السلفيون في جنوب اليمن وخيارات المرحلة الراهنة
16 جمادى الثانية 1433
د. فارس العزاوي

يَقتضي النَّظر في الأزمةِ الجنوبيَّة في اليمن قَدرةَ الباحث في السياسة الشرعيَّة على توصيف الأزمة من حيث مظاهرُها، ومفاصِلها، وأطرافِها السياسية الفاعِلة، واتِّجاهاتها الفكريَّة المُختلِفة، ثم إحكام النَّظر الشرعي في وضْع المخارج والحلول، ضمْن إطار مرجعيٍّ يَستندُ إليه في قراءة الأزمة والمواقف منها، ولا شكَّ أنَّ الإطار المرجعي لا يُمكِن تَجاوزه في ظلِّ ما يَشهده الواقع العربي والإسلامي من تَغيُّرات في الرؤى والأفكار والمواقف والسياسيَّات، لكن إحكام النَّظر ضمن الإطار المرجعي يَستلزِم ضبْط المفاهيم؛ لأنَّ ضبْط الأُطر المفاهيميَّة يُساعِد على التأسيس المَنهجيِّ والمرجعي، والناظر في الرؤى والأفكار التي دارت حول هذه الأزمة من خلال ما يُنشَر في الصحافة الورقيَّة والإلكترونية، أو من خلال الإعلام المرئي والمسموع - يُدرِك جليًّا أنَّ قوام هذه الرؤى في غالبِه مُستنِدٌ إلى ما يُمكن تسميته بالتوليد الذاتي للمفاهيم، وهذه الإشكاليَّة ظاهرة من جِهة افتقادِها لإطار مرجعي مُطلَق يُمكِن الاستناد إليه في التأسيس المنهجي والفكري، والخروج من أيِّ أزمةٍ بِمختلف صورها واتِّجاهاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية... إلخ، فالعقل - مع الأسف الشديد - أَضحى هو الحاكِمَ في أمثال هذه الأزمات المُستحكمة.

 

ويُعدُّ التيار السلفي في الجنوب اليمني أحدَ المكوِّنات الأساسية ذات الفاعلية الفكريَّة والمنهجية، ويَظهر ذلك بما تُشكِّله قياداته ورموزه العلميَّة والدعوية من حضور علميٍّ ودعوي وفكْري في الساحة العلميَّة والدعوية في كلا المستويين الداخلي والخارجي، وقد لعب التغيُّر السياسي الذي شهِدتْه المنطقة العربية دورًا كبيرًا وفاعلاً في تغيير كثير من القناعات والرؤى الأصولية - إنَّ صحَّ التعبير - لدى كثير من السلفيِّين، وخاصة في إطار الفقه السياسي، دون أنْ يَتجاوزَ هذا التَّغايُر المنهجي في ظنِّنا أصولَ المنهج وقواعده، وإنَّما هو الاجتهاد في الفقه السياسي، ومرجِع هذا التغايُر جملة أمور، أهمها:

• ابتعاد كثير من السلفيِّين عن العمليَّة السياسيَّة ومواقع صناعة القرار السياسي، والانشغال بالمهام العلميَّة والدَّعويَّة والخيرية.

 

• الاقتصار على الفقه القديم، الذين يُمكِن وصْفه بفقه الخلافة الراشدة في إدارة الحكم؛ من حيث التأكيد على طُُرُق عقْد الإمامة، والأسُس والقواعد الضابِطة لها، والأوصاف التي ينبغي توفُّرها في الإمام والخليفة، وهذه الرؤية المنهجية لَمْ يَخرج عنها السلفيُّون في الواقِع إلى مرحلة قريبة جدًّا، بل ما زال البعض يرى خلاف هذه الرؤية والاقتصار على مقوِّمات الفقه السياسي الذي عرفتْه المدرسة السلفيَّة، وهذا يَظهر في تقريرات كثير من العلماء والمُتخصِّصين في السياسة الشرعيَّة، بل ظهَر هذا في إطار الرسائل والدراسات الجامعية التي وضَعَها كثيرٌ من طلبة العلم المُنتسِبين لهذا التيار.

 

• مُقتضيات المرحلة المعاصرة وما شهِدته من تَقلُّبات سياسية خطيرة، أَلزمتِ السلفيِّين في الدول العربية المُجاوِرة - مصر مثالاً - تشكيل أحزاب وحركات لها حضورُها في الساحة السياسية، والرِّضا بقواعد اللُّعبة السياسيَّة القائمة، ليس من باب الخيار الشرعي؛ وإنَّما هو من باب الخيار الواقِعي، وأيضًا ليس من باب القَبول بهذه القواعد اختيارًا؛ وإنَّما من باب الضرورة الشرعيَّة؛ كون هذا الواقع بمضامينه هو المُتاح للسلفيِّين في كيفية إدراك التأثير والفاعلية السياسية عندهم.

 

• ضغوط الواقع الجنوبي في اليمن يُلزِم السلفيين بتوحيد جهودهم، والخروج من إطار ظاهرة الاستتباع التي رَضَي بها السلفيُّون في المرحلة الزمنية السابقة، أَعنِي بِها علاقة الحاكم بالمحكوم؛ دفعًا لكثير المفاسد التي رآها علماء الدعوة وطلبتُها في مخالَفة الحاكم والخروج عليه وعلى نظامه، وهو أمرٌ ولا شكَّ محمود شرعًا، إلا أنَّ التَّغايُر السياسي الواقِعي أَملى عليهم - وما زال يُملي - إعادة النظر في الموقف الشرعي السابق، والخروج بنظريَّة سياسيَّة جديدة تَحكُم هذه العلاقة، من نفْس المُنطلَقات التي يُؤمِن بِها ويَعتقِدها السلفيُّون.

 

• ظهور تيارات سياسية في الجنوب اليمني ذات رؤى مُغايرة للأصول الشرعيَّة، تَحمِل مصالح لا تَخرجُ من حيث أصلِها عن كونِها مصالح شخصيَّة أو قَبليَّة أو مَناطقيَّة، وتُديرها قوى خارجية؛ من أجل إضعاف البلد بشتَّى مرافِقه ومناشطه وتَفاعلاته، هدفها "التشظية" والتَّشطير، زيادة على ما تُعانيه الأمَّةُ من تَجزئة وتَفرُّق، وإبعاد الشريعة الإسلامية عن الحُكم؛ بِجعْل مرجعيَّته ذات بُعد عَلماني حَداثي واضِح المَعالِم.

 

من هنا كان للسلفيِّين في الجنوب اليمني رؤيتهم - كشأن إخوانِهم في مواقع أخرى من بلاد الإسلام - في بناء دور سياسي يقوم به السلفيُّون؛ لِتحقيق المقاصد المنهجيَّة وحمايتها، ودفْع المخاطر التي تُحيط ببلادهم ووطنهم، دفعتْهم إلى ذلك الضرورة الشرعيَّة والواقعية، ولكن يَلزَم لكي يكون دورهم فاعلاً أنْ تتأسَّس الرؤية على قواعد وضوابط منهجية قويمة وسليمة، بمعنى أنَّنا يَلزَم أنْ نُميِّز بين المنهج السلفي، كونه حاكمًا لهذه الرؤية وهذا الدور، وبين العقل السلفي الذي لا يَعدو كونه من وسائل الاجتهاد، ومن أجل ضبْط هذا العقل لا بدَّ من مُقوِّمات منهجية حاكِمة للدور السياسي السلفي في المرحلة القادمة، وأبرز هذه المقوِّمات:

