السياسة الأميركية بين الإسلاميين والعسكر!
13 محرم 1433
د. وحيد عبد المجيد

رسالتان مختلفتان، بل متعارضتان، ينطوي عليهما الخطاب الأميركي الرسمي بشأن مستقبل البلاد التي شهدت تغييراً في إطار "الربيع العربي". وفيما تقول إحدى الرسالتين إن واشنطن تدعم حرية شعوب هذه البلاد في اختيار طريقها، وأنها ستتعامل مع من تأتي بهم انتخابات حرة بما في ذلك الأحزاب الإسلامية الصاعدة، تفيد الرسالة الثانية أنها لا تريد المخاطرة بمساندة تطور قد يأتي بغير ما تشتهيه.

 

رسالتان متوازيتان تنطقان بحيرة واشنطن وتردد إدارة أوباما في الإجابة على السؤال الذي كان مطروحاً منذ سنوات ولكن على صعيد نظري، وهو: هل تفضل الولايات المتحدة الديمقراطية حتى إذا جاءت بأحزاب وقوى إسلامية إلى الحكم أم الدكتاتورية التي تتعارض مع مبادئها ولكنها تحقق مصالحها؟

 

ومؤدى الرسالتين أن واشنطن لم تحسم أمرها بعد حتى إذا كان التعبير عن إحداهما مباشراً ومن خلال خطاب واضح بخلاف الثانية التي يمكن استنتاجها من تصريحات قد تكون أقل وضوحاً. ويجد المراقبون ما يدل على كل منهما في التعليقات التي تناولت خلال الأيام الماضية صعود الإسلاميين في المرحلة الأولى للانتخابات البرلمانية المصرية، كما في التصريحات المتعلقة بأزمة نقل السلطة في القاهرة إلى حكم مدني. فقد أثنت واشنطن على البرنامج الزمني الذي طرحه المجلس العسكري في مصر لتسليم السلطة في موعد غايته 30 يونيو القادم. لكن ما أن رفضت حركات شبابية وقوى سياسية هذا البرنامج حتى بدأ بعض الساسة الأميركيين في الحديث عن ضرورة تسليم السلطة في أسرع وقت.

 

وقبل ذلك بأيام كان تصريح وزيرة الخارجية الأميركية عن استعداد واشنطن للتعامل مع الأحزاب الإسلامية الصاعدة فى المنطقة، تعبيراً مباشراً وواضحاً عن الرسالة الأولى التي قد تعود بدايتها إلى تصريح سابق أدلت به في مايو الماضي حول الحوار مع "الإخوان المسلمين".

 

وكان تصريحها يوم 14 أكتوبر الماضي الذي ساندت فيه المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر وأشادت بدوره تعبيراً غير مباشر عن الرسالة الثانية. فقد أيدت خطواته لنقل السلطة ودعمته في مواجهة كثير من الأحزاب والقوى السياسية والائتلافات الشبابية التي تنتابها شكوك متزايدة جرّاء ميله إلى إطالة أمد المرحلة الانتقالية!

 

وربما يجوز أن نجد ما يدل على هذه الازدواجية في الموقف الأميركي الرسمي عبر المقارنة بين وضع إدارة أوباما ثقل بلادها في حملة عسكرية ساهمت في إطاحة نظام القذافي، ونعومة سياستها تجاه نظامي الرئيسين الأسد وصالح وفق ما لاحظته مجلة "نيوزويك" في عددها الصادر بداية نوفمبر المنصرم. وربما لم يكن مجرد مصادفة أن تنشر مجلة "فورين بوليسي" في الوقت نفسه قائمة تضم من اعتبرتهم أعضاء "نادى الدكتاتورية" الذي قالت إن واشنطن تسانده.

 

غير أن حالة مصر تظل الأكثر دلالة على حيرة واشنطن بشأن مستقبل المنطقة العربية، ليس فقط لأهمية هذه الحالة في محيطها ولكن أيضاً لأنها تعبر بشكل أكثر وضوحاً عن الحيرة بين ديمقراطية قد تأتي بحكم إسلامي ودكتاتورية قد تترتب على منح المجلس الأعلى للقوات المسلحة وضعاً مميزاً في النظام السياسي الجديد.

