إسلاميو مصر ومستودعات الأفكار.. رؤية تأسيسية
24 رمضان 1432
مصطفى شفيق علام

تشهد الساحة السياسية في مصر حالة من الحراك والدينامية بفعل استحقاقات مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير؛ تلك الثور التي فتحت لكثير من القوى والتيارات السياسية -وعلى رأسها القوى الإسلامية- آفاقًا رحبة للعمل السياسي والمجتمعي بعد عقود من الحرمان والإقصاء والتهميش بل والتنكيل والتعذيب والسجن.

 

 

 

فبعد نجاح الثورة المصرية في إسقاط نظام الرئيس مبارك الذي هيمن على مقاليد السلطة في البلاد على مدى ثلاثين عامًا، بدأت القوى والحركات الإسلامية ترتيب أوراقها لتتواءم ومقتضيات مرحلة ما بعد الثورة، ومن ثم فقد ارتاى الكثير من تلك القوى – وفي مقدمتها الإخوان والسلفيون- التوجه نحو تكوين أحزاب سياسية إسلامية لتكون الإطار الشرعي –بالمفهوم القانوني- لتقديم برامج وأطروحات الإسلاميين بشأن قضايا السياسة والاقتصاد والمجتمع وصولاً إلى التنافس في المضمار الإنتخابي لكسب ثقة الناخبين وأصواتهم للمشاركة في رسم مستقبل الدولة المصرية في حقبة ما بعد الديكتاتورية المباركية.

 

·        مراكز الأبحاث.. مستودعات الأفكار:

 

ومن هنا تأتي أهمية الحديث عن مراكز الأبحاث والدراسات أو ما بات يعرف في الأدبيات السياسية باسم مستودعات الأفكار "Think Tanks" حيث تعد المراكز البحثية واحدة من أهم المؤشرات الدالة على مدى رقي الدولة وتطورها وفهمها وتقييمها وتقديرها للعلم ودوره في رسم السياسات الصحيحة والاستراتيجيات الرصينة لكافة القضايا الداخلية والخارجية للدولة، ومن ثم فإنه يمكننا أن نستدل على حال أحد الطرفين من معرفة حال الطرف الآخر، فكلما كانت الدولة قوية كلما كانت مراكزها البحثية بذات القوة وكلما كانت الدولة ضعيفة أو هشة كلما قلت أو انعدمت فيها المراكز البحثية ذات الثقل والأهمية والتأثير.

 

وإذا كانت الأحزاب السياسية أحد المكونات الرئيسة للحياة العامة في الدولة الحديثة فإنه يمكن القول إن قوة أي حزب إنما تكمن أيضًا في مدى سيره وإدارة برامجه وسياساته بشكل علمي ممنهج ومدروس. لذا فإنه من المعمول به في الدول الكبرى أن يكون لكل حزب سياسي مركز أو عدد من المراكز البحثية التي تعد بمثابة غرفة العمليات أو المطبخ أو المعمل أو الصندوق الأسود الذي تصاغ وتدار فيه ومن خلاله عملية صنع سياسات الحزب وبرامجه المختلفة وفقًا لمنظور جابريل ألموند لتحليل النظم باعتبار الحزب نظامًا رئيسًا في حد ذاته أو فرعيًا باعتباره جزءًا من النظام السياسي في الدولة ككل من حيث البيئة المحيطة بشقيها الداخلي والخارجي والمدخلات (المطالب والتأييد) والمخرجات (السياسات والقرارات) والتغذية العكسية أو رد الفعل.

 

 

·        أهمية مراكز الأبحاث بالنسبة للأحزاب الإسلامية:

 

وتحقق مراكز الأبحاث والدراسات التابعة للأحزاب السياسية للقوى الإسلامية عددًا من المهام و الوظائف والأدوار؛ لعل أهمها ما يلي:

1-       الاضطلاع بتحليل الواقع المعاش بكافة أبعاده وتقديم الرؤى المستقبلية من أجل النهوض بواقع جديد أو تطوير الواقع الحالي إلى مستوى أفضل، وفق مرجعيات علمية أكاديمية واستراتيجية ممنهجة، بعيدًا عن منطق الارتجال والعشوائية، أو الشخصنة والنظرة الأحادية. وهو ما دفع بعض المفكرين والساسة إلى تسمية هذه المراكز بخزانات التفكير أو مستودعات الأفكار كما سلف بيانه.

