إمارة سيناء.. ودولة موريس
10 رمضان 1432
طلعت رميح

أحداث لاتهدأ فى كل يوم حدث أو تحركات و اضطرابات و تغييرات حتى وصل كثير من الناس الى حالة تشويش ذهنى، و اضطراب سياسي يفقد القدرة على الامساك بالأولويات الحقيقية لبناء مصر و صناعة مستقبلها.
الحدث الأكبر الذى انشغل به الرأى العام فى مصر وأثار المشاعر خلال الأيام الماضية، هو حدث محاكمة مبارك ونجليه ووزير الداخلية الأسبق "حبيب العادلى" و معاونية، و الدلائل تشير الى أن الاهتمام بتلك المحاكمة وجعلها حدثاً كبيراً شغل الناس و يؤجج مشاعرهم، سيكون وافرا خلال فترة طويلة قادمة وفى ذلك يجب أن نفصل بين اتجاهين ورؤيتين لتلك المحاكمة فهناك من سيحاول جعل المحاكمة عملية إلهاء سياسي لجذب الناس لحدث يمكن استغلاله كغطاء لترتيبات و أحداث أخرى فى البلاد؛ لكن هناك من سيعمل بجدية لجعل المحاكمة محاكمة للنظام و سياساته و للخطط و الاستراتيجيات التى مكنت للغزو الخارجى و إفقاد البلاد استقلالها السياسي والاقتصادى، وسمحت بأوسع حالة من الغزو الثقافى و القيمى و الحضارى ، و تلك هى الاهمية الحقيقية لتلك المحاكمة ، و البعد الحقيقي و الصحيح لاجرائها و متابعتها .

 

مبارك لايجب أن تجرى محاكمتة فقط أو بالدرجة الأولى لأسباب تتعلق بقتل شهداء الثورة أو تصدير الغاز للكيان الصهيونى فتلك و قائع مرحلة متأخرة، بل تجب محاكمته كرمزية لنظام حقق انهاكاً لقدرة مصر ومكانتها، ومكن لكل أساليب افساد المجتمع المصرى، وسمح بالتغلغل الصهيونى فى الداخل المصرى بمختلف الأساليب والطرق، و أضعف اقتصاد مصر ، و قام بتمكين أمريكا و الكيان الصهيونى الامساك بمقومات الأمن القومى لمصر فى كل الأتجاهات، بل جعل هذا الرجل و نظامه مصر للدور و النفوذ و الصالح و الأهداف الأمريكية و الصهيونية فى المنطقة . لكن الأهم فيما جرى من أحداث فى الأيام الأخيرة بعيداً عن الطريق الصحيح فى التعامل مع قضية مبارك وأهداف و جوانب و محاور محاكمته، هو ما جرى من إدعاء بصدور بيان منسوب للقاعدة ،قيل أنه احتوى على فكرة أو أطروحة "إعلان سيناء إمارة إسلامية"، بعد يوم واحد من حدوث أعمال إعتداء على قسم شرطة العريش ، لم تتمكن قوى الأمن من التعامل معه ، و اضطرت القوات المسلحة لطلب تعزيزات لمواجهتها!

 

هذا الأمر خطر ليس القصد هنا أن القاعدة فعلت هذا أو أصدرت هذا البيان ، أو لم تصدره، ولكن لأن مثل هذا التطور الذى يبدو بسيط -مجرد صدور بيان- هو أمر خطير استراتيجياً للغاية.

لقد جاء حدث أو جريمة محاولة اقتحام قسم شرطة العريش بالقوة المسلحة فى مساء ذات اليوم الذى شهد ميدان التحرير فى القاهرة ،مليونية تأسيسية لمستقبل مصر ، ليس فقط لأنها رفعت شعار الهوية ،وأكدت على إصرار الشعب المصرى على السير فى طريق الديمقراطية عبر صناديق الانتخاب و لكن لأنها كانت الميلاد الحقيقى "لرؤية الثورة و المحدد لتوجهات التغيير استراتيجيا.

 

وواقع الحال أنه يمكن الربط بين الحدثين " محاولة الاقتحام _مليونية الهوية" من زاوية أن هناك من أراد أن يقول للناس فى مصر و العالم "هؤلاء هم الاسلاميون وأن أتباع الاسلاميين ارهابيون، وأن السير خلفهم سيدفع البلاد نحو التقسيم. لقد أرادوا بحدث العريش إفساد نتائج مليونية ميدان التحرير التأسيسية لمستقبل مصر هوية واقتصادا و سياسة و ثقافة ونهضة.

 


*الخطر الحقيقي :

لكن المتابع المرفق لاشك ينظر لفكرة البيان المزعوم نسبته للقاعده نظرة استراتيجية "بعيدة المدى" ، ويرى فيه بداية لمخطط تفكيك مصر ، الذى وضعت ملامحه فى بداية الثمانينات خلال دورة اجتماعات الكونجرس الأمريكى خصصت لاعادة رسم الخرائط فى عالمنا الإسلامى، ووضع الخطط بعيدة الأمد لتحقيق أهداف تقسيم الدول الراهنة أو لادخال أمتنا الاسلامية فى المرحلة الثالثة من خطط التفكيك.

