تحدد هذه الدراسة للباحث الأستاذ على حسين باكير الإطار الذي يحدد السياسة التركية تجاه الملف السوري، وخيارات وحدود الدور التركي بالنسبة للأزمة السورية ضمن المعطيات المحلية والإقلمية والدولية، خاصة بعد احتدام العلاقة عقب إسقاط نظام بشار الأسد لطائرة تركية في يونيو الماضي، فماذا ستصنع تركيا وما مفهومها للثورة السورية وحساباتها تجاه مسألة التدخل الخارجي ضد نظام بشار الأسد، الذي أنهك داخلياً بشكل واضح مع توالي الانشقاقات وزخم الثورة المستمرة للشعب السوري.
شكّل إسقاط النظام السوري طائرة الاستطلاع التركية الشهر الماضي - 23 يونيو الماضي - انعطافة خطيرة في منحى العلاقات المتدهورة والمتوترة أصلاً بين الطرفين. وقد تساءل كثيرون عن ذلك العامل الذي يلجم أنقرة عن الرد على اعتداءات وانتهاكات النظام السوري المتكررة، ولماذا لم تقم تركيا الآن بأي خطوة حاسمة على صعيد الملف السوري على الرغم من انّ سقف المتوقع والمأمول منها اقليميا ودوليا عالٍ لعوامل جيو-استراتيجية عديدة تأهلها لأن تكون اللاعب الأكثر تأثيرا وفعالية في الملف السوري.
من هذا المنطلق، تأتي هذه الورقة لتشرح الاطار الذي يحدد السياسة التركية تجاه الملف السوري، وخيارات وحدود الدور التركي بالنسبة للأزمة السورية ضمن المعطيات المحلية والاقلمية والدولية.
أكثر من عام مرّ على انطلاق الثورة السورية، بدأ خلالها الموقف التركي معوّلا على الجهود السياسة والدبلوماسية لإقناع الأسد بإجراء إصلاحات سريعة وفعّالة وعملية على ارض الواقع تستجيب لمتطلبات الشعب المشروعة مترافقا مع تحذير من تجاهل الوضع أو عدم أخذه على محمل الجد لما له من تداعيات مدمّرة على سوريا والمنطقة. وبعد جهد كبير وجولات سياسية ودبلوماسية مكّوكية، تبيّن أنّ الأسد لا يولي النصائح التركية أي اهتمام وانّ أذنه متّجهة نحو إيران لاستلهام الخبرة الإيرانية في العام 2009 ليضيفها الى خبراته السابقة في السياسة الأمنية والعسكرية للتعامل مع الثورة السورية.
عندها انتقل الموقف التركي إلى مستوى أعلى، معتمدا على بعض الأدوات السياسية والاقتصادية للضغط على الأسد في محاولة لدفعه إلى تحقيق الإصلاحات تحت الضغط، وعندما تبيّن أنّ هذه الضغوط أضعف من أن تجبر نظاما سلطويا أمنيا وعسكريا على قبول إجراء مثل هذه الإصلاحات، انتقلت تركيا إلى مستوى آخر تعتمد فيه على التشاوروالتنسيق مع الجانب العربي المتمثل بالجامعة العربية وبعض الدول الإقليمية الفاعلة وتحديد الخليجية منها، تبعه تشاور مماثل مع حلفائها الدوليين وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.
وخلال هذه الفترة، وبعد أن اعتبرت أنقرة انّ الأسد ونظامه قد فقدا الشرعية، تبيّن أنّ سقف التصريحات التركية إزاء الوضع في سوريا قد بلغ مستوى عالي جدا واكبه عدد من التهديدات والتصريحات التي تعكس هذا السقف، لنعود ونرى بعدها انّ الموقف التركي يكاد يراوح مكانه مع باقي الفرقاء الإقليميين والدوليين، مقابل تسارع وتيرة الدعم المقدّم للنظام السوري من قبل حلفائه الإقليميين والدوليين.