 

2-       تقديم أوراق العمل لتحليل السياسات العامة للحزب والتي تسبق عملية اتخاذ القرارات وتنفيذها على الأرض، وتنطوي هذه العملية على عدة مراحل متدرجة وضرورية تشكل بمجملها الخطوات الضرورية لبحث آثار السياسة المزمع إقرارها حيز التطبيق.

 

3-       صياغة البدائل الاستراتيجية للحزب والتي تعد الخطوة السابقة على اتخاذ القرار باعتباره اختيارًا بين عدد من البدائل الاستراتيجية المختلفة للتعاطي مع مشكلة ما، حيث تتطلب صياغة هذه البدائل دراسات معمقة وواعية وعلى أسس علمية محددة وليس أقدر على الاضطلاع بهذه العملية المعقدة من مراكز الأبحاث والدراسات.

 

4-       إقامة جسور التواصل بين أطراف المجتمع المتعددة من نخب ومثقفين وساسة وعامة عبر الندوات وورش العمل والمؤتمرات البحثية التي يقيمها الحزب، بما يعمق من القناعات الشعبية تجاه الحزب ويبعث روح الاطمئنان لدى الجماهير بصحة برامجه وأطروحاته الأمر الذي من شأنه أن يزيد من الزخم الشعبي المؤيد للحزب.

 

5-       تثقيف وتأهيل كوادر الحزب وقواعده سياسيًا، والإسهام في عملية التجنيد السياسي للحزب من خلال عملية إسناد الأدوار السياسية لأفراد جدد ليس فقط بالنسبة إلى أعضائه بل وبالنسبة إلى العامة أيضًا، وذلك عبر التدريب على أدبيات ومهارات المناقشات الحزبية، والانتخابات داخل هياكل وأبنية الأحزاب، والتدريب على ممارسة التفاعل داخل الحزب، وبين الأحزاب وبعضها البعض، وكذلك الانغماس في تأهيل أعضاء اللجان والمؤتمرات الحزبية، ومن ثم المساهمة في توزيع الأدوار القيادية على الأعضاء داخل الحزب.

 

6-       إعداد أوراق العمل والمشروعات وصياغة الاستجوابات وطلبات الإحاطة ومشاريع القوانين لنواب الحزب في البرلمان حال نجاحهم في الانتخابات.

 

7-       دراسة البيئة السياسية المحيطة بالحزب من حيث الأحزاب والقوى السياسية المنافسة وبرامجها ونقاط القوة والضعف في بنيتها الفكرية والمؤسسية، وإمكانية التحالف أو التنسيق مع أي منها في الحملات الانتخابية.

 

 

·        الصحافة الإسلامية ومراكز الأبحاث:

 

وعلى جانب آخر فإنه من البدهي أن تنشئ الأحزاب السياسية الإسلامية في مصر صحفًا ورقية وإلكترونية تكون منبرًا إعلاميًا لتلك الأحزاب وأداة فاعلة لطرح وجهات نظر تلك الأحزاب ورؤيتها بشأن القضايا العامة على جموع المواطنين. ولا شك أن قوة الصحف ووسائل الإعلام بشكل عام إنما تكمن أيضًا في مدى  اضطلاعها بإدارة سياساتها الإعلامية والتحريرية بشكل علمي ممنهج ومدروس.

 

ولذلك فإنه من المعمول به في كثير من المؤسسات الصحفية الكبرى (مثل الإيكونوميست البريطانية، والأهرام المصرية، والشرق الأوسط السعودية) أن تلحق بهيكلها المؤسسي مراكز ووحدات بحثية تعد بمثابة المستشار الأكاديمي الذي يمد الصحيفة بالأبحاث والدراسات وأوراق العمل والمعلومات البحثية اللازمة التي تعمق البعد الخبري للصحيفة وتكمله بالبعد التحليلي بما يقدم للقارئ وجبة خبرية وتحليلية دسمة تمعق من وعيه وتزيد من ارتباطه بالصحيفة وأبوابها وإصداراتها المتنوعة في كافة المجالات.