 

وكما أن مصر هي الأكثر إثارة للاهتمام داخل الولايات المتحدة بسبب العلاقات المميزة بين البلدين منذ منتصف السبعينيات من ناحية، والعلاقات بين القاهرة وتل أبيب من ناحية ثانية. ولذلك يحظى الوضع في مصر بعناية خاصة من جانب الكونجرس والإعلام ومراكز الأبحاث وجماعات الضغط المؤثرة في عملية صنع القرار الأميركي.

 

ويزيد هذا الاهتمام حيرة إدارة أوباما بشأن مستقبل "الربيع العربي" عموماً، وليس العكس، نتيجة اختلاف مواقف القوى والأطراف الداخلية التي تؤثر في صنع القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية. ويظهر هذا الاختلاف، وما يقترن به من تعارض، في الموقف تجاه الأحزاب والقوى الإسلامية أكثر مما يمكن ملاحظته بشأن كيفية التعامل مع الأطراف الأخرى كالمجلس العسكري في مصر. فلم يحدث تغير ملموس في خريطة مواقف الأميركيين تجاه الإسلاميين بعد ثورة 25 يناير وفى ظل "الربيع العربي" عموماً. ولا تزال معالم هذه الخريطة وتضاريسها الأساسية على حالها. فهناك من يعتبرون الإسلاميين خطراً رئيسياً على المصالح الأميركية ويرون وصولهم إلى السلطة كارثة يفوق أثرها أية دكتاتورية، ومن لا يجدون مبرراً كافياً للخوف منهم ورفض التعامل معهم ويحذرون مما يسمونه "الإسلامو فوبيا" أو "إخوان فوبيا" وينبهون إلى وجود فرق بين أي تيار أو حزب حين يكون معارضاً وعندما يصل إلى الحكم ويصبح في موقع المسؤولية. وهناك من يقفون في منزلة وسطى، فلا هم يخافون الإسلاميين كل الخوف، ولا هم يأمنون لهم بلا قيد أو شرط، بل يتخذون موقفاً حذراً لا يغلق الباب أمام إمكان التعامل معهم ولا يفتحه على مصراعيه.

 

فمثلا، حذّر مجلس العلاقات الخارجية (أحد أهم مراكز الأبحاث والتفكير الأميركية) من قوة تنظيم جماعة "الإخوان" باعتبارها عقبة في طريق التحول الديمقراطي، بينما حذّرت افتتاحية "واشنطن بوست" في عددها ليوم 4 نوفمبر الماضي من حكم عسكري، وطالبت إدارة أوباما بإقناع الجيش المصري بعدم الاستمرار في السلطة.

 

ولذلك يبدو موقف إدارة أوباما، في أحد أوجهه، تعبيراً عن هذا الانقسام في الداخل الأميركي. ولكن هذا لا يعنى أنها توازن بين الموقفين المتعارضين على وجه التحديد، بغية إرضائهما في آن معاً أو تجنباً لغضب أي منهما. فالموقف الرسمي الأميركي في حالة حيرة موضوعية لم يصنعها اختلاف مواقف القوى الداخلية، وإن كان هذا الاختلاف قد غذَّاها بدرجة أو بأخرى. ويبدو أوباما شخصياً في موقف صعب. فإذا صح أن خياره المفضل هو أن يكون الناشط السياسي وائل غنيم هو رئيس مصر القادم حسب ما ذكرته صحيفة "نيويورك تايمز" في منتصف مايو الماضي نقلاً عن أحد مساعديه، لابد أن يكون محتاراً وهو يعتقد أن هذا الخيار ليس مطروحاً وأنه أمام خيارين قد لا يكون لهما ثالث، وهما حكم الإسلاميين أو قيادتهم لائتلاف حاكم من ناحية، وحكم العسكر أو سيطرتهم على السلطة بشكل غير مباشر من ناحية ثانية.

 

غير أن حصر مستقبل مصر في هذين الخيارين يعتبر اختزالاً مخلاً لواقع أكثر تعقيداً بكثير، إذ يصعب فرض حكم إسلامي على شعوب ثارت ضد من فرضوا أنفسهم عليها لعقود، مثلما لا يسهل وضع أساس جديد لحكم عسكري مباشر أو غير مباشر أو إعادة إنتاج نظام ثورة 1952 في حالة مصر.

 

المصدر/ الاتحاد