الإيمان والتنمية الإيمانية
20 شوال 1433
د. طه الدليمي

تعلمنا الإيمان قبل القرآن

seven number quran 7وهذا من معنى قول سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (تعلمنا الإيمان قبل القرآن، فلما تعلمنا القرآن ازددنا إيماناً).

وقد اطلعت على جملة من تفاسير العلماء لهذا القول الجليل. فوجدتها تدور على الأسئلة الثلاثة التالية: (ماذا؟ ولماذا؟ وكيف؟).

فإذا أجبت عن هذه الأسئلة كان القرآن الكريم محركاً لمكامن الإيمان فيك، ووسيلة لبلوغ درجة الإحسان منك.

 

أما ماذا؟ فأن تعلم ماذا تحوز بين يديك؟ وما الذي تقرأ؟! إنه كلام الله جلّ في علاه، أنزله من فوق سمواته، يخاطبك به أنت العبد الصغير القليل! فمن أنت حتى تكون أهلاً لهذه الكرامة؟! أهلاً لأن (تقرأ)! وتقرأ ماذا؟

هلا ذكرت أصلك، ومن أي مادة خلقت؟ وإلى أي شيء تخلقت؟ لقد كنت ذرة تراب، تحولت نطفةً تخلقت علقةً! أتدري ما العلقة؟ دودة تائهة في مياه البرك الراكدة، وحبة دم عالقة بجدار رحم في ظلمة هامدة! فمن أنت لولا كرامة (الأكرم) الذي تكرم عليك بها فنقلك من هذه الدركة الواطئة إلى تلك الدرجة السامية إنساناً قادراً على تلقي العلم من الله، يمسك بالقلم ليكتب ما علمه الله!

 

هل تخيلت مدى النقلة؟! وهل أدركت عظم الكرامة التي منّ الله بها على علقة حتى صارت إنساناً يجلس بين يدي كتاب الله تعالى أهلاً لقراءته وتدبره وكتابة ما يجود به الرب عليه من فيوضات العلم وأسرار المعرفة؟! هل علمت الآن ماذا؟

وأما لماذا؟ فلماذا تقرأ؟ ما الغاية من القراءة؟ ولأي شيء أنزل هذا الذي تقرأ؟

إنه للتدبر والتفكر والتأثر، ثم للعمل به: مجاهدةً للنفس أولاً.. وجهاداً للعدو ثانياً، كما قال منزله سبحانه: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (الفرقان:52).

فإذا علمت ماذا ولماذا، فتعال معاً نتعلم كيف؟ كيف نقرأه القراءة الربانية الخاشعة الواعية؟

 

كيف تقرأ القرآن لترقى

لم أجد كقوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2) مرشداً  لكيفية القراءة النافعة! فالقرآن بذاته هدى، ولكن لصنف خاص من القراء فقط، أولئك هم (المتقون).

التقوى لا تكون قبل أن يفرغ العبد قلبَه مما قبلَه.

وهو سوابق الأمراض: شكاً وشبهة، وهوى وشهوة؛ فالعطر لا يزيد الجسم المحمل بالدرن إلا عفونة. وكما قال اللطيف الخبير: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) (فصلت:44)، وقال: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:26،27).

والانتفاع بالقرآن في تنمية الإيمان إنما هو بالقراءة المتأنية المتدبرة، وليس بالهذرمة السريعة المتعجلة، وكأني بصاحبها داخل تحت طائلة قوله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) (التكاثر:1،2)!

 

روى الحاكم في المستدرك عن القاسم بن عوف قال: سمعتُ عبد الله بن عمر يقول: "لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها و حرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآنَ، ثم لقد رأيتُ اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره و لا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثره نثر الدقل[1]".

إذن فقه المقصود بكلامه سبحانه مقدم على عدد مرات قرآنه. وكما أُثر عن ابْنِ عُمَرَ أيضاً أنه قَالَ: لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ الدَّهْرِ وَإِنَّ أَحَدَنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ, وَفِي لَفْظٍ: إنَّا كُنَّا صُدُورَ هَذِهِ الْأُمَّةِ, وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَصَالِحِيهِمْ مَا يُقِيمُ إلَّا سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ شِبْهَ ذَلِكَ, وَكَانَ الْقُرْآنُ ثَقِيلًا عَلَيْهِمْ وَرُزِقُوا عِلْمًا بِهِ وَعَمَلًا, وَإِنَّ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَخِفُّ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ حَتَّى يَقْرَأَهُ الصَّبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ شَيْئًاً).