 

وعليه فإن مراكز الأبحاث والدراسات لا غنى عنها إذا ما أراد الأسلاميون في مصر، أحزابًا وجماعات، أن يضطلعوا بالعمل الصحفي والإعلامي عبر إنشاء الصحف والمجلات والمواقع الإخبارية الإلكترونية بشكل علمي واحترافي.

 

 

ويمكن للمراكز والوحدات البحثية التابعة للمؤسسات الصحفية أن تضطلع بعدد من المهام والوظائف والأدوار؛ لعل أهمها ما يلي:

 

1-     تقديم الدراسات والتحليلات والأبحاث العلمية التي تكمل البعد الخبري للصحيفة.

 

2-     إقامة ورش العمل والندوات العلمية التي تناقش القضايا ذات الاهتمام المجتمعي والنخبوي في الدولة.

 

3-     تدشين جسور الاتصال بين الصحيفة وأطياف القراء المتعددة، الأمر الذي يزيد من مصداقية الصحيفة ويعمل على زيادة توزيعها بشكل أكبر وزيادة الشرائح المجتمعية المقبلة على قراءتها.

 

4-     تثقيف وتأهيل الكوادر الصحفية العاملة بالمؤسسة بما تقدمه من تحليلات ودراسات بما يعمق من وعي الصحفيين بالمؤسسة ويجعلهم أكثر حرفية في إعداد التحقيقات والحوارات الصحفية مع النخب والشخصيات العامة.

 

5-     إعداد الملفات المعلوماتية للقضايا والموضوعات المختلفة التي تثري المواد المنشورة بالصحيفة بالإحصاءات والبيانات والأشكال التوضيحية اللازمة بما يحقق مصداقية أكبر لما تنشره الصحيفة من مواد خبرية.

 

6-     متابعة الدراسات والأبحاث محل اهتمام الصحيفة والتي تصدر عن مراكز الأبحاث الأجنبية أوالصحف والمؤسسات الإعلامية الكبرى وعمل الملخصات والترجمات والعروض التحليلية لتلك المواد تمهيدًا لنشرها أو وضعها في الملفات الأرشيفية ذات الصلة.

 

7-     أعداد المسوح والاستطلاعات والاستبيانات وقياسات الرأي العام لموضوعات الساعة، وذلك للوقوف على اتجاهات الرأي العام في الدولة بشأن كافة القضايا محل الاهتمام من قبل المواطنين.

 

 

وأخيرًا، واتساقًا مع ما سبق من بيان بشأن أهمية المراكز والوحدات البحثية ومهامها ووظائفها والأدوار التي يمكن أن تضطلع بها، فإنه يجب على الأحزاب والصحف الإسلامية الوليدة في مصر ما بعد الثورة أن تعني بمأسسة وتدشين كيانات بحثية متخصصة وتوفر لتلك الكيانات البحثية الموارد المادية والبشرية اللازمة لإنجاز عملها في جو من العلمية والمهنية بعيدًا عن الأدلجة والأفكار التقليدية المسبقة، لتكون مخرجات تلك المراكز البحثية متسقة ومتوائمة مع ما تتطلبه مصر وشعبها حاضرًا ومستقبلاً.

 

وحتى تكون تلك المراكز ومخرجاتها البحثية قاطرة تقود تجربة الإسلاميين الحزبية والإعلامية البكر في مصر لإنجاز وتدشين برامج تتعاطى مع إشكالات ومعضلات الواقع المعاش للمواطن المصري البسيط، وتبتعد عن الجدل والسفسطة التي تجيدها القوى السياسية الأخرى دون أن تمس مشاكل المواطنين الجوهرية ومعاناتهم الحياتية. على أن تسند إدارة هذه المراكز البحثية لأشخاص متخصصين مهنيين على مستوى عال من الخبرة والإنجاز، يؤدون عملهم في إطار من الحرية العلمية والاحترافية المهنية بعيدًا عن منطق الولاء قبل الكفاءة والأدلجة قبل العلم، مع مراعاة الفصل بين الدعوي والسياسي فإن منطق إدارة الجماعات التي تتعلق بالأنصار والأتباع يختلف عن منطق إدارة الأحزاب والمؤسسات السياسية التي تتعلق بالقضايا العامة والبرامج والجماهير، فلكل مقام مقال، ولكل زمان رجالاته، ولكل مكان خصوصياته.

المصدر: المركز العربي للدراسات والأبحاث