تونس: صراع الإرادات
23 رمضان 1432
عبد الباقي خليفة

تمر تونس بمرحلة خطيرة ومخاض عسير يعبر عن منعرج تاريخي مفصلي لا تدري إلى أين سيقودها في ظل صراع الإرادات بين القوى المختلفة. وهو صراع يمكن أن نختصره، بأنه تدافع بين خطين متوازيين يمثلان مشروعين ينتصر أحدهما للهوية الإسلامية ويعمل على تجذيرها، وتطويعها في خدمة التنمية المستدامة، ومشروع لقيط يستمد مفاهيمه من وراء البحار غير قادر على الإبداع والابتكار إلا بالقدر الذي يسئ فيه إلى مقدسات الشعب، وبالقدر الذي يخدم فيه مشاريع الآخر بمقابل هبات مالية تحت لافتات ملغومة . بين مشروع حضاري جنوده من المتطوعين، المستعدين لبذل الغالي والنفيس من أجل تنزيله في الواقع وتجذيره ليكون الأعلى، ومشروع مستعد لبيع الغالي والنفيس نتيجة حالة الاستلاب الثقافي التي يعيشها وارتباطاته التمويلية قبل أي شيء آخر بالخارج.

 

هذا الصراع له انعكاساته على جملة من الانتظارات منها انتخابات المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر القادم، وقضية العفو التشريعي العام، ومحاكمة رموز الفساد والإجرام والتعذيب، وبعض النزق العشائري كنزعة العروشية أو القبلية في تونس، والتي لم تكن موضوعا اجتماعيا أو أمنيا مطروحا من قبل. إضافة لبعض التخرصات والأعمال الفنية الهابطة والتي تحاول عبثا التأثير على هوية الشعب التونسي وعلى عقيدته وعلى انتمائه الاسلامي من خلال سب مقدساته، والاعتداء على الصحابة وعلى أمهات المؤمنين.

 


الانتخابات:

 كان من المقرر أن تتم انتخابات المجلس التأسيسي التي تسبق الانتخابات البرلمانية والرئاسية، في 24 يوليو الماضي، لكن القوى المرتعبة من الانتخابات سعت مع أطراف أخرى وجميعها تتلقى أوامرها من الخارج إلى تأجيل الانتخابات إلى 23 أكتوبر القادم بحجة عدم اكتمال الاستعدادات وذلك في محاولة لإطالة أمد اللاشرعية التي تحكم تونس منذ حقبة من الزمن، ولإعداد سيناريو الالتفاف على الثورة وعلى صوت الشعب من خلال كسب الوقت وتضييع جهود بناء مؤسسات تمثل إرادة الشعب التونسي، وهو ما يعد جريمة عظمى، وهل هناك جريمة أكبر من تزوير إرادة الشعب والأمة.

 

 لقد وضعت اللجنة التي نصبت نفسها لإدارة الانتخابات وقتا ضيقا لتسجيل الناخبين، تنته في الثاني من شهر أغسطس، وهو ما يعطيها مبرر إضافي لتمديد فترة التسجيل وبالتالي تأجيل الانتخابات وإدخال البلاد في فوضى قد تصل إلى ما وصلت إليه ليبيا. وكانت هذه اللجنة قد رفضت اقتراحا بإلغاء التسجيل والإعتماد كما جرت به العادة سابقا على استشهاد الناخب ببطاقة الهوية أو ما يطلق عليها في تونس" بطاقة التعريف". كما يخشى من استخدام القوائم الانتخابية السابقة في عهد المخلوع لتزوير الانتخابات القادمة، وإبعاد من يشك في ولائه لأطراف بعينها من العملية الانتخابية حيث شهدت عدة أماكن تسجيل مماطلة من قبل الموظفين في الاستجابة لطلبات التسجيل والتعلل بالذهاب لتناول الطعام أو انقطاع خدمات الانترنت والكهرباء وما شابه ذلك .

 


العفو التشريعي العام:

 من الاستحقاقات التي لم تشهد انفراجا كاملا، قضية العفو التشريعي العام، إذ أن الكثير من المظلومين لم يعودوا إلى مقار أعمالهم السابقة والتي طردوا منها في زمن المخلوع. ورغم صدور العفو العام بعد ثورة 14 يناير وإجماع القوى السياسية على ضرورة تسوية أوضاع الذين تعرضوا للظلم على مدى يزيد عن 23 سنة من خلال محاكمات سياسية تفتقر للعدالة والشرعية في العهد البائد، إلا أن الكثير من الضحايا لم يتم إنصافهم حتى الآن ولم يعودوا إلى مقار أعمالهم ومن عاد منهم لم يتلق رواتبه الآنية فضلا عن السابقة، مما دفع الضحايا إلى الاحتجاج بوسائل مختلفة.

