة طريق كان الداعم الأول والأهم لها جبهة الإنقاذ وحركة تمرد ذات التوجهات العلمانية واليسارية , الأمر الذي شكل سابقة فريدة من نوعها , وتلقفتها المعارضة التونسية لتجعلها مثالا يحتذى وقدوة
ومنذ ذلك الوقت وعلمانيو تونس يخطون نفس خطوات علمانيي مصر , علهم يصلون إلى خارطة طريق كتلك التي نالها زملاؤهم هناك , فنشأ ما سمي بحركة تمرد في تونس , كما كانت هناك جبهة إنقاذ على غرار جبهة إنقاذ مصر , وخرجوا بمظاهرات كبيرة في الشارع لإرباك الحكومة وتعطيل عملها , وطالبوا مرارا بحل الحكومة والمجلس التأسيسي , إلا أن الخطة لم تنجح لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها في هذا التقرير .
وبعد مفاوضات ووساطات لم تنجح بحل الأزمة , خرجت علينا المعارضة التونسية أمس بخارطة طريق لحل الأزمة السياسية - التي افتعلتها – في البلاد , وترتكز الخطة على بنود تظهر بوضوح المكر العلماني بالتيار الإسلامي , ورغبته الجموح لإزاحته عن السلطة بأي ثمن , وخاصة المجلس التأسيسي الذي فاز حزب النهضة بأغلبية مقاعده , ومن أهم هذه البنود :
1- الدعوة إلى جلسة أولى للحوار الوطني يحضرها كل من الرؤساء الثلاثة وهم: رئيس الجمهورية ورئيس الوزاراء ورئيس المجلس التأسيسي, ومسؤولو الأحزاب السياسية الممثلة في المجلس الوطني التأسيسي .
2- القبول بتشكيل حكومة كفاءات ترأسها شخصية وطنية مستقلة لا يترشح أعضاؤها للانتخابات القادمة , تحل محل الحكومة الحالية التي تتعهد بتقديم استقالتها ، وتكون للحكومة الجديدة الصلاحيات الكاملة لتسيير البلاد، ولا تقبل لائحة لوم ضدها إلا بإمضاء نصف أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، ويتم التصويت على حجب الثقة عنها بموافقة ثلثي أعضائه على الأقل.
3- استئناف المجلس الوطني التأسيسي لجلساته , وتحديد مهامه ونهاية أشغاله خلال أربعة أسابيع من بداية جلسات الحوار الوطني , وتتمثل مهام المجلس في إنهاء أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات , وإصدار القانون الانتخابي وتحديد المواعيد الانتخابية , ويصادق على تعديلات قانون السلطات ومواد الدستور المتوافق عليها والحكومة ، ثم يمنح الأخيرة تفويضا تشريعيا، ثم يحل نفسه .
ورغم أن حل الحكومة لم يغب يوما عن قائمة المطالب العلمانية التونسية , إلا أن حل المجلي التأسيسي كان ولا يزال الأهم في أولوياتها , ورغم أن القاصي والداني يدرك عدم وجاهة المطالبة بحل المجلس التأسيسي , لكونه الضمانة الديمقراطية الوحيدة في البلاد , وقد نصح بذلك السفير الجزائري بتونس عبد القادر حجار , محذرا من حدوث أزمة سياسية أعمق في البلاد إن حصل ذلك , إلا أن المعارضة العلمانية مصرة على حل هذا المجلس , من خلال بنود مبادرة خارطة الطريق المقترحة , حيث يمنح المجلس للحكومة الجديدة تفويضا تشريعيا ثم يحل نفسه .
وقد تنبه لذلك عضو المكتب السياسي لحركة النهضة التونسية سامي الطريقي , الذي انتقد بشدة وجوب حل المجلس التأسيسى لنفسه بعد التصديق على نتاج الحوار الوطنى وتفويض سلطاته التشريعية لحكومة الكفاءات قائلا : تخويل حكومة الكفاءات سلطات تشريعية شىء مخالف للفقه الدستورى بصفة عامه ، وغير منطقى , وحل البرلمان المؤقت سيترك الحكومة دون رقابة لعدة أشهر .
يبدو أن الإطار الديمقراطي الطبيعي لا يروق لعلماني الدول العربية – ومنها تونس – فهم يريدون ديمقراطية على مقاسهم , تجعلهم دائما في سدة الحكم والرئاسة , وإلا فإن خصومهم – التيار الإسلامي – مستبد ومستأثر بالحكم , ولو جاء عبر صناديق الاقتراع ونتائج الانتخابات .