أنت هنا

رمضان والاحترام
29 شعبان 1432
اللجنة العلمية
 

ما هو الاحترام؟

الاحترام قيمةٌ إنسانيّة فاضلة، يُقرُّ من خلالها الإنسان، بما يستحقُّه الآخرون من حُرمةٍ ومكانةٍ، استحقّوها بمقتضى الدّينِ، أو بمقتضى الخلق القويم، ويبني علاقته معهم على أساس هذه القاعدة.

فالاحترام اعترافٌ بكرامة الإنسان على أخيه الإنسان، وذلك بغضّ النظر عن الدّينِ والعرق والجنس، فالإنسان يستحق التكريم بحسب أصله الإنساني، يقول الله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم}!

 

 

علاقته بالأخلاق:

فالاحترام يشمل بمفهومه كلّ الأخلاق والفضائل المتعلّقة بحسن المعاملة مع الآخرين، ابتداءً من حسن الظنّ بهم، وعدم الإساءة إليهم، انتهاءً بتقدير ما لديهم من سماتٍ وميزاتٍ وصفاتٍ، وسعياً إلى التفاعل الإيجابيّ معهم، وعلى سبيل المثال، فإنّ التّلطّف هو من الأخلاق الكريمة، وهو كذلك من مظاهر الاحترام البارزة في التعامل مع الآخرين!

حقيقته:

والاحترام خُلقٌ شرعيٌّ، ينبثق عن الإيمان بالله عزّ وجلّ وصفاته وأسمائه الحسنى، ذلك أنّ التفكر في أسماء الله تعالى، وهو عبادة جليلة، تُثمر للإنسان أن يستفيد من المعاني الخلقية التي تتضمنها أسماء الله تعالى، وأن يسعى إلى التحلي بها طوراً بعد طورٍ، ويسعى إلى تجسيدها بين الناس من خلال علاقاته ومعاملاته!

 

 

الاحترام والعدل:

ولعلَّ القاعدة الكبرى التي يقوم عليها الاحترام تتمثّل في العدل، وذلك يقتضي أن نُقرَّ بما للغير من الحقوق، ونعترف لهم بمثل ما نراه لأنفسنا، حتى لا نقع في التناقض، وإنّا نودّ أن لو صار كلّ الناس الذين يعيشون معنا مسلمين، يعتقدون بما نعتقد من العقائد ويدينون بما ندين به من الدين، بيد أنّ هذا الشعور النبيل، لا ينبغي أن نسعى إليه إلا بالحسنى، فمثلما أنّا لا نستسيغ من أحدٍ أن يفرض علينا اعتقاده ورؤاه، فكذلك لا ينبغي أن نرضى بفرض اعتقادنا وما نراه على الآخرين!

فالاحترام المتبادل بين أبناء الوطن الواحد، بمختلف عقائدهم، هو قاعدة مهمة للاستقرار الاجتماعي والسياسي، وفي ظلّه يستطيع أصحاب الحقّ أن يدعو لمذهبهم ويكشفوا عمّا فيه من قيمٍ جديرةٍ بالانتماء إلى الدين الّذي يدعو إليها!

يقول الله تعالى:

{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} (سورة المائدة).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} (سورة المائدة).

وقال الشاعر:

إنما الأمم والأخلاق ما بقيت .. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

 



أنواع الاحترام

 

يُثير الصيام في النَّفس من نوازع الخير، ويكفُّها عن نزغات السُّوء، ويشحذ همّتها إلى الصبر على الآخرين والكفّ عنهم حتى إذا اعتدوا علينا، وذلك الخُلق من شأنه أن يرقَى بالاحترام بين الناس إلى أعلى درجاته الممكنة!