 

العفو العام مطلب كل الحقوقيين والسياسيين  قبل ثورة 14 يناير وبعدها باعتباره شكل من أشكل رد الاعتبار لكل من ظلم من أجل إنصافهم وجبر أضرارهم المادية والمعنوية، فغايته ( أو هكذا يجب أن يكون) رفع المظالم التي ارتكبت في حق الأفراد والمجتمع، والتأسيس لمصالحة وطنية، تكفل بناء مجتمع متماسك يقوم على احترام حقوق الانسان والحريات العامة والفردية ولكن هل تحققت كل هذه الاهداف والاستحقاقات من خلال المرسوم عدد 1 لسنة 2001 المؤرخ في 19 فبراير 2011 م وبعد مرور أشهر على صدوره ؟، لقد شمل محتوى المرسوم رفع كل العقوبات المتعلقة بالمحاكمات السياسية سواء كان سجنا أو نفيا والجزء الثاني تعلق بالعودة للعمل والتعويض، ولكن ما تحقق إلى حد الآن هو اطلاق سراح السجناء وعودة المغتربين في حين تواصلت المظلمة في حق العائدين للعمل، حيث لم تحسب لهم الفترة التي تم إقصاؤهم فيها والتي تتجاوز لدى البعض ال 23 سنة .

 

وهناك العديد من الصعوبات في تطبيق العفو العام فالإدارة  تطالب المتضررين بشهادة في التمتع بالعفو العام وهذا خاضع لاجتهاد المحاكم إذ نجد الاستجابة لهذه المطالب متفاوتة. وحتى بعد الحصول على هذه الشهادات، سجلنا رفض بعض الادارات قبول عودة المتضررين، ولم تسارع بتسوية وضعيتهم بالإضافة لهذا الاشكال نجد من تم ايقافهم بدون محاكمة، يلاقون صعوبة في العودة لمقار أعمالهم السابقة لان مؤسساتهم تطالبهم بشهادة العفو. والمحاكم تمتنع عن تسليمهم هذه الشهادات رغم أن محتوى المرسوم يفيد بذلك.

 

وتتواصل معاناة المتضررين بالتأخير في إصدار مرسوم التعويض من رئاسة الوزراء الذي سيحدد المقابل المادي والمعنوي للعائدين للعمل. وإذا كانت هذه العقبات والإشكاليات سائدة في الحياة المدنية فإنها في المؤسسة العسكرية أكثر تعقيدا، وتعامل وزارة الدفاع التونسية مع العسكريين المفصولين يدعو إلى القلق ، إذ أنها بدأت التفاوض مع المفصولين سنة 1987 م ولم يشمل هذا التفاوض العسكريين المفصولين سنة 1991 م. لذلك هناك شك في جدية الحكومة المؤقتة وبقية المؤسسات المؤقتة في حل مشكلة الضحايا حلا جذريا . وهناك العديد من أصحاب الشركات والمؤسسات الصغرى ممن تم الاستيلاء على أموالهم لانتماءاتهم السياسية الاسلامية ولم تعاد هذه الأموال حتى الآن ولم يبت في شأنها، وكذلك الطلبة الذين حرموا من الدراسة لانتماءاتهم الاسلامية سنين طويلة سواء طلبة الثانوية أو الجامعة، والسؤال هو كيف يعوضون عن زهرة شبابهم التي قضوها وراء القضبان، ذنبهم أنهم قالوا ربنا الله .

 


محاكمة رموز الاجرام:

كانت السجون في عهد المخلوع ساحات لكل أنواع التنكيل والتعذيب والتشفي والقتل البطيء وما يرافق كل ذلك من وحشية قل نظيرها في تاريخ الإجرام . وكانت تلك الممارسات سياسة ممنهجة هدفها تحطيم كل من يجاهر برأي يخالف نهج المخلوع في الحكم وسرقة المال العام والخاص. ولم يكن المخلوع وحده مسؤولا عن تلك الجرائم، بل هناك شخصيات وضباط شرطة متورطون في تلك الجرائم، ويخشون أن تطالهم يد العدالة. لا سيما أولئك الذين ساهموا في " ابداعات " وزارة الداخلية كتعليق الموقوفين والسجناء في وضع الدجاجة المقلوبة أو ما يطلق عليه بالفرنسية، روتي، حيث يربط السجين من يديه ورجليه ويعلق على تلك الوضعية ، ويضرب على مواضع حساسة من جسده لزيادة حدة التعذيب الحسي والنفسين وحرق الضحايا بأعقاب السجائر في مواضع مختلفة من أجسادهم. بل استخدمت آلة الثقب باللف السريع " الشينيول" أثناء عمليات التحقيق وطالت هذه الجريمة أشخاص معروفين مثل العجيمي الوريمي، قيادي اسلامي، والشهيد فتحي الخياري. كما استخدمت جريمة الجردل أو البانو وهو ملئ إناء بالقاذورات وغرس رؤوس الضحايا فيه، بعد تقييد أرجلهم ومن ثم صلبهم من أعلى في تلك الأواني وما فيها قاذورات ، وهي طريقة أقذر وأشد من وضعية الايهام بالغرق. وكان الحديث بين السجناء ممنوع والصلاة جماعة ممنوعة والأكل الجماعي ممنوع ، ومن يخالف تلك التعليمات يعاقب برمييه في غرف مملوءة بالماء عاريا لعدة أيام .واستشهد نتيجة هذه الممارسات الوحشية العديد من الضحايا، منهم عبدالعزيز المحاوشي، وعبد الرؤوف العريبي وعامر دقاش، وعبد الوهاب عبيدلي وفتحي الخياري( استخدم في تعذيبه الآلة الثاقبة شينيول ) وهناك من توفي نتيجة الاهمال الطبي بعد أهوال التعذيب التي تعرضوا لها والتي أورثتهم العديد من الأمراض المزمنة .وهناك العديد من شهادات الضحايا الموثقة التي لا يتسع لها المقام. ولم يتم حتى الآن بدء محاكمة المجرمين وجميع أسمائهم وعناوينهم معروفة. وعدم محاكمة هؤلاء تثير الكثير من شكوك الريبة حول نوايا الحكومة المؤقتة التي تنسق حسب ما أشيع مع قوى يسارية انتهازية لا حظ لها في الشارع من أجل الالتفاف على الثورة وقطع خط سيرها بتزوير إرادة الشعب ومنع حصول انتخابات حرة ونزيهة تفرز حكومة تمثل قطاعا واسعا من الشعب وتعبر عن الشعب وفق ما تسير به الأمور في عالم الأحرار.

