العنف المستمر بغطاء جبهة "الإنقاذ" الوطني التي تشكلت في مصر بعد انسحاب أعضاء علمانيين من تأسيسية الدستور تمهيداً لإفشاله قبل شهور، ما زال يترك أثره الجارح على حاضر مصر ومستقبلها القريب، وهو في نظرنا يرنو إلى أحد أمرين، أو بالأحرى هو يضع خطة بديلة لخطته الأولى بحيث إن فشلت حلت محلها رديفتها. الخطتان باتتا معلومتين للمتابعين، لكن أهم من ذكرهما وضع المعركة في إطارها الصحيح، الذي يمكن من خلاله فهم طبيعتها وتطوراتها وأسباب فشل كل محاولات حلها حتى الآن. مشكلة مصر باختصار أن الغرب لم يكن راغباً يوماً في تولي جماعة الإخوان لمقاليد السلطة في مصر، وهذا الموقف لا تفرضه المصلحة وحدها، وإنما الأيديولوجية أيضاً.. كلاهما معاً، وفرض الأيديولوجية وتذويب الهوية، وتغريب الفكر والسلوك ليس منبتاً أبداً عن المصلحة؛ فالمصالح العليا للغرب لا تتحقق إلا في غياب منظومة القيم الدينية لبلد كبير عريق رائد كمصر، والأمر لا يتعلق بجماعة الإخوان وحدها بطبيعة الحال، بل بكل من يريد لمصر ألا تتخاصم مع روحها وتاريخها وحضارتها الإسلامية، كما لا ينقضه براجماتية أو مصلحية مرنة ينتهجها هذا الفصيل الإسلامي أو ذاك في تعاطيه مع المصالح الغربية، لأن الغرب في تخطيطه ليس ساذجاً بطبيعة الحال، ويقرأ التطورات ويهضمها جيداً عند تخطيطه لمستقبل علاقاته في المنطقة، فلا يحرفه الظرف وطبيعة المرحلة عن مسار رؤيته لـ"الإسلاميين" ومدى انسجامهم مع تطلعاته في البلاد المصرية. هذا، لا يجعلنا بالضرورة نقرأ ما يحصل على أنه تنفيذ كلي لرغبة غربية، لكن في الحقيقة هو في معظمه كذلك، كما لا يدفعنا للاعتقاد بأن ما يجري في مصر هو تمهيد تلقائي لإنهاء حكم الرئيس محمد مرسي، وإنما ما يريده الغرب، وتنفذه مجموعاته بمصر يندرج تحت خطتين، الأولى فيهما تسعى لإسقاط النظام الشرعي المنتخب في مصر، والذي يتمثل فيه "الإسلاميون" بأكبر كتلة في مجلس الشورى المقنن الآن لمشاريع القوانين، ومؤسسة الرئاسة تحت قيادة الرئيس "الإسلامي" محمد مرسي، والثانية تتعلق بالقبول باستمرار الرئيس المصري في منصبه إذا ما تعذرت إطاحته، على أن يكون ضعيفاً، وسهل القياد تحت سلطة الضغوط الهائلة من الخارج والداخل. كلتا الخطتين يستتبع عدداً محدداً من الإجراءات المشتركة، ويفترق في النهاية عند غلبة أحد السيناريوهات، ومقدار الممانعة التي يبديها الحكم للتدجين والتطويع، ومن هذه الإجراءات: ـ حصار مصر عبر رفض تقديم أي مساعدة أو قرض خارجي دولياً، وقد بدا واضحاً أن معظم الوعود الغربية قد تآكلت أو تقلصت في الآونة الأخيرة، واتضح من زيارة مرسي لألمانيا وقبلها تعطيل قرض صندوق النقد الدولي أن ثمة من يحاصر مصر، ويفرض على حلفائه، حتى العرب، تنفيذه بحق مصر ونظامها الشرعي المنتخب. ـ وضع مصر تحت طائلة سياسة الكيل بمكيالين بالنسبة إلى تناول المنظمات الدولية لما يجري على أرضها؛ وهي سياسة (نفذت من قبل بالسودان كمثال للعديد من الدول الإسلامية)، يراد لها أن تقلل كثيراً من قدرة حكام مصر على اتخاذ أي قرار، لاسيما على الصعيد الأمني، حيث يوضعون دوماً بين مطرقة حقوقية (ثورية أحياناً)، إن قاوموا الفوضى التي ينفذها عملاء الغرب، وسندان الفوضى ذاتها إن تعاملوا برخاوة معها. ـ استخدام عديمي الضمير من الإعلاميين والسياسيين والحقوقيين والقضاة وغيرهم في ممانعة قيام أي تحسين للأداء الأمني والمعيشي في مصر بما يحدث ضجراً جماهيرياً يتزايد مع الوقت وصولاً، إما للثورة ضد نظام مرسي والأحزاب "الإسلامية" أو فشلها في الانتخابات النيابية القادمة ومغادرتها للمشهد السياسي. ـ إفشال قيام المؤسسات بدورها والعمل على تعطيل تلك المؤسسات، وجميع أدوات بناء الدولة، ومنها تعطيل الدستور قبل الاستفتاء عليه وبعده. ... إلى غير ذلك من الآليات، والتي يناط بها أن تركع نظام مرسي ليس لجبهة "الإنقاذ" المعارضة وإنما للغرب ذاته، أو إطاحته تماماً؛ فالغرض يبقى دوماً، وينبغي ألا يغيب، هو ألا تعود مصر مستقلة مثلما كانت قبل احتلالها منذ أكثر من مائتي عام (فرنسياً)، عندما بدأت مشوار التغريب وتذويب الهوية.. إنها معركة بثقل هذين القرنين، وتلك العقود من السنين، وهي معركة ليست سهلة، وهي لم تأتِ بكل تأكيد حين كان "الإسلاميون" جاهزين لخوضها؛ فصارت مهمتهم أصعب.. لكن مع هذا؛ فهم فيها صامدون حتى اللحظة أمام جحافل الطابور الخامس العلماني المتغرب، ويقاومون مخططات إطاحتهم بشجاعة، ويبذلون كثيراً لحل المعضلة التي يرونها ليست هينة، وهم عازمون على خوض غمارها حتى النهاية، وبكل الأدوات الممكنة.