وبناءً على مدى التزام الإنسان المسلم بقيمة التقوى، التي هي ثمرةُ صيام رمضان، يكون نوعُ التزامه بخلق الاحترام، وذلك على النحو التالي:

النَّوع الأول: (الاحترام النفعي):

ويكون الاحترام في هذه الدرحة صادراً من منطلق المصلحة الماديّة، فهو يحترم الآخرين لا بناءً على ما يستحقّونه من الاحترام، ولكن بناءً على ما سيجده عندهم من المصلحة الماديّة، وبناءً على ذلك فقد يقوم باحترام من لا يستحقّ الاحترام، كما قد يقوم بالإساءة إلى من يستحقّ الاحترام، فصاحب هذه الدرجة من الاحترام، يتمتع بكثيرٍ من الصفات الرّذيلة، على رأسها النفاق ومنها الأنانية والخبث والمكر!

النوع الثاني: (احترام الخوف):

وهو دليلُ الجبن وضعف الشخصية، وصاحبه انهزاميٌّ، خنوعٌ، ذليل، لا يستطيع المواجهة والمجابهة، ويحترم أيَّ شخصٍ يحس ويشعر أمامه بالخوف والضَّعف، حتى ولو كان هذا الشخص لا يستحق الاحترام أصلاً، وربما نعذر صاحب هذه المرتبة بسبب ضعفه، إلا أنّ سوء خلق صاحب هذه الدرجة، يبدو في أنَّه لما يجد نفسه قويّاً إزاء بعض النّاس، ممّن هم أضعف منه، فإنّه يكون جبّاراً وقاسياً، ولا يعطف أو يُشفِق على ضعف الآخرين!

النوع الثالث: (الاحترام الحقيقيُّ):

وهو الذي يصدر عن قلبٍ عامرٍ بذكر الله عزّ وجلّ، يجلُّه ويوقّره ويعظمه، ومن ثم يفيض منه الاحترام للآخرين! وهذه أعلى درجات هذا النوع، ومن درجاته أيضاً ذلك الاحترام الذي يصدر عن غير المسلمين، فهؤلاء أقلُّ درجة لأنهم لا يصدرون في احترامهم للآخرين عن توقير لله عزّ وجل! ولكن عن فطرتهم الطيبة فقط!



 
الاحترام في نصوص الوحيين
 

من (الإيمان بأسماء الله وصفاته) إلى (تتميم مكارم الأخلاق):

للاحترام في النصوص الشرعية مكانة كبيرة، فقد وردت نصوصٌ عديدة تحثُّ وتحُضّ على حسن معاملة الآخرين واحترامهم، ولعلّ قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (مسند أحمد) يرسم إطاراً عامّاً لمكانة الاحترام في النصوص الشرعية، يقول ابن عبد البر: "ويدخل في هذا المعنى الصلاح والخير كُله، والدين والفضل والمروءة والِإحسان والعدل، فبذلك بُعث ليُتمِّمَه، وقد قالت العلماء: إنَّ أجمعَ آيةٍ للبر والفضل ومكارم الأخلاق قولُه عز وجل: (إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) [النحل: 90]."

والقاعدة الأساسية التي تؤسِّس النصوصُ الشرعيةُ عليها مبدأَ الأخلاق والاحترام، هي كما رأينا: أسماءُ الله وصفاتُه، وبالتالي فإنّ الرّكن الرّكين للأخلاق الإنسانية، يتأسّس في قلب المرء المؤمن، ابتداءً من علاقته بربّه سبحانه وتعالى، حيث يتوجّب على المؤمن أن يمتلئ قلبُه بالإجلال والتعظيم والتوقير لرّبه الكريم، ويعترف له بأسمائه وصفاته، ويُقرُّ له بالرّبوبيّة والألوهية، وإلى ذلك توجّهُ النصوص الشرعية، يقول الله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)} (سورة نوح)!

 

 

من توقير الله عزّ وجلّ إلى احترام الوالدين:

ثم انطلاقاً من هذه القاعدة، نجد القرآن الكريم والسنة المطهرة ترفع من مكانة الوالدين، وتوجب لهما المقام العالي من الاحترام، حيث قرن الله عزّ وجل في غير ما موضعٍ من القرآن بين توحيده سبحانه وتعالى وبين احترام الوالدين، فمن ذلك قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} (سورة الإسراء)، فالمرتبة العليا من الاحترام هي للوالدين، ولا يزول هذا الاحترام للوالدين، حتى إذا كانا مشركين، ويدعوان ابنهما إلى الشرك، يقول ا لله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} (سورة لقمان).

 

 

من احترام الوالدين إلى صلة الرحم:

ومن احترام الوالدين يمتدّ الاحترام إلى الأقارب وذوي الأرحام، حيث ورد الترغيب المؤكد في صلتهم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) (رواه البخاري)! كما ورد الترهيب المشدّد في حال قطيعتهم: (إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (مسلم).

 

 

ومن احترام الوالدين والكبار من ذوي الأرحام إلى احترام الكبار عامّةً:

يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ إكرامَنا لمن هو أقدمُنا سِنًّا أنّ ذلك من تعظيمنا لربِّنا وإجلالنا لربِّنا، يقول: (إنَّ مِن إجلالِ الله إكرامَ ذي الشَّيبةِ من المسلمين وحامِلِ القرآن غيرِ الغالي فيه والجافي عنه وذي السلطانِ المقسِط) (سنن أبي داود، حسنه الألباني)!

وإلى احترام عامّة الناس:
يقول الله تعالى:

(يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِن نِسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الإِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ((الحجرات،11) ,

وإلى احترام الحيوان:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه , عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر, فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلي بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس, وجعل لكم الأرض, فعليها فاقضوا حاجتكم) أخرجه أبو داود في سننه.

 

 



 
الصيام والتّقوى والاحترام
 
موجز:
الغاية من صوم رمضان هي تحقيق التقوى!

والتقوى كما تتعلّق بحقّ الله، كذلك تتعلق بحقوق العباد (ومن ذلك احترامهم!):

لكنّ الجمع بين أداء حقّ الله تعالى واحترام عبيده من أصعب الأمور:

يقول ابن رجب:

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ):

"هَذَا مِنْ خِصَالِ التَّقْوَى، وَلَا تَتِمُّ التَّقْوَى إِلَّا بِهِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ لِلْحَاجَةِ إِلَى بَيَانِهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ التَّقْوَى هِيَ الْقِيَامُ بِحَقِّ اللَّهِ دُونَ حُقُوقِ عِبَادِهِ، فَنَصَّ لَهُ عَلَى الْأَمْرِ بِإِحْسَانِ الْعِشْرَةِ لِلنَّاسِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ مُعَلِّمًا لَهُمْ وَمُفَقِّهًا وَقَاضِيًا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مُخَالَقَةِ النَّاسِ بِخُلُقٍ حَسَنٍ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّا لَا حَاجَةَ لِلنَّاسِ بِهِ وَلَا يُخَالِطُهُمْ! ".

 

 

صعوبة الجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده (أي حسن الخلق والاحترام):

يقول ابن رجب:

"وَكَثِيرًا مَا يَغْلِبُ عَلَى مَنْ يَعْتَنِي بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ، وَالِانْعِكَافِ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَخَشْيَتِهِ وَطَاعَتِهِ: إِهْمَالُ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوِ التَّقْصِيرِ فِيهَا!

وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ عَزِيزٌ جِدًّا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ إِلَّا الْكُمَّلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ.

وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ عَزِيزَةٌ أَوْ مَعْدُومَةٌ: حُسْنُ الْوَجْهِ مَعَ الصِّيَانَةِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ مَعَ الدِّيَانَةِ، وَحُسْنُ الْإِخَاءِ مَعَ الْأَمَانَةِ.

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: جَلَسَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَالِيًا، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَالِي أَرَاكَ خَالِيًا؟ قَالَ: هَجَرْتُ النَّاسَ فِيكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: يَا دَاوُدُ أَلَا أَدُلَّكَ عَلَى مَا تَسْتَبْقِي بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ، وَتَبْلُغُ فِيهِ رِضَايَ؟ خَالِقِ النَّاسَ بِأَخْلَاقِهِمْ، وَاحْتَجِزِ الْإِيمَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ.

 

 

الاحترام الصادر عن المسلم إلى غيره إنما ينبع من التَّقوى:
يقول ابن رجب:

وَقَدْ عَدَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مُخَالَقَةَ النَّاسِ بِخُلُقٍ حَسَنٍ مِنْ خِصَالِ التَّقْوَى، بَلْ بَدَأَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134].

وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ، كَيْفَ أَكُونُ تَقِيًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ؟

قَالَ: بِيَسِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ: تُحِبُّ اللَّهَ بِقَلْبِكَ كُلِّهِ، وَتَعْمَلُ بِكَدْحِكَ وَقُوَّتِكَ مَا اسْتَطَعْتَ، وَتَرْحَمُ ابْنَ جِنْسِكَ كَمَا تَرْحَمُ نَفْسَكَ!

قَالَ: مَنِ ابْنُ جِنْسِي يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ؟

قَالَ: وَلَدُ آدَمَ كُلُّهُمْ، وَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ، فَلَا تَأْتِهِ لِأَحَدٍ وَأَنْتَ تَتَّقِي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ.

 

 

حسن الخلق (الاحترام) أكمل خصال الإيمان:

وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُسْنَ الْخُلُقِ أَكْمَلَ خِصَالَ الْإِيمَانِ، كَمَا خَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) وَخَرَّجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَزَادَ فِيهِ: " (إِنَّ الْمَرْءَ لَيَكُونُ مُؤْمِنًا وَإِنَّ فِي خُلُقِهِ شَيْئًا فَيَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ إِيمَانِهِ)".

وَخَرَّجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: (قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَفْضَلُ مَا أُعْطِيَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ؟ قَالَ: الْخُلُقُ الْحَسَنُ).

وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ صَاحِبَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ يَبْلُغُ بِخُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، لِئَلَّا يَشْتَغِلَ الْمُرِيدُ لِلتَّقْوَى عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَيَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُهُ عَنْ فَضْلِهِمَا، فَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ الصَّائِمِ وَالْقَائِمِ).

وَأَخْبَرَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ وَأَقْرَبُهُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مَجْلِسًا، فَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي مِيزَانِ الْعَبْدِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ).

وَخَرَّجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَى اللَّهِ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا) وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ). وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ»، وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.

 

 

بعض ما ورد عن السلف في تفسير حسن الخلق:

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ تَفْسِيرُ حُسْنِ الْخُلُقِ فَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: حُسْنُ الْخُلُقِ: الْكَرَمُ وَالْبِذْلَةُ وَالِاحْتِمَالُ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: حُسْنُ الْخُلُقِ: الْبِذْلَةُ وَالْعَطِيَّةُ وَالْبِشْرُ الْحَسَنُ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ كَذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: هُوَ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى. وَسُئِلَ سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، فَأَنْشَدَ:

تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلًا ... كَأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهُ

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي كَفِّهِ غَيْرُ رُوحِهِ ... لَجَادَ بِهَا فَلْيَتَّقِ اللَّهَ سَائِلُهُ

هُوَ الْبَحْرُ مِنْ أَيِّ النَّوَاحِي أَتَيْتَهُ ... فَلُجَّتُهُ الْمَعْرُوفُ وَالْجُودُ سَاحِلُهُ

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حُسْنُ الْخُلُقِ أَنْ لَا تَغْضَبَ وَلَا تَحْتَدَّ، وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: حُسْنُ الْخُلُقِ أَنْ تَحْتَمِلَ مَا يَكُونُ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: هُوَ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَأَنْ لَا تَغْضَبَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: حُسْنُ الْخُلُقِ كَظْمُ الْغَيْظِ لِلَّهِ، وَإِظْهَارُ الطَّلَاقَةِ وَالْبِشْرُ إِلَّا لِلْمُبْتَدِعِ وَالْفَاجِرِ، وَالْعَفْوُ عَنِ الزَّالِّينَ إِلَّا تَأْدِيبًا، وَإِقَامَةُ الْحَدِّ وَكَفُّ الْأَذَى عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَوَمُعَاهَدٍ إِلَّا تَغْيِيرَ مُنْكَرٍ وَأَخْذًا بِمَظْلَمَةٍ لِمَظْلُومٍ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ. وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَفْضَلُ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصْفَحَ عَمَّنْ شَتَمَكَ». وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ «عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عُقْبَةُ، أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ أَخْلَاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ». وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَكْرَمِ أَخْلَاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ).

 



 

من قصص الاحترام في عصر خير القرون

 

مِنْ فَضَائِلِ سَلْمَانَ، وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ

روى الإمام مسلم في صحيحه: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ، أَتَى عَلَى سَلْمَانَ، وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ فِي نَفَرٍ، فَقَالُوا: وَاللهِ مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللهِ مَأْخَذَهَا، قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ؟، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ» فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا إِخْوَتَاهْ أَغْضَبْتُكُمْ؟ قَالُوا: لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَخِي).

قال الإمام النوويُّ: وَهَذَا الْإِتْيَانُ لِأَبِي سُفْيَانَ كَانَ وَهُوَ كَافِرٌ فِي الْهُدْنَةِ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفِي هَذَا فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِسَلْمَانَ وَرُفْقَتِهِ هَؤُلَاءِ، وَفِيهِ مُرَاعَاةُ قُلُوبِ الضُّعَفَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ وَإِكْرَامِهِمْ وَمُلَاطَفَتِهِمْ!

فانظر أبا بكرٍ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين إذ هما في الغار، كيف يستعطف سلمان وصهيباً وبلالاً، الرومي والفارسيّ والحبشي!

 

 

المرأة السوداء التي كانت تقُمُّ المسجد:

روى مسلم في صحيحه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ - أَوْ شَابًّا - فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عَنْهَا - أَوْ عَنْهُ - فَقَالُوا: مَاتَ، قَالَ: (أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي) قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا - أَوْ أَمْرَهُ - فَقَالَ: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ» فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ)!

 

 

يقول الإمام النوويُّ:

"فِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوَاضُعِ وَالرِّفْقِ بِأُمَّتِهِ وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ وَالِاهْتِمَامِ بِمَصَالِحِهِمْ في آخرتهم ودنياهم".

وهو تدريب عملي من الرسول صلي الله عليه وآله وسلم لصحابته علي احترام الآخرين مهما صغرت مكانتهم , خاصة أنها كانت تقوم بتنظيف المسجد , والمساجد كما ورد في السنة: (خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ، وَشَرُّهَا الْأَسْوَاقُ)، فاستحقّت هذه المرأة الاحترام من الرسول صلى الله عليه وسلم، بسبب حفظها لحرمة المسجد رضي الله عنها.

أليست نفساً!؟

اخرج البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن ابي ليلي قال: كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالقَادِسِيَّةِ، فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ، فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالاَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: (أَلَيْسَتْ نَفْسًا)!

بنت يهوديٍّ!

عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: (بَلَغَ صَفِيَّةَ أَنَّ حَفْصَةَ، قَالَتْ: بِنْتُ يَهُودِيٍّ، فَبَكَتْ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقَالَتْ: قَالَتْ لِي حَفْصَةُ: إِنِّي بِنْتُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّكِ لَابْنَةُ نَبِيٍّ، وَإِنَّ عَمَّكِ لَنَبِيٌّ، وَإِنَّكِ لَتَحْتَ نَبِيٍّ، فَفِيمَ تَفْخَرُ عَلَيْكِ؟» ثُمَّ قَالَ: «اتَّقِي اللَّهَ يَا حَفْصَةُ») صححه الألباني.

فانظر كيف وجه النبي صلي الله عليه وآله وسلم الكلام أولاً إلي السيدة صفية فرفع من مكانتها، وأشعرها بالثقة في النفس , ولفت نظرها إلي معني لم تلتفت هي إليه اصلا , وهي أنها من نسل موسي أو هارون عليهما السلام فهي بنتُ نبيٍّ وعمها نبيٌّ , وهذا دافعٌ لفخارها بنفسها , