أنت هنا

ينابيع الخير.. في عيد الفطر
30 رمضان 1434
محمد سعد

في عيدَي الإسلام، الفطر والأضحى، من المعاني الجميلة والمحاسن العظيمة والحكم الجليلة ما لا يوجد في غيرهما من أعياد الأمم الأخرى أو الأعياد المبتدعة، وفوق ذلك يتميز كل عيد من عيدَي الإسلام بمميزات عن الآخر، تُضفي على حسنهما حسناً، وتزيد بهاءهما بهاء وجمالاً.

 

وما دمنا في عيد الفطر، ننعم بساعاته، فلننتهز الفرصة ولنرتع في معانيه الجميلة، وننهل من ينابيعه الثرّة، ونستمتع بما أودع الله _تعالى_ فيه من نعم وخيرات.

 

وتأمل .. كيف جعل الله _تعالى_ الفرح عبادة، حيث جعل - سبحانه- الفطر في يوم العيد واجباً والصوم حراماً، وأبرز مظاهر الفرح في العيد هي الفطر، وفي الحديث: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِىَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ»، والفرح غاية مهمة ينشدها الإنسان ليحقق سعادته، فيجهد لتوفير أسبابها وتهيئة أجوائها، وقد يصنع الإنسان في سبيل ذلك ما يضر بنفسه، أو يفرح بما لا يحقق لها سعادة أو سروراً، أما الفرح الذي يهيئه الله _تعالى_ للمسلمين ويشرعه لهم فهو الفرح الكامل والسرور التام، فأتم الفرح وأحسن السرور أن يفرح العبد بما شرع له ربه عز وجل من عبادات، وأمره به من طاعات، ورتب على ذلك من ثواب وحسنات، قال ابن القيم: (فليس الفرح التام والسرور الكامل والابتهاج والنعيم وقرة العين وسكون القلب إلا به سبحانه، وما سواه إن أعان على هذا المطلوب فرح به وسُـر به، وإن حجب عنه فهو بالحزن به والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله أحق منه بأن يفرح به، فلا فرحة ولا سرور إلا به، أو بما أوصل إليه وأعان على مرضاته‏.‏ وقد أخبر سبحانه أنه لا يحب الفرحين بالدنيا وزينتها، وأمر بالفرح بفضله ورحمته، وهو الإسلام والإيمان والقرآن، كما فسره الصحابة والتابعون) الفوائد المجموعة لابن القيم‏. ومن صور الفرح بفضل الله _تعالى_ ورحمته فرجة العيد!

 

ومن الناس من لا يعرف الفرح له طريقاً ولا يعرف طريقاً إلى الفرح طوال العام أو أكثره، لما أحاط به من هموم أو أحزان، فيأتي شهر الصوم العظيم، يتبعه عيد الفطر، بما شرعه الله _تعالى_ فيه لنا من الفرح والسرور، ليكسر ما أحاط بالقلب من الهموم، ويُخرج ما توطن فيه من الأحزان، ليرى الحياة بوجه جديد، يبعث فيه البهجة، ويجدد له الأمل، حين يبيت ليلة الفطر سعيداً بإتمام صومه، ويستقبل العيد بالسنن المستحبة التي تبعث في النفس السرور وتجدد فيه النشاط، فيغتسل للعيد، ويلبس أحسن الثياب، ويفطر على وتر من التمرات، ثم يخرج مع إشراقة شمس يوم جديد، يستنشق نسيم الصباح، ويستقبل النهار بوجهه، ويذكر الله _تعالى_ مكبراً ومهللا وحامداً، ساعياً إلى الصلاة، مرققاً قلبه بسماع الموعظة، ليَـلقَى بعدها إخوانه ويأنس بهم، فيا لها من عبادات وسنن وأفراح تكسر الهموم وتذيب الأحزان وتجدد النشاط.

 

وفي عيد الفطر فرصة لا تدانيها فرصة لكي يستثمرها الناس في بر الوالدين وصلة الأرحام وإكرام الجار، بمبادلة الزيارة والمعايدة والتهنئة وغيرها من مظاهر الفرحة، كما فيه فرصة عظيمة لإصلاح ذات البين، وإزالة ما زرعه الشيطان في قلوب المتخاصمين والمتنازعين من حواجز البغضاء والفتن، فكلمة تهنئة واحدة في العيد قد تزيل تلك الحواجز، وتداوي الكثير من الجراح بين المتدابرين من الأصحاب والأزواج والعائلات والأسر، وترسل على العلاقات التي أصابها الجفاف قطرات من ندى المحبة، تعيد لها الحيوية والنشاط، عن محمد من زياد قال: (كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- ،فكانوا إذا رجعوا يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك)) . قال أحمد بن حنبل: إسناده جيد ([الجوهر النقي 3 / 320 ].

 

وانظر إلى جمال التشريع في الإسلام، حيث شرع الله _تعالى_ من العبادات ما يوحّد بينهم بصورة عملية، ويدمج بينهم في الانتماء والعواطف والأحاسيس، والعيد هنا من هذه العبادات، فالمناسبة واحدة، والفرحة فيه واحدة، ومراسم الاحتفال واحدة، وهذه المشاركة مما يعمل على ربط القلوب، وتعميق الصلات بين الشعوب الإسلامية على اختلاف أجناسها وعاداتها ولغاتها. كما أن في العيد فرصة كبيرة لتوطيد العلاقات بين المسلمين، وتقوية روابط الأخوة والمودة، ليس على مستوى الأفراد فحسب، بل هذا مما ينبغي استثماره في تحسين العلاقات بين دول الإسلام، وإذابة ما قد يطرأ على العلاقات بينها طوال العام من خلافات ومشاحنات، وبناء ما انهدم من أواصر وروابط بين الدعاة والقادة والزعماء والحكام.

 

وانظر إلى رحمة الله _تعالى_ الواسعة، كيف فرض على المسلمين أن تكون الفرحة بينهم عامة لا يُحرم منها أحد، حيث فرض سبحانه صدقة الفطر، ليشترك الفقراء والمحتاجون والأغنياء جميعاً في هذه الفرحة العظيمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (فرض رسول الله زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث، وطُعمة للمساكين. من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) [رواه أبو داود وابن ماجة بإسناد حسن].

 

وهكذا يزرع العيد في قلوب المسلمين المودة والرحمة، ويربيها على حب الخير للآخرين، ويدرّبها على معالجة المشكلات الاجتماعية، حين يدفع الإسلام المسلم -بفرض صدقة الفطر عليه- إلى الإحساس بالفقير والمسكين، فيألم لحالهم، وقد ذاق طعم الجوع مثلهم في شهر رمضان، فيخرج ليشتري لهم من الطعام ما يسد حاجتهم في العيد، ويغنيهم عن السؤال يوم الفطر والفرح، ثم يبحث عنهم ويذهب إليهم ويقدم لهم ما يستحقونه من طعام. فأي تدريب للنفس بعد هذا، وأي تربية لها على البذل والعطاء والإحساس بهموم الآخرين، والعطف عليهم، الكلمات هنا لا تكفي لوصف ما تزرعه صدقة الفطر وحدها من أخلاق فاضلة ومعان نبيلة في نفس المسلم.

 

ثم انظر إلى هذا المظهر الحضاري، الذي يرد على العلمانيين وغيرهم بعض مزاعمهم وادعاءاتهم بظلم المرأة في المجتمعات الإسلامية، حيث شرع الإسلام للمرأة الخروج للصلاة يوم العيد، تخرج في حجابها الإسلامي الوقور، غير متبرجة ولا مختلطة بالرجال، حتى إن كانت حائضاً غير أنها لا تصلي، لتشهد جمع المسلمين ودعوتهم، عن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: (أُمرنا أن نَـخرج، فنُخرج الحُيَّض والعواتق وذوات الـخدور - أي المرأة التي لم تتزوج - ، فأما الحُيَّض فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، ويعتزلن مصلاهم) أخرجه البخاري ومسلم.

 

وفي العيد تربية للعبد المسلم على تحقيق العبودية لله _تعالى_ في حياته اليومية، وهو معنى قد لا يدركه كثير من الناس وإن كان له أثر في نفوسهم، فالعبد ينتقل من الفطر قبل شهر رمضان، وقد ورد النهي عن تقدم شهر رمضان بيوم أو يومين بصيام تطوع لم يعتده، ومن الفطر الذي أمر به ينتقل العبد إلى الصوم في شهر رمضان فيمتنع عن الطعام والشراب والجماع عبادة وطاعة لأمر الله _تعالى_، ثم ينتقل العبد إلى يوم العيد فيجب عليه الفطر، بعد أن كان الصوم بالأمس عليه واجباً، فيفطر عبادة لله _تعالى_ وطاعة لأمره، وفي هذا الانتقال من حال إلى حال مقابلة لها تعويد للنفس على الخضوع المطلق لأمر الله _عز وجل_، والانقياد لأحكامه، والسير على شرعه، مع محبة ذلك والفرح والسرور به، وهذه هي العبودية التي ينبغي أن يسير عليها العبد في حياته كلها.