 


العروشية:

ظاهرة جديدة لم تألفها تونس من قبل، وهي ظاهرة العروشية( القبلية ) التي اجتاحت العديد من المناطق التونسية وتحديدا الوسط والجنوب، وهي المناطق المهمشة في فترة حكم كل من المخلوع بورقيبة والمخلوع الثاني بن علي، وقد تبين أن عناصر من النظام ( السابق ) تقوم بتغذية هذه النزعات لصرف الأنظار عن المشاكل الحقيقية التي تعيشها تلك المناطق . وقد تحولت شجارات بسيطة بين شابين إلى حروب قبلية استخدمت فيها العصي وحتى السكاكين بفعل التحريش الذي تقوم به عناصر محسوبة على النظام السابق ، هدفها خلق حرب أهلية في تونس. وتكررت هذه الحالات في العديد من المناطق التي تعيش بطالة مزمنة ومشاكل اجتماعية كثيرة، كما تنعدم فيها الخدمات الضرورية التي تستوجبها الحياة الكريمة . وهو ما يفسر ( ولا يبرر ) حالات الاحتقان والتي كان النظام السابق يعالجها بإغراق الشباب في الفساد والخمور وحتى المخدرات، وتعمل فلوله الآن على إضافة عامل آخر هو القبلية أو ما يعرف في تونس ب" العروشية " . وهو ما يمنع تكتل أبناء هذه المناطق في هيئات وأحزاب سياسية مشتركة من أجل المطالبة بالعدالة وتقسيم صارم للثروة وتعلق جماعي بأهداف الثورة التونسية.

 


تخرصات أهل الردة:

 من الأساليب التي استخدمها أهل الردة، في تقويض الثورة التونسية، من خلال التأسيس لحرب أهليه، تخرصات البعض بحق المقدسات، مثلما تطاول أحدهم وهو محمد الطالبي في برنامج إذاعي  على سب السيدة عائشة رضي الله عنها، وقوله عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كان يشرب الخمر، التي قال إنها ليست حراما، وزعمه بأن أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب خالفا القرآن الكريم. وقد تزامنت هذه التخرصات مع بث شريط سينمائي يحمل عنوان " لا ربي ولا سيدي" ينتقص فيه من الذات الإلهية، وعندما هاجمهم بعض الشباب تم رفع العقيرة بالصياح بكاءً على حرية التعبير، كما لو كانت إهانة المؤمنين بسب مقدساتهم من حرية التعبير. وكانت تلك التخرصات مدعاة لإثارة غيرة المؤمنين حيث خرج الآلاف في شوارع المدن التونسية ومن العاصمة والقيروان وصفاقس وسوسة وغيرها منددين بالتطاول على المقدسات ، كما أصدر جامع الزيتونة بيانا استنكر فيه القول بغير علم وترديد أقوال المستشرقين المغرضة ، وتم الاحتجاج على وزارتي الثقافة  والشؤون الدينية اللتين لم تدينا الاعتداءات . وطالب البيان بسن قانون يجرم الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم جميعا ، داعيا أهل العلم إلى واجب الدفاع العلمي ونشر الثقافة الاسلامية الحنيفة . كما دعت " الجمعية التونسية للعلوم الشرعية" التي تأسست بعد الثورة إلى " وجوب التفطن للمؤامرات التي تريد أن تدخل تحت طائلة العنف " ودعت بدروها لسن قانون يحمي المقدسات الإسلامية .