والحقيقة أنه ورغم مناقشة المؤسسات التركية خلال سنة من عمر الثورة السورية الخيارات المحتملة في سوريا وتأكيدها استعدادها لكافة الاحتمالات، لكن الحقيقة أنّ خيارات تركيا للتعامل مع سوريا كانت محدودة جدا، فالحالة السورية كانت بمثابة اختبار لقدرات أنقرة ودبلوماسيتها كما لموقع ووزن تركياالإقليمي والدولي في وقت كثير فيه الحديث عن تركيا كقوة إقليمية صاعدة.
محدودية القدرات التركية
فقد أظهرت الحالة السورية انّ قدرات تركيا محدودة في الحالات الصعبة (ليس في الكم أو النوع بل في القرار)، كما بدا أنّ هناك فجوة بين خطاب القيادات والمسؤولين في الحكومة التركية وبين ما يفعلونه أو يستطيعون فعله ازاء ما يحصل، وبين الإمكانيات والمتطلبات. فلا استطاعت تركيا إقناع الأسد بالقوة الناعمة ولا استطاعت لجمه بالقوة الصلبة (التي لم تستخدمها)، كما أنها رفضت مبادرة مد الجيش الحر بالسلاح وحتى الاعتراف به على اراضيها أو السماح له بالانطلاق منها او حمل اسلحة عليها.
والحقيقة أنّ جزءاً من محدودية قدرة تركيا على التحرك يعود إلى معطيات ذاتية وجزءاً آخر يعود إلى معطيات إقليمية ودولية. وأبرز هذه المعطيات الذاتية:
• المثالية التي تطبع جزءاً من السياسة الخارجية التركية، واعتقاد وزير الخارجية التركية بأنّ دبلوماسية تصفير النزاعات لا تزال صالحة، وأنّ الدبلوماسية والمبادرات السياسية مترافقة مع بعض الضغوطات قادرة على معالجة الوضع السوري.
• عدم رغبة و/أو قدرة تركيا على دفع الثمن الذي يتطلبه تنفيذ سقفها العالي ووضعه موقف التنفيذ على الأرض، فانتظار أن يسقط الأسد لوحده أو من خلال مجهود دبلوماسي في الوقت الذي يتلقى فيه كل الدعم اللازم لبقائه من روسيا وإيران تحديداً، غير واقعي لاسيما في الوقت الذي لا يوجد فيه استعداد أو رغبة تركية في مواجهة إيران أو الاصطدام بها.
• عدم رغبة تركيا في الانخراط في سياسة محاور أو تحالفات خاصة ما من شأنه أن يظهرها كقوّة سنيّة منخرطة في تحالف طائفي، أو ما يظهرها بأنها ذراع أمريكي منخرطة في تحالف امبريالي.
• التزام تركيا التصرف تحت سقف أو مسوغ قانون أو شرعي دولي أو إقليمي، وهو ما يعرقل على سبيل المثال مسألة تسليح الجيش الحر أو السماح له بالانطلاق من أراضيها.
• ربط التدخل العسكري التركي في سوريا لإقامة ممرات آمنة أو منطقة آمنة بثلاثة شروط منها ما يتعلق بتهديد الأمن القومي التركي (كاعتداء النظام السوري على تركيا، أو انهيار الدولة السورية، مختلف عن انهيار النظام)، ومنها ما يتعلقبتدفق اللاجئين إلى تركيا بشكل يحول دون قدرات تركيا على تحمله او بشكل يحمل معه مخاطر على تركيا (نقلت بعض المعلومات تقديرات عن أن الحد هو 100 ألف)، والثالث هو قرار أممي للتدخل في سوريا أو أي غطاء شرعي دولي آخر بمشاركة عربية ودولية.
هذه المعايير التي وضعتها أنقرة لنفسها قيّدت من حرية الحركة والخيارات العملية المتاحة لها وهو ما جعل موقفها مكشوفا وغير ذا تأثير كبير، ليقتصر على بعض الخطوات السياسية والاقتصادية فقط حتى هذه المرحلة، مع الاستعداد كما تقول لكل المتطلبات اللازمة للمرحلة القادمة.
فهم تركيا للحالة السورية
يقوم فهم أنقرة للوضع السوري على عدد من الركائز، أهمها:
1- الأسد ونظامه فقدا الشرعية، ولا يمكن لهذا النظام أن يبقى لكن الموضوع يتعدى قدرات دولة واحدة على تحمله خاصة مع ما حصل من فرز إقليمي ودوليالحل يفضل أن يكون إقليمي.