فإذا فرغت قلبك لقراءة كتابه سبحانه، لم يبق إلا أن تقرأه تحقيقاً لمجاهدة نفسك أولاً.. ولجهاد عدوك ثانياً.

 

نبضات الإيمان

والتقوى قد تكون نبضة في قلب كافر تنبع من نقطة خير فيه، تشرق في لحظة فتضيء كيانه كله فتكون الهداية، ما لم يعترضها مانع من كبر أو شهوة وما شابه. فالقرآن الكريم فيه طاقة قادرة على تحريك الحجر الأصم كما قال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21)، فما بالك بإنسان له قلب من لحم ودم؟!

فهذا جبير بن مطعم - عندما سمع الرسول يقرأ سورة (الطور) بمكة - يصف نفسه في تلك اللحظة (وهو ما يزال على شركه) فيقول: (فكاد قلبي يطير)!

 

ووصف الله تعالى وفد النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة:82،83).

وكما آمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما سمع آيات من سورة (طه)، وقد تهيأ قلبه عندما رق لمنظر الدم يتدفق من وجه فاطمة أُخته وقد ضربها بكفه!

وأما بعد الإسلام فتلك حال أُخرى أسمى وأرقى!

يسمع رضي الله عنه رجلاً يتهجَّد في الليل ويقرأ سورة الطُّور، فلما بلغ قوله جل وعلا: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) (الطور:8،7) قال: قَسَمُ حقٍّ ورب الكعبة، ثم رجع إلى منزله فمَرِض شهراً، يَعوده الناس ولا يدرون ما مرضه، ما به إلا الخوف من الله!

وما أجمل قول ابن الجوزي حين يقول: (يا عجباً لخوف عمر مع عدله، وأمنك مع ظلمك)! ويا سعادة من استثمر هذه النبضات لتحويلها من حافز في لحظة عارضة إلى محرك مستمر لحالة دائمة!

 

وفي قصص توبة الصالحين عبرة!

فقد روى الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء) عن الفضل بن موسى قال: كان الفضيل بن عياض شاطراً يقطع الطريق بين أبِيوَرْد وسَرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها، إذ سمع تاليا يتلو (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد:17) ([2]). فلما سمعها قال: بلى يا رب قد آن. فرجع فآواه الليل إلى خَرِبة، فإذا فيها سابلة يقول بعضهم: نرحل، ويقول بعضهم: حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا.

قال ففكرت، وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين هاهنا يخافوني؟! وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع. اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مُجاورة البيت الحرام.

تأملوا كيف أصبح هذا الفاسق السارق عالماً جليلاً وعابداً فقيهاً، يقرأ القرآن قراءة مجاهدة وجهاد! فقد روى الحافظ ابن عساكر عن محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال: أملى عليَّ عبد اللّه بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وأنشدها إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا * لعلمت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه * فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يتعب خيله في باطل * فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا * رهج السنابك والغبار الأطيب

ولقد أتانا من مقال نبينا * قول صحيح صادق لا يكذب

لا يستوي غبَّار خيل اللّه في * أنف امرىء ودخان نار تلهب

هذا كتاب اللّه ينطق بيننا * ليس الشهيد بميت لا يكذب

 

قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني. ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قال: قلت: نعم، قال: فاكتب هذا الحديث كراءَ حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا. وأملى عليّ الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول اللّه علِّمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل اللّه، فقال : (هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟) فقال: يا رسول اللّه أنا أضعف من أن أستطيع ذلك. ثم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده لو طُوِّقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله، أوما علمت أن فرس المجاهد ليستن [يعدو مرحاً] في طِوَله [حبله] فيكتب له بذلك الحسنات؟!)[3].

 

 
المصدر/ موقع القادسية
ــــــــــــــــــــ

[1]- الدَّقَل: رديء التمر ويابسه.

[2] - تأمل كيف نزلت آية الخشوع في سورة اسمها (الحديد)!

[3] - الحديث رواه البخاري.