أولاً: استحضار النَّظر الشرعيِّ في كلِّ موقف سياسي يَصدُر من التيار، سواء كان في إطار التأسيس للموقف، أو المشاركة فيه مع مواقف أخرى مشارِكة أو مُغايرة للتيار من حيث المنهج، والذي يَنبغي التأكيد عليه في هذا السِّياق أنَّ المواقف السياسية يَغلُب عليها الطَّابَع "المَصلَحي"، والدعوة السلفيَّة إنَّما تَنظر في هذه المواقف تحت ظلِّ قاعدة المصالح والمفاسد، فمتى كان الموقف السياسي مُحقِّقًا للمصلحة، فهو عندئذٍ في دائرة المَقبول، وإنْ كان مُحقِّقًا للمفسدة، فهو في دائرة المرفوض، وقد لا يكون الموقف السياسي بهذه الصورة من التمايُز والتغايُر بين أطرافه، بل قد يكون هناك تَداخُل مَصلحي يَستوجِب نظرًا اجتهاديًّا عميقًا، يَحتاج بموجبه إلى الموازنة بين المَصالِح المُتعارِِضة والمفاسد المُتقابِِلة، وهنا تَظهرُ قيمة أنْ يَكون الموقف السياسي مَبنيًّا على الفقه والنَّظر الشرعي المُؤصَّل، يقول ابن تيمية: "ليس العاقل الذي يَعلمُ الخير من الشر؛ وإنَّما العاقل الذي يَعلَم خير الخيرين وشرَّ الشرَّين"، وقد يَستلزِم النظر الشرعي الاجتهاد في الوقائع والحوادث المُستجدَّة في إطار ما يُسمَّى بفقه النوازِل، وهذا يَكثُر عند اتِّخاذ القرارات السياسية المُستجدَّة، وَفْقًا للمتغيِّرات التي يَشهدُها المجتمع الإسلامي، سواء في المجال الداخلي أو الخارجي، وعندها يَلزمُ الأخذ بقواعد الاجتهاد في النوازل؛ من حيث تَصوُّر الوقائع، ثم تَكييفها، وانتهاء بتطبيق الحكم وتنْزِيله في الواقع.

 

ثانيًا: دراسة الواقِع بمضامينه ومكوِّناته المجتمعيَّة، ومن المعلوم أنَّ النظام السياسي المُعاصِر - خاصة بعد زوال الأنظمة الشموليَّة - يُعطي المجال لتأسيس الأحزاب والجماعات بمختلف اتَّجاهاتِها وتنظيراتِها، فتَجدُ منها الإسلامي، والعَلماني، والليبرالي، والاشتراكي، والقومي وغيرها، وكل حزب له مُنطلَقاته وأهدافه ووسائله السياسيَّة، ويَلزَم التيارَ السلفي أنْ يكون له حضورٌ فاعِل في قراءة الموقِف؛ وذلك بالاطلاع على هذه الأحزاب ودساتيرها، ومُنطلَقاتها الفكريَّة، وأهدافها السياسية، وبرامِجِها التَّنموية؛ بُغية إحسان النَّظر في التعامل معها، والغَالب في إطار هذه الأنظمة أنْ يكون الصراع بين الأحزاب صِراعًا تَنافسيًّا، وليس صفريًّا؛ وعليه فإنَّ التيار السلفي لا بدَّ أنْ يُدرِك أنَّ التعامُل مع هذه التيارات المُخالِفة له في المنهج والمسار يكون في إطار التفاعُل بين الأطراف، وليس بِمنطق القضاء على المُخالِف؛ بل نَحتاج أنْ نَستحضِر ونحن نُصدِّر مواقفنا السياسية مَنهجَ الدعوة إلى الحقِّ، بمعنى أنَّ هذه الأحزاب والتيارات المُخالِفة تكون تحت هدف الدعوة وتَغيير الانحراف الذي لابستْه هذه التيارات.