2- الأولوية الآن لوقف الدم المسفوك في سوريا، والأولوية أيدا بمبادرات السياسية والدبلوماسية، ولذلك ليس من الخطأ إقناع إيران وروسيا رغم عدم الموافقة على سياستهما.
3-التنسيق مع الدول العربية وجامعة الدول العربية ولا سيما السعودية وقطر أمر ضروري على طول الخط سواء للحصول على الغطاء الشرعي المطلوب أو للمواكبة العملية في الملف، وهو أمر مطلوب أيضا لتحفيز قدرة اكبر من الدول على الحركة لمواكبة الموقف التركي وايضا لتفادي حساسيات لدى انقرة من انها تسعى الى دور قائد في سوريا أو حساسيات اخرى عربية – تركية تثيرها بعض الجهات ولا سيما النظام السوري.
4-التشاور مع الحلفاء الدوليين وعلى رأسهم الولايات المتحدة وحلف الناتو أمر ضروري لما لهؤلاء الحلفاء من وزن على الصعيد الدول ومن دور من الممكن أن يساعدوا به في الملف السوري سواء في المسار السياسي والدبلوماسي أو في المسارات الأخرى التي من الممكن أن تتم داخل إطار مجلس الأمن أو خارجها.
5-إيقاف الدم المسال أولوية بالنسبة لتركيا، ولا يمكن استمرار الوضع على ما هو عليه، لكن الأولوية بالنسبة لتركيا تكون دوما للمسار السياسي الدبلوماسي للتعامل مع الملف السوري.
6-قادت تركيا الجهود الأولى للضغط على الأسد وكانت السبّاقة في ذلك ثم تبعها الجميع. وهي لا تعارض أن تعيد الكرّة في خيارات أخرى أصعب، لكن بناء على ضمانات كافية وقاطعة في هذا الشأن من المجتمع الدولي، ففي النهاية ليس من المنطقيّ تحميل أنقرة وحدها عبء سوريا.
حسابات التدخل التركي في سوريا
وفي سياق موازي كانت أنقرة تسعى الى استكشاف الموقف الدولي في حال فشل المسعى الإقليمي، خاصة انّها كانت تربط هذا الموقف بإمكانية قيام نوع من أنواع التدخل العسكري في سوريا سواءً لإنشاء ممرات آمنة أو منطقة آمنة أو عازلة أو أية خيارات أخرى.
والحقيقة أنّ حديث أنقرة عن هذه الخيارات إنما كان يدخل ضمن إطار الاستعداد لكل الاحتمالات المرتبطة بنضج الأوضاع الإقليمية والدولية وتطور الوضع السوري من جهة، كما في إطار الضغط على النظام السوري من جهة أخرى أكثر من كونه خيارا جدّيا لاسيما ما يتعلّق بالتدخل الفردي وذلك لمعوقات مبدئية وعملية، ذاتية وإقليمية ودولية.
المعوقات المبدئية لتدخل عسكري منفرد
1-رغم عدم واقعية الطرح، ما زال وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو يعتقد ان دبلوماسية تصفير النزاعات قابلة للتطبيق حتى في هذه الظروف الحالية التي تضرب المنطقة، وعليه فهو إضافة إلى آخرين في الحكومة يفضلون الحل السياسي الدبلوماسي لما يجري في سوريا.
2-إضافة إلى ذلك تعتبر بعض الأوساط في تركيا ان التدخل العسكري ليس من تقاليد السياسة الخارجية التركية الحالية لاسيما منذ استلام حزب العدالة والتنمية الحكم في عام 2002.
3- أنقرة تلتزم بأسس الشرعية الدولية وتسعى إلى أن تكون أفعالها مثالا يحتذى به ولا تريد أن تلعب دور الدولة المارقة الخارجة عن القوانين أو المستعرضة لعضلاتها، ولذلك ما لم يكن هناك مسوغ قانوني لتدخل عسكري تفرضه معطيات تركية محددة فلن يكون هناك تدخل. (لذلك تم مؤخرا محاولة بحث إمكانية استغلال اتفاقية أضنة عام 1998، أو تفعيل البند الخامس من ميثاق حلف شمال الأطلسي).