لقد بدأت المرحلة الأولى مع طلائع الغزو العسكرى والاقتصادي و الثقافى و القيمى، التى يمكن التأريخ لبدايتها بغزوة نابليون. كانت أوروبا قد نهضت و تحولت الى قوة استعمارية ، وكانت الترجمة الأولى لقوتها هى مخطط تفكيك الدولة الاسلامية بقيادة تركيا .كانت مرحلة طويلة انتهت مع نهاية الحرب العالمية الاولى ،التى لم يكن الأخطر فى نتائجها "سفور" حالة الاحتلال العسكرى الأوروبى لمعظم أراضى الدولة الأسلامية ،بل أن الحرب حققت "المحصلة الكلية " للفصل الاستعمارى التفكيكى للأمة ،كان الهدف وضع أساس لدول و كيانات ضعيفة متضاربة المصالح ،تبلور رؤاها على أسس تتعارض مع بعضها البعض، بما يفقد الأمة "كيانها" العملية والاستراتيجية و يجعل منها "دولاً ترفع أعلاماً وطنية ، وتقدس الوطنية فى مواجهة بعضها البعض، دون أن تحقق استقلالها عن الغرب المستعمر .

 

*دول متضادة:

و دخلت الأمة فى المرحلة الثانية من هذا المخطط، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، التى أنتجت حالة الدول تلك، لتصبح "الدولة الوطنية" فى العالم الاسلامى تقيضاً و نفياً "لدولة الأمة "، و ليصبح دور تلك الدولة هو الحفاظ على تقسيم الأمة ، وتقويض كل محاولات عودة الأمة الى كيانها و دولتها .

لقد كان معيار "وجود الدولة و القطر و المجتمع " فى المجتمع الدولى الجديد أو فى الوضع القانونى الدولى ما بعد
الحرب العالمية الثانية هو أن يكون "عضواً" فى الأمم المتحدة، أو أن يكون منقسماً عن الأمة أو عن الآخرين من المسلمين الذين عاشوا فى وحدة معهم فى العقيدة و المجتمع و الدولة.

 

و هكذا أطلق العنان لفكرة الوطنية على حساب فكرة الاسلامية –وهما مفهومان ليسا متضادان و متعارضان فى الأصل – ووضعت الدولة الوطنية فى مواجهة دولة الأمة الاسلامية –"دولة الخلافة"و صار الأصل هو "الدولة التجزيئية" لتتحول "الأمة الاسلامية "الى حالة نظرية تمارسها الشعوب و التيارات الفكرية بقدر استطاعتها، فى مواجهة حراسة عسكرية و أمنية ووضع قانونى دولى يمنع تحقيقها فعلياً.

 


*التقسيم الثالث :

وهكذا و منذ الهجمة الاستعمارية الجديدة مع مطلع القرن الواحد و العشرين بدأت المرحلة الثالثة، والتقسيم الثالث للدول التى تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد تراجع الغرب عن فكرة ومقولة "أن الدولة هى الوحدة الأولى فى مفردات القانون الدولى، وأن الدولة تحظى باعتراف بحقها فى ممارسة السيادة على أقليمها "حدوداً و سماءً و مياه و مجتمعاً "،و أن استقلال تلك الدول حق أصيل، حتى وصل الحال الى اقرار حق الدول فى الدفاع عن سيادتها ضد كل احتلال ، وحق المقاومة فى تحقيق الاستقلال و تقرير المصير ضد الاختلال الذى لم يكن الا غربياً او سوفيتياً ، أى لم يكن يجرى الا من القوتين المتصارعتين على النفوذ و تقسيم المصالح على الصعيد الدولى خلال مرحلة الحرب الباردة.

 

بدأ الغرب يتحدث بأفكار جديدة مختلفة عن ما كان يقوله ما بعد الحرب العالمية الثانية ، منها حق التدخل الانسانى ،الذى وضع أساساً للتدخل فى الشئون الداخلية للدول، و تحقق بفعله قصف الدول والمجتمعات واسقاط الحكومات ووصل حد احتلال الدول . و طرح الغرب شعارات حقوق الانسان و حقوق الاقليات ،و جعل منه أساسا للعودة لأعمال الاحتلال ،واحداث الانقسامات فى المجتمعات ووسع على أساسها من "ضرورات" التدخل فى الشئون الداخلية.

 

وقد ترافق مع تلك الحالة ظهور "العولمة" بملامحها الاقتصادية و الثقافية و الحضارية ، التى كانت عنواناً لهيمنة الغرب فى جميع المجالات على الدول و المجتمعات الأخرى .

وهنا بدأ أنفاذ مخططات التقسيم ، سواء بوسائل القوة الصلبة (بالعمل العسكرى المباشر كما حدث فى العراق وأفغانستان) أو باستخدام وسائل القوة الناعمة (أعمال استخبارية و اعلامية و دبلوماسية و ثقافية و غيرها).

 

و هنا تأتى خطورة لعبة بيان القاعدة ،الذى يشكل بداية طرح فكرة جديدة لتقسيم مصر ، وقد سبقه إعلان أحد نصارى مصر "موريس صادق" الموجود فى الخارج تحت حماية و رعاية الأجهزة الغربية و الصهيونية ،عن تأسيس دولة للأقباط.

المخطط أصبح باديا للعيان ، و هو ان كان اليوم أمراً بسيطاً وهشاً ومجرد ألاعيب ، فهو فى الغد يصبح "أساساً" يجرى العمل "العلنى" على أساسة ،لتحقيق التقسيم و التفكيك.
و "للحديث بقية".

 

المصدر/ جريدة الفتح