 

ثالثًا: التأكيد على الجانب الوسائلي في تَفاعلاتِ التيار السلفيِّ؛ وذلك من أجل جلْب الرأي العامِّ لتأييده والتعاطُف معه، وإذا اقْتضى الأمر العمل على دعوة الرأي العامِّ لِتبنِّي المنهجيَّة السلفية، وهذا يَستدعي أنْ يَقوم السلفيُّون بتأسيس أحزاب وجماعات سياسيَّة فاعِلة؛ من أجل تحويل المنهج إلى مشروع تَطبيقي يَأخذُ بجوانب المجتمع جميعها، ولا يَنبغي التغافُل ونَحن نُؤصِّل الجانب الوسائلي أنَّ امتلاك الوسائل الثلاثة الفاعِلة في المجتمع تَجعلُ التيار في قِمة المجتمع من حيث الفاعِليَّة بمختلف صورِها؛ أَعني بها: التعليم، والاقتصاد، والإعلام.

 

رابعًا: النظر في المآلاتِ التي تترتَّب على اتِّخاذ المواقف، وهو لا يَخرجُ من حيث الأصل عن النظر الشرعي، وعن أصول الاجتهاد، إلا أنَّ التأكيد عليه في مِثلِ هذه المواطَن يُعطي الضَّمانة على حُسن الأداء، وعدَم التسرُّع في اتِّخاذ المواقف، وللعلماء تأصيلٌ لهذا النوع من الفقه في تقريراتهم الأصوليَّة، وهناك من أفَرده بالتَّصنيف، وللشاطبي اهتمام به، وتأصيل لمفهومه وقواعده وأُسُسه؛ فيقول مُؤصِّلاً: "النظر في مآلات الأفعال مُعتَبرٌ مقصود شرعًا، كانت الأفعال مُوافِقةً أو مُخالِفة"، وهذا الأساس الفقهي يَأخذُ بالاعتبار قواعَدَ مُعتبَرة شرعًا، كقاعدة "الذرائع والحيل ومراعاة الخلاف"، وكلها لا تَخلو من نَظَرٍ مصلحي؛ فهي تَندرجُ أصلاً في قاعدة "جلْب المصالح ودرْء المفاسد".

 

خامسًا: القدرة على المناورة السياسيَّة، وهي من الوسائل التي تَعكِس مدى القوة السياسيَّة التي تتَمتَّع بها الدعوة السلفيَّة، ويَدخل في مضامينها الوسائليةِ التفاوضُ، والتحالُف، والتوافُق مع الأطراف السياسية في ظلِّ ما تُمليه المصلحة الشرعية، ولا تَعني هذه الوسيلة التلبُّس بالكذب والخداع، خاصة في بلاد الإسلام؛ وإنَّما هي الدوران في دائرة المُباح شرعًا، وقد كان للخِطاب القرآني وبيانِه النبوي دورُه في تأصيل هذه المنهجية الحركية، يُعرف في مواطِن التَّخصُّص العِلمي.

 

في ظلِّ هذا التأصيلِ، تَعرض جملة من السؤالات على الحركة السلفية، تستدعيها الحالة الراهنة التي تعيشها اليمن بشكل عام، وجنوبها بشكل خاص، فمن المعلوم أنَّ هناك خيارات مطروحة في الساحة السياسية حول العلاقة بين الشمال والجنوب، والخياران المطروحان بقوة هذه الأيامَ عند المكوِّنات السياسية الجنوبية، وخاصة الحَراك بمختلف اتِّجاهاته - هما خيارَا فكِّ الارتباط بين الشمال والجنوب، والفيدرالية بأشْكالها المطروحة لدى المكوِّنات السياسيَّة الفاعِلة في الساحة، في ظلِّ هذا التصارُع الفِكري والمنهجي، وما ارتبط به من مواقف وتفاعلات:

• ما هو الخيار المطروح لدى السلفيِّين في شكْل الحُكم القادم، في ضوء ما هو مطروح في الساحة السياسية؟

 

السؤالات: ما هو الوزن السياسي الذي يُمثِّله السلفيُّون في الساحة السياسية الجنوبية؟

 

• ما هي إمكانيات التأثير في الواقِع السياسي الجنوبي؟

 