المعوقات العملية لتدخل عسكري منفرد
أ-فيما يتعلق بالمعطيات الداخلية التركية:
1- عدم تناسب القدرات التركية:أي تدخل عسكري لإقامة ممرات آمنة داخل الأراضي السوري أو إقامة منطقة عازلة سيعني اندلاع حربمع النظام السوري (وربما حلفائه)، وهو ما سيستلزم بالضرورة نشر أعداد كبيرة من الجنود والتمركز داخل الأراضي السورية بشكل دائم لجعل هذه المناطق آمنة. هذا الهدف، سيعرّض القوات التركية لمخاطر كبيرة سيما إذا ما اعتمد النظام السوري نموذج الحرب غير المتوازية، فالقوات التركية غير حاضرة لوحدها من ناحية العدد ونوعية العتاد المطلوب لتنفيذ هكذا مهمة من دون وقوع خسائر بشرية كبيرة لا سيما في صفوف المدنيين.
2- ارتباك الرأي العام التركي: على الرغم من انّ حزب العدالة والتنمية يمتلك الأغلبية في البرلمان وقادر على اتخاذ وتنفيذ اي قرار من دون الاستعانة بالآخرين، الا ان قرارا قد يضع البلاد على شفير حرب مع دولة اخرى قد يستلزم بالضرورة مشاورة الأخرين. ومن الواضح انّ هناك رفضا قويا للمعارضة التركية التي تساعد على التشويش على الرأي العام من خلال تبني رواية النظام السوري لوجود مؤامرة غربية وان ما يجري هو عمل عصابات وارهابيين ومتطرفين، وهذا يخلق ارباكا لدى الرأي العام التركي حول السبب الحقيقي لدخول قوات بلاده إلى سوريا.
3- القضية الكردية: القضية الكردية تحمل هواجس دائمة في تركيا، وهناك حذر دائم من إمكانية تدويلها أو استغلالها من قبل بعض القوى الإقليمية والدولي كورقة ضد تركيا. وقد ازدادت هذه الحساسية مؤخرا اثر اكتشافالحكومة مخططات لحزب العمّال الكردستاني لإحداث نوع من البلبلة الأمنية يليها محاولات للحض على ثورة في شرق تركيا في شهر تشرين أول 2011. ولذلك فالحكومة التركية حذرة وتأخذ الحسابات الكردية على محمل الجد في أي تدخل في سوريا.
4- القوة الناعمة:يستند جوهر الصعود التركي في المنطقة خلال العقد الماضي على مفهوم القوة الناعمة التي تعد الركيزة الأساسية للسياسة التركية. وقد أظهر استطلاع للرأي على سبيل المثال أجرته مؤسّسة الدراسات الاقتصادية والاجتماعية التركية ونشر في فبراير/شباط 2012 أنّ تركيا الدولة الأكثر شعبية في العالم العربي من حيث النظرة الايجابية إليها بنسبة 78%. ولا شك أنّ قرارا بإنشاء الممرات الآمنة أو المنطقة العازلة إنما سيتطلب استخداما للقوة الصلبة وقد يطيح ذلك بكل مكتسبات القوة الناعمة، ولهذا تتخوف القيادة التركية من أن يتعارض ذلك بالضرورة مع سياساتها، وان ينظر حينها إلى تركيا كقوة احتلال سيما وان هناك أرضية لاستغلال مثل هذا الوضع مع استخدام النظام السوري ومعه بعض الحلفاء الإقليميين لبروبغندا "العثمانيين الجدد" و"الأطماع التركية" و"تركيا ذراع الغرب".
ب-فيما يتعلق بالاطار الاقليمي والدولي:
1- الموقف الدولي غير الجاد:
• موقف واشنطن: لأنه سيكون من شبه المستحيل القيام بتدخل تركي فردي لا تقتصر أبعاده وتداعياته على المحيط الإقليمي فقط بل الدولي، فان أخذ موقف واشنطن في الحسابات التركية في هذا الإطار يعد في غاية الأهمية. ونتيجة للتشاور المتواصل مع الولايات المتحدة الأمريكية، هناك إدراك لدى القيادة التركية بان واشنطن ليست مستعدة (على الأقل حتى هذه اللحظة) لأن تقدم أكثر مما قدّمت وهو دعم سياسي في حدّه الأدنى مع وعود للمعارضة السورية بتقديمات مالية ولوجسيتة سلمية "معدات اتصال"، وذلك لأسباب متعددة سياسية واقتصادية وعسكرية،ناهيك عن الانطباع الموجود لدى بعض الأوساط في أنقرة من أن إسرائيل تدفع واشنطن أيضا باتجاه ترك الأمور على ما هي عليه دون دعم المعارضة السورية لأسباب وغايات عددية.
• موقف الناتو: كما واشنطن، فإن موقف الناتو مهم جدا بالنسبة للقيادة التركية. إذ تعتبر تركيا عضوا في حلف شمال الأطلسي، وأي تدخل في سوريا ضمن صراع إقليمي أو دولي قد يحتم في مرحلة من المراحل دخول حلف شمال الأطلسي بموجب البند الخامس من ميثاق الحلف الذي يحتم على كل أطراف الحلف الدفاع عن أي دولة عضو حال الاعتداء عليها. حتى الآن كل تصريحات الحلف وأمينه العام تشير إلى عدم استعداد و/أو إرادة الحلف للتدخل في الموضوع السوري.
2- موقف حلفاء النظام السوري: أثبت حلفاء النظام السوري (روسيا، الصين، إيران، حزب الله، الحكومة العراقية) استعدادهم لمدّه بكافة أشكال الدعم السياسية، والمالي، والعسكري، وتحمّل كافة تبعات خيارهم هذا. ويعد هؤلاء أكبر شركاء تجاريين لأنقرة على الإطلاق إذا ما استثنينا الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الذين يحتلا مرتبة أول ورابع شريك تجاري لتركيا. كما أنّ موسكو وطهران تمدّان تركيا بأكثر من 75% من حاجاتها من الغاز، وتمدان أنقرة أيضا بالإضافة إلى العراق بأكثر من 50% من حاجاتها من النفط (وفق أرقام الربع الأول من عام 2011).
وهذا يعني أنّ أي تدخل تركي في سوريا قد يضع أنقرة مباشرة في مواجهة هؤلاء الذي قد لا يتورّعون عن استخدام كل هذه المعطيات كأوراق، وهو الأمر الذي لا قبل لتركيا على تحمّله وحدها. صحيح أنّ الدول العربية الخليجية قد تكون مستعدة للمساعدة في دعم أي تحرك تركي لاسيما من الناحية المالية، لكن من دون أي دعم أمريكي أو من قبل الناتو فانّ هذا الدعم الخليجي لن يكون كافيا، ولن يستطيع تعويض تركيا عمّا قد يحصل لها.
3- ورقة حزب العمال الكردستاني: تخشى تركيا من استخدام ورقة حزب العمّال الكردستاني ضدّها خاصة في ظل شكوك واسعة من أنّ الهجمات الأخيرة لحزب العمال في تركيا كانت مدعومة من قبل دول إقليمية (سوريا وإيران) إن لم يكونا قد غضّا النظر على الأقل، ولعل أضخمها الهجوم الذي وقع في شهر تشرين الأول 2011في محافظة هكاريو أدى إلى مقتل 26 جنديا تركيا في ثاني أكبر عملية لحزب العمال الكردستاني في تاريخه، وهو ما يعزز الربط بين توقيت العمليات وقدرات التنظيم المحدودة من جهة، وبين التطورات الإقليمية والهجوم الكبير الذي تمت تنفيذه والذي يفيد بوجود دعم خارجي يتلقاه التنظيم من جهة أخرى.