 

وهداية الله لنا للإسلام وبيانه معالم الدين لنا؛ نعمة عظيمة تستحق منا أن نعظّم الله ونشكره عليها، قال _تعالى_: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [البقرة : 185]، وفي عيد الفطر تتجلى مناسبة من أعظم المناسبات للشكر وهي فرحة إتمام الصوم ويوم الفطر، حين يعبّر المسلم عن شكره ذلك، بالتكبير والتهليل والتحميد، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

 

ولعل من فوائد التكبير في العيد –كما ذكر بعض العلماء- أن العيد محل فرح وسرور، ولما كان من طبع النفس تجاوز الحدود لما جبلت عليه من الشره تارة غفلة وتارة بغياً؛ شُرع فيه الإكثار من التكبير لتذهب النفس من غفلتها وتكسر من سَوْرتها. لذلك كله تلاحظ أن صلاة العيد، تتميز عن غيرها من الصلوات بسنة التكبير، عن عائشة _رضي الله عنها_: ( أن رسول الله كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمساً) [صحيح سنن أبي داود]. كما أن في تمييز صلاة العيد بالتكبير تنويعاً وتمييزاً له حكمته، وله بهاؤه، ولعل من ذلك ما يضفيه على صلاة العيد من تشويق ولذة وحلاوة، وما يلقيه ذلك في القلب من خشوع وخضوع لله رب العالمين. فالعجب كل العجب ممن يضيعون هذا المعنى من تعظيم الله _تعالى_ بالتكبير، ويجعلون العيد وقتاً للفساد والإفساد، من مشاهدة المحرمات، أو تضييع الصلاة، أو التبرج والسفور والاختلاط.

 

والتكبير والتهليل والتحميد في العيد؛ هي أذكار تعظيم لله _تعالى_ وتوحيد وشكر، فالقدرة التي منحها الله لنا لكي نصوم، والطعام والشراب، وصوم رمضان وما فيه من فضل ومغفرة وثواب، والعيد وما فيه من فرحة بالفطر وأسباب الترابط والمودة بين المسلمين .. نعم عظيمة، وكلها تستحق شكر الله عليها بذكره من تكبير وتهليل وتحميد، وقد قال ابن القيم: (فعلى العبد أن يعلم أنه لا إله إلا الله فيحبه ويحمده لذاته وكماله، وأن يعلم أنه لا محسن على الحقيقة بأصناف النعم الظاهرة و الباطنة إلا هو، فيحبه لإحسانه وإنعامه ويحمده على ذلك، فيحبه من الوجهين جميعاً... فإنه هو الذي جعل الحامد حامداً والمسلم مسلماً والمصلي مصلياً والتائب تائباً، فمنه ابتدأت النعم, وإليه انتهت, فابتدأت بحمده وانتهت إلى حمده، وهو الذي ألهم عبده التوبة وفرح بها أعظم فرح، وهي من فضله وجوده‏.‏ وألهم عبده الطاعة وأعانه عليها ثم أثابه عليها وهي من فضله وجوده, وهو سبحانه غني عن كل ما سواه) الفوائد المجموعة لابن القيم.

 

وختاماً.. أليس لنا في العيد كفاية عن الأعياد المبتدعة، ألا يسعنا عيد الفطر وعيد الأضحى بما فيهما من معان عظيمة وكثيرة لكي نصل الأرحام ونبر الوالدين ونذكّر بنعمة الإسلام ونتوجه إلى الله _تعالى_ بالذكر المشروع، فأين الأعياد المبتدعة كعيد الأم والموالد وغيرها من عيد الفطر وعيد الأضحى، لقد جمع عيد الفطر وعيد الأضحى كل ما قد يكون في تلك الأعياد المبتدعة من معان صحيحة يرغب فيها الناس، كالفرح والسرور والبر بالوالدين وصلة الأرحام والتصدق على الفقراء، والذكر والموعظة والتذكير، وهما فوق ذلك عيدان مشروعان، مقبولان ممن يحتفل بهما، لذلك فهما خير من كل الأعياد المبتدعة، قديمها وحديثها، عَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه- قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا في الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: « إِنَّ اللَّهَ _تَبَارَكَ وَتعالى_ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْراً مِنْهُمَا يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ ».أخرجه أحمد وغيره، أما الأعياد المبتدعة فهي غير مقبولة_ لأن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» رواه مسلم.