الأبناء الثلاثة، وإعاقة الثورات العربية!!
14 ذو القعدة 1432
إبراهيم الخليفة

لماذا هـذه الصعوبات الكبرى والأثمان الباهظة؟ لأن القوة العسكرية بيد الأبناء، وكانوا يخوضون حرباً للدفاع عن "مُلك" أبيهم وإرثهم في المستقبل. والآن هم يخوضون حرب وجود للدفاع عن أنفسهم، حتى وإن تطلب الأمر ارتهان المدن والسكان.وهكذا، فقد دخل الربيع العربي في نفق قبضة الأبناء ووعيهم الاستعبادي واستعداداتهم للدفاع عن أوضاعهم ومواقعهم بعد أن أصبحت شؤون الأمة من ممتلكاتهم أو من إرث آبائهم..

ستصحو الأمة يوماً لتدرك حجم الانقلاب الذي حدث حين أصبحت شؤونها ضمن قضايا التركة التي يورثها الأب لابنه.

وستصحو يوماً لتدرك طبيعة الوعي الاستعبادي والاستعدادات الدموية الذي يحملها الابن المدافع عن ميراث أبيه، والأثمان الباهظة التي ينبغي دفعها لاستعادة أمر الأمة وانتزاعه من أيدي الأبناء.

 

في الثورات العربية، تابعنا مشهدين متباينين أشد التباين، المشهد التونسي ثم المصري من جانب، والمشهد الليبي واليمني والسوري من جانب آخر.

في المشهد الأول (تونس ومصر)، لم يستغرق الأمر سوى أيام معدودة للإطاحة بالطاغية بأقل قدر من التضحيات وبأكبر قدر من الحشد والتأييد.

 

وبمجرد الإطاحة به، كان من السهل أن يتحول هو ومجموعته المقربة إلى مطاردين للعدالة أو قابعين خلف القضبان، وكان من السهل أن تشيع محاولات التبرؤ منهم، وإعادة تصويرهم كعصابة، كأنها أتت من الفضاء الخارجي!!

في المشهد الثاني (ليبيا واليمن وسوريا)، كانت الثورات على موعد مع كل إعاقة وتعطيل وتلويث وجهد مضاد، واختفت صورة الحسم الوطني السريع والأثمان المتواضعة من المشهد لتحل محلها صور الكر والفر والأثمان الباهظة والقمع الدموي الواسع والتدخلات الخارجية.

 

ولو تتبعنا الفوارق بين المشهدين، فإننا قد نجد أسباباً اجتماعية وثقافية عديدة، لكل أهم سبب سنجده –في تقديري– هو وجود المؤسسة العسكرية في قبضة الأبناء.

لو كان لزين العابدين بن علي ابناً يهيمن على وزارة الدفاع، لاختلف المشهد التونسي ولأجهضت الثورات العربية في مهدها. ذلك أن وجود الابن لن يكون مجرد تعيين فردي، بل ستحضر معه القوة المعنوية ومجموعة القيادات المعاونة التي تأتمر بأمره وتدين له بالولاء، وستسخر إمكانات الدولة لصالح هذا الابن النافذ.

 

ولو كان جمال مبارك قد تمكن من المؤسسة العسكرية المصرية واستطاع هدم تقاليدها ودورها التاريخي، لما تمكن الجيش من الانحياز للشعب والضغط على الرئيس للتنحي.

لم يكن القذافي أكثر كفاءة أو دهاء من زين العابدين أو حسني مبارك، ورغم ذلك فقد احتاجت الإطاحة به إلى حشد عربي ودولي واسع وإلى حملة جوية ضخمة نفذها حلف الناتو على مدى أشهر عديدة. وحتى بعد سقوط طرابلس، بدا أن بإمكان بقايا النظام تحويل بعض المدن إلى سد منيع لا يستطيع الثوار اختراقه، رغم كل الإمكانات التي أصبحت بأيديهم واستمرار حلف الناتـو في تنفيذ غاراته على تلك المدن.

 

لماذا هـذه الصعوبات الكبرى والأثمان الباهظة؟ ثم لمـاذا استمرار المقاومة التي لا أفـق لها ولا مستقبل؟

لأن القوة العسكرية بيد الأبناء، وكانوا يخوضون حرباً للدفاع عن "مُلك" أبيهم وإرثهم في المستقبل. والآن هم يخوضون حرب وجود للدفاع عن أنفسهم، حتى وإن تطلب الأمر ارتهان المدن والسكان.

 

في سوريا ليس بشار الأسد أكثر حنكة أو دهاء من زين العابدين أو حسني مبارك، وكان يمكن أن يعتبر مما حدث لهم، خصوصاً وأن الدعوات في البداية كانت تنحو كلها باتجاه الإصلاح، ولكن وضع الابن الذي ورث الأمة من أبيه كان أقوى من كل الدروس والعبر.

ورغم ذلك، فلو لم تكن القوة العسكرية بيد ابن آخر اسمه "ماهر الأسد"، لأمكن أن يحدث الضغط أو الانقلاب على بشار، والانشقاقات المتواصلة التي نشاهدها في الرتب المتوسطة والدنيا، كان يمكن أن تحدث في هرم المؤسسة العسكرية لولا وجود "ماهر" بقوته المعنوية العائلية، التي لا شك أنها تجعله في وضع أقوى من وضع رئيس الوزراء، وبمجموعته المختارة من القيادات العسكرية الموالية وبتدخله في رسم السياسات واختيار القيادات كل على صعيد.

 

في اليمن، تثور سبع عشرة محافظة بصورة أسبوعية أو شبه يومية منذ نحو تسعة أشهر، وتحدث الانشقاقات حتى في الجيش، وتقدم المبادرات السخية لعلي عبدالله صالح للتنحي والخروج الآمن، ورغم ذلك فإنه لا يمل من المزايدة والمراوغة وحشد أنصاره في ساحة السبعين، وكلما بدا أن الوضع يتقدم أعاده إلى نقطة الصفر.

حتى حين تعرض إلى محاولة اغتيال، وانتقل هو ومعظم قياداته إلى الرياض للعلاج وخضع لبضع عمليات جراحية وبقي في المستشفى عدة أسابيع، بدا أن الوضع آمن خلفه، فلا نائبه يستطيع التصرف ولا القوة العسكرية يمكنها أن تحسم الأمر لصالح التغيير..

 

لماذا؟! لأن الابن وأبناء الإخوة يقبضون على معظم المؤسسة العسكرية ويوظفون قوتهم المعنوية ونفوذهم التي ترسخ على مدى سنوات طويلة في الحفاظ على "ميراث" العائلة!!

وهكذا، فقد دخل الربيع العربي في نفق قبضة الأبناء ووعيهم الاستعبادي واستعداداتهم للدفاع عن أوضاعهم ومواقعهم بعد أن أصبحت شؤون الأمة من ممتلكاتهم أو من إرث آبائهم.

 

ومهما بدا أن العلة تنبع من القذافي وبشار وصالح، فإن مصدرها أيضا سيف وإخوته، وماهر، وأحمد وأبناء عمومته. ولولا ذلك لمادت الأرض من تحت الأولين خلال وقت وجيز مثلما مادت من تحت زين العابدين وحسني خلال أيام معدودات.

وإذا كان هذا هو الحال في دول تتخفى فيها الرابطة العائلية وتضيق حدودها، فكيف بالحال في الدول التي لا تتخفى فيها الرابطة العائلية، بل تزدهر وتستشري على أوسع نطاق، وتحظى بالقبول الاجتماعي والتأييد الثقافي؟!

 

المصدر/ مجلة العصر