ويعتقد انّ سوريا فتحت قواعد جديدة لتدريب أعضاء حزب العمال الكردستاني وانّ هناك مخيم يضم أكثر من 150 عضو من بينهم قياديين كفهمان حسين ونورالدين صوفي الذين يعتقد أنهما على صلة مباشرة مع الاستخبارات السورية، تبعها تهديد حزب العمال نهاية شهر آذار 2012 بأن أي تدخل لتركيا في سوريا سيحوّل كافة المناطق الكردية إلى ميدان حرب، وهو الأمر الذي يضع المزيد من الأعباء على تركيا قبل التفكير جديا في أي تدخل قد يفتح المناطق الكردية في كل من سوريا وإيران والعراق عليها.
الدور التركي وسياسات ما بعد مبادرة أنان
على الرغم من أنّ مبادرة انان لم تنص على تنحي الرئيس بشار الأسد، إلاأنّ تركيا رحّبت بها واعتبرتها خطوة صحيحة وان كانت متأخرة. وتعتقد الدبلوماسية التركية أنّ المفتاح بعد تعقّد الملف السوري يكمن في تفكيك الموقف الروسي والإيراني، وأنه إذا ماذا تم استهداف هاتين الدولتين دبلوماسية وسياسيا والتوصل إلى اتفاق لتحييدهما على الأقل، فان حلا بخصوص سوريا سيكون أسهل مما هو عليه الآن، ولذلك فقد تساهم مبادرة أنان في تفكيك موقفهما.
ويذهب التقييم التركي إلى أنّ الأسد لن يلتزم بها لأنه بالنسبة لهم شخص لا يمكن الوثوق به وبأي من كلامه أو وعوده كما أثبتت التطورات، وعلى كل حال، فان حصل والتزم بها فسيخسر في النهاية بجميع الأحوال لأنه فقد شرعيته داخليا، ولان الثورة لم تتوقف رغم آلة القمع والقتل العنيفة.
أماإذا لم ينفذ النظام السوري الاتفاق فهذا يفتح الباب إلى العودة مجددا إلى مجلس الأمن مع موقف روسي اضعف (وفق بعض التقييمات) على اعتبار أنّ مصداقية موسكو تكون قد تضررت اثر انهيار المبادرة التي كانت تشرف عليها وصيغت على مقاسها وشروطها، حيث قد يكون احتمال فرض فيتو ثالث صعبا في هذه المرحلة.هذه العودة إلى مجلس الأمن قد تؤمن الطريق لتفعيل خيارين ستكون لتركيا كبير ورائد فيهما:
1- الدبلوماسية القهرية: وتتضمن عزل النظام السوري إقليميا ودوليا، وتشديد الخناق السياسي والدبلوماسي والاقتصادي عليه من خلال آلية متابعة ومراقبة صارمة للعقوبات السابقة الإقليمية والدولي التي تم فرضها عليه، رفع ملفات الأسد ونظامه إلى محكمة الجنايات الدولية، وتشجيع الانقسامات والانشقاقات داخل النظام ومؤسساته السياسية والدبلوماسية والعسكرية، والتحضير لتقديم المعارضة كبديل شرعي.
و/أو
2- التدخل في سوريا: وقد يتضمن خيار التدخل إنشاء ممرات آمنة بمراقبين مسلحين، أو منطقة عازلة، أو منطقة حظر طيران، أو عملية عسكرية جراحية أو شاملة. وفي هذه الحالة، يكون قد تم تذليل جزء كبير من العقبات السابقة الذكر في الورقة أعلاه أمام تركيا بعد الحصول على غطاء شرعي أممي وبمشاركة عملية أمريكية أو من قبل حلف الناتو مع مواكبة عربية
أمّا إذا ما كان احتمال فرض الفيتو ما زال قائما ومورس في هذا السياق، فان خيار الذهاب بالدبلوماسية القهرية يظل قائما، أمّا الخيار الثاني فقد يكون على شاكلة السيناريو الكوسوفي، وهذا يحتاج بالضرورة إلى مشاركة أمريكية قوية ودعم إقليمي ودولي واسع قد تمهّد أنقرة له من خلال إقامة تحالف دولي داعم للشعب السوري.
وإذا كانت المعطيات المتوافرة حتى الآن تذهب بالتقييمات إلى انّه لا خطوة عسكرية قادمة في سوريا على المدى القصير، إلا أنّ التطورات المستقبلية المنتظروقد تغيّر من هذه المعطيات وبالتالي من حسابات مختلف اللاعبين والأطراف وتدفع لللجوء إلى التدخل المباشر أو الغير مباشر كأمر حتمي، لاسيما بعد خلال الأشهر الستة القادمة فما بعد.
هل من تحولات بعد اسقاط الطائرة؟
لم تغيّر واقعة اسقاط النظام السوري للمقاتلة التركية الشهر الماضي من الاطار العام لسياسة التركية والذي تناولناه في الورقة اعلاه، على الرغم من بعض المؤشرات التي تؤكد انّ الاحتقان بلغ أشدّه وانّ أنقرة قد تلجأ الى تدابير استثنائية اذا ما قام النظام السوري باستفزازها مجدد على اعتبار انّ الموضوع تحول بعد اسقاط الطائرة الى موضوع وطني قومي في تركيا واضعا الأتراك أمام خيارات تتعلق ببلدهم هذه المرة وليس بأي طرف آخر.
ومن هذه المؤشرات الملموسة حتى الآن:
1- التعزيزات العسكرية التي تم الدفع بها مؤخرا على الحدود اضافة الى بطاريات الصواريخ المضادة للطائرات ، ونشر طائرات اف-16 لمراقبة الحدود مع سوريا والتي تعطي رسالة عن الجدية التي سيتم التعامل بها مع اي خرق من قبل النظام السوري حيث سيتم الرد مباشرة بالمثل دون انتظار.
2- التغاضي الرسمي عن الدعم المقدّم للجيش الحر مؤخرا. فعلى الرغم من الانكار الرسمي التركي، الا انّه وفق المعلومات المتاحة ميدانيا، فان الدعم التسليحي والمالي بدأ يتدفق عبر الحدود، مع بقاء تحفظ حالي على موضوع تسليح المعارضة السورية.
خلاصة
خلاصة الموضوع، أنّ التدخل التركي الفردي ضمن المعطيات المحلية والاقليمية والدولية الحالية يعد صعبا للغاية وان أصبحت امكانية الانزلاق الى حرب الىن اسهل من السابق نظرا لتراكم العناصر المفجّرة لها. أمّا التدخل التركي ضمن تحالف بغطاء شرعي دولي أو إقليمي فإنه مرتبط بالتطورات التي ستحصل على جبهة الأمم المتحدة ومجلس الأمن من جهة، والموقف المرتبط بأمريكا وحلف شمال الأطلسي من جهة أخرى إذا ما اعتبرنا طبعا أنّ هناك تفاهم تركي-عربي أو تركي خليجي بالأحرى على التنسيق في أي خطوة تتضمن تدخلا سواء عبر المشاركة المباشرة من قبل الدول الخليجية أو عبر توفير الغطاء والدعم.
أما خيار دعم الثوار عسكري فهو موضع حساس جدا في تركيا لأقصى درجة ممكنة، ولا تزال أنقرة ترفض هذا الخيار (على الرغم من حصول تسهيلات على هذا الصعيد منذ شهر مايو تقريبا) لان الجيش الحر بالنسبة لها لا يحمل أي صفة شرعية تبرر التعامل معه، وخوفا من أن يتم معاملتها مستقبلا بمثل هذا الأسلوب كاستضافة بعض الدول لجماعات مسلحة ضدها ودعم هذه الجماعات علنا، وثالثا لأنها لا تريد أن تلعب على الطريقة الإيرانية كما يقول بعض المسؤولين.
لكن بعض التقارير الصادرة عن مراكز بحثية مهمة وأخرى عن أوساط تضم محللين وخبراء واكادييمن بدؤوا يتحدثون مؤخرا ولو بشكل بسيط جدا عن ضرورة وضع مثل هذا الخيار (خيار دعم الجيش الحر بشكل مفتوح) بعين الاعتبار إذا ما فشلت كل الخيارات الأخرى.
في كل الأحوال، سيكون الدور التركي مهما، لكن افتراض أن تقوم تركيا بأي دور وحدها يتخطى الأمنيات إلى ضرورة النظر في القدرات التي تخوّلها ذلك، وهي قدرات إن لم تكن محدودة بذاتها، فهي محدودة في الظروف التي من الممكن أن تستعمل بها.