يبدو رمضانا مختلفاً هذه المرة؛ فالحراك الذي أحدثته الثورات العربية غير وجه المنطقة العربية تماماً، وباتت معه على عتبة مرحلة تاريخية جديدة، ربما تتغير معها كثير من أوراق اللعبة السياسية.
الرمضانات الماضية لم تشهد مثل هذا النشاط في أكثر من بلد عربي ينتظر غداً أفضل؛ فمصر التي يحاكم رئيسها المخلوع هذه الأيام تعاين لحظة لم تمر عليها البلاد منذ أكثر من ثلاثين عاماً، حينما كانت مصر تشهد نشاطاً دعوياً إسلامياً هائلاً قبل أن ينقلب الرئيس الراحل أنور السادات على الحركات الإسلامية.. ربما الآن الوضع يفوق ذلك بمراحل برغم انتظار مشوب بحذر لانتهاء المرحلة الانتقالية التي تمر بها بلد الأزهر؛ فالمساجد في عموم مصر قد تحررت من ربقة المراقبة والمتابعة اللصيقة، وانطلقت الدروس العلمية، وقوافل الخير، وانتشرت التهاني من الجماعات والجمعيات والأحزاب والقوى الإسلامية في شوارع وميادين كثير من المدن المصرية، وبدأت الاستعدادات لأول اعتكافات في مساجد مصر دونما تتبع أمني واعتقالات وملاحقات، واستبق الشهر الفضيل بأكبر تجمع إسلامي عرفته مصر منذ أربعين عاماً ونيف في ميدان التحرير يطالب بالحفاظ على هوية مصر الإسلامية.. أما قادة الحركات الإسلامية وكبار دعاتها فأضحوا ضيوفاً على كثير من الفضائيات المنوعة، حتى وإن كان بعضهم في طور المناظرة أو محاولة التقاط عثراته، لكنها ظاهرة جديدة، وهو رمضان الأول الذي تستقبله مصر في ظل وجود ثلاثة أحزاب إسلامية تدلي برأيها في الشأن العام، وينتبه جيداً لما تقوله.
وفي سوريا، برغم دموية الأحداث وفظاعتها؛ فإن السوريين في الشهر الفضيل قد لاقوا ذواتهم أخيراً، وحددوا البوصلة، وسلكوا الطريق الشاق والوحيد لنيل حريتهم المقيدة بنظام طائفي غشوم يستقوي بالشرق والغرب معاً.. رمضان كسح الظلم، وإعلاء الحق، وانتصاره ولو في سياق الانتصار المبادئي والقيمي حتى الآن.. رمضان يستقبله السوريون اليوم وهم قد شمروا الجد إلى الميادين والشوارع والطرقات في أقصى تجليات التضحية والفداء، وأعلى درجات إنهاك العدو الصهيوني الرابض على صدور أهل السنة في بلاد الشام، نعني نظام بشار الأسد، حيث المظاهرات كل يوم، وإثر كل تراويح..
للتراويح في سوريا طعم آخر يختلف عن كل البلدان، إنها صلاة المودعين يصلونها قبل كشف صدورهم العارية للعدو طلباً لحقهم السليب في عيش كريم حر، ودين لا يهان، وحرمات لا تستباح. تكبير للصلاة وتكبير في وجه الشبيحة والفرقة الرابعة وكلاهما نصيري. بين الصوم والإفطار، معنى الحياة والشهادة.
في ليبيا، كما اليمن، رمضان جد مختلف عن سابقيه، وفي تبدو الجموع مصرة على تحقيق رغباتها رغم التدخلات الأجنبية من هنا وهناك، وصمود النظامين في البلدين لحد الآن، وسواء ذهب المحللون في اتجاه نقد هذه الثورات أم لم يذهبوا؛ فإن رمضانا بمعانٍ جديدة، قد لا تكون في حسابات الساسة لكنها ترسخت في قلوب الشعوب الهضيمة عن مقاومة الظلم والاستبداد والقهر مهما كان الثمن فادحاً..
وتونس الرائدة في الثورات التي عرفت لأول مرة منذ فترة طويلة حجاباً بلا ملاحقة، ودعوة بلا تنكيل، وإسلاماً بلا حصار، تحكي قصة الشعوب حين يخلى بينها والإسلام، وتعاينه كفاحاً بلا وسطاء..
لقد جاء رمضان هذا العام، والعرب في محطة تاريخية، نسأل الله عز وجل أن تقودهم إلى مصالحة حقيقية مع هويتهم، نظاماً، وشعوباً.. مصالحة مع الإسلام العظيم.