• ما هو الدور الذي يُمكن أنْ يقوم به السلفيُّون في المرحلة القادمة؟

 

• ما هي الخطوات العمليَّة التي يَلزمُ اتِّخاذها لمباشرة هذا الدور في الواقِع السياسي؟

• هل يُمكِن للسلفيين الدخولُ في تَحالُفات أو ائتلافات مع الفاعِلين السياسيين في الجنوب اليمني، على الأقل مع من يَحمِل الصبغة الإسلامية أو يُقاربُها؟

 

• هل يَلزَم إنشاء كيان سياسي سلفيٍّ في الجنوب؛ من أجل المشارَكة الفاعِلة في عملية صنْع القرار السياسي أو التأثير؟ وما هو شكْل هذا الكِيان؟ هل يكون في إطار حزب سياسي، بمعنى أنَّه يُمارِس نشاطه السياسي بصورة رسميَّة؟ أو أنَّه لا يَعدو كونه جماعة ضغْط مُؤثِّرة في الواقع السياسي، وعندها يكون عمَله في الإطار غير الرسمي؟

 

• ما هي أهداف السلفيين في المشاركة السياسية في المرحلة القادمة؟ هل مُجرَّد المشاركة بأي صورة كانت تُمثِّل هَدفًا؟! أم أنَّ مَقصدَهم الأساس صناعة القرار، أو على الأقلِّ التأثير في صناعتِه؟

 

ولا شكَّ أنَّ الرؤية الشخصية التي يَتبنَّاها الباحث للإجابة عن هذه السؤالات، إنَّما تَنطلِق من الإطار المرجعي الذي يَراه حاكِمًا لأمثال هذه السؤالات والقراءات السياسيَّة، وقَبْل الإجابة عنها لا بدَّ من التنبيه على أنَّ المرحلة السياسية السابقة كانت مَحلَّ نظَرٍ لدى المتخصِّصين بالنُّظم السياسية المعاصِرة، والفكر السياسي المعاصِر، والنظرية السياسية المعاصِرة، وكانت للباحث رؤيته السياسية الخاصَّة من مُنطلَق شرعي في ظلِّ الإطار المرجعي لهذه المرحلة، وكان شكْل الدولة القائمة يَدورُ مع النَّمط المركزي للدولة، وهو في الحقيقة شكْل أَملتْه المرحلة الزمنية التي أَعقبتْ سقوط الخلافة العثمانية، حيث انْتقلتِ البلاد العربية والإسلامية بعد تَفتيتِ الدولة الإسلامية إلى أشكال سياسيَّة غالبها كان يدور في إطار علاقة الصِّراع بين الدولة والمجتمع، مع تَبنِّي الفِكر العلماني بِمختلف اتِّجاهاته، والغالَب في هذا الصراع هو الدولة؛ لأنَّها مركزية والمجتمع ضعيف، إلا أنَّ ضعْف المجتمع وقوة الدولة جعْل المجتمع مُرتبِطًا بِها بجميع مناشطه وتفاعلاته، وهذا له تَبِعاته ومآلاتُه السلبية؛ إذ بمجرَّد ضعْف الدولة وسقوطها، يَضعُف المجتمع ويَسقُط بالضرورة؛ لأنَّ قِوام المجتمع هو الدولة، بِحكْم كونِها مالِكة لكلِّ شيء؛ لذلك شكْل الدولة المركزي لا يُمكِن استحضاره في المرحلةِ الراهِنة، وإنَّما يَلزَم النظر في الأزمة في إطار أشكال أخرى تتَّفِق مع الأبعاد المنهجيَّة والفكرية والواقعية التي تَحكُم هذه المرحلة وأَمثالَها.

 

والذي يراه الباحث في ظلِّ هذا التقرير وفي ضوء السؤالات السابقة، أنَّ شكْل الدولة يَلزَم تقريره في إطار الموقف الشرعي الواجب اتِّباعُه واتِّخاذه، والمنهجيَّة الشرعية الواجِبة تُلزِم الأطرافَ السياسية المختلفة الإبقاء على شكْل الدولة اليمنيَّة؛ أخْذًا بِمُقتَضى النصوص الآمِرة والحاثَّة على الجماعة وعدم التفرُّق، والابتعاد عن صور التشرذُم والتجزُّؤ التي تَرومُها أطراف سياسيَّة مُتعدِّدة لها حضورها الشَّعبي في الواقع الجنوبي، من خلال الضرب على وتَرِ الحقوق والمظالِم التي شهِدتْها المرحلة الزمنية السابقة، فلا يَجوز شرعًا في ظنِّنا النظر إلى الأزمة الجنوبية في ظلِّ المشروع الانْفصالي، وإنَّما يَلزَم الأخذ بخيارات سياسيَّة أُخرى تتوافَق مع المنهجيَّة الشرعية، والذي يَراه الباحِث - ومن خلال توصيفه للدولة المركزية آنفًا - أنْ يكون المجتمع مُتَّسمًا بالقوة والحيوية في مُقابل قوة الدولة أو ضعْفها؛ حتى إذا أصابتِ الدولةَ المحنُ والقلاقل، بَقِي المجتمع مُحافِظًا على قِوامِه، والدلائل التاريخية تُشير إلى هذا المسلَك، ويُكتفَى بالنموذج البغدادي أيام التتار؛ إذ لا يَخفى حجم الدمار الذي لَحِق بغداد بعد سقوطها على أيدي التتار، ولكن الحقيقة الماثِلة أنَّ الذي حدَث هو سقوط الدولة، وليس سقوط المجتمع؛ إذ سَرعان ما استطاع المجتمع القيام والنهوض بعد الأزمة بوقتٍ قصير وإعادة البناء من جديد؛ ولذلك النموذج الذي يَتبنَّاه الباحث هو الدولة اللامركزية، التي تتضمَّن أقاليم مُتعدِّدة، تتمتَّع بصلاحياتٍ واسعة، ويَبقى للحكومة المركزية دور الدفاع الداخلي والخارجي، والإشراف على سير الأقاليم.

 

وأمَّا خيار الانفصال وفكُّ الارتباط، فهو في الواقع لا يَخرجُ في ظنِّنا عن إطارين: أولهماك أنَّه مُخالِف للمنهجيَّة الشرعيَّة التي تَقضي بالحِفاظ على مُنجَزات الوَحدة، والثاني: مآلات تَبنِّي هذا الخيار في الغالب لا تَخرجُ عن كونها مَفاسد يَؤول إليها الواقِع الجنوبي، وهذه الرؤية أَملتْها القراءةُ الاجتهادية في ضوء المرجعيَّة الشرعيَّة، والنظر إلى الواقِع وأحداثِه ومراحله، والحقُّ أنَّ تَبنِّي هذه الرؤى لا يُمكِن تحقيقه في الواقع السياسي دون أنْ يكون للحركة السلفيِّة دور فاعِل في التأثير السياسي والاستيعاب الجماهيري، ومن هنا؛ فإنَّنا نُشير على إخواننا السلفيين في الجنوب اليمني الأخذ بنظَر الاعتبار حجْم القوة السياسيَّة التي يَستبطِنُها التيار السلفي مُقارَنةً بغيره من التيارات السياسية، وهذا يَقتضِي القيام بكلِّ الوسائل المُعينة على تحقيق هذا الهدف والمقصد علميًّا ودعويًّا وإعلاميًّا... إلخ، ولا يُقتصَر على مُجرَّد المشاركة السياسيَّة، وإذا ما أَمكَن تحقيق ذلك في المرحلة الأُولى، فلا بدَّ من وضْع مُخطَّطات وبرامج للتفعيل في المراحل القادمة، ونسأل الله - عز وجل - أنْ يُوفِّق ويَهدِي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.

 

المصدر/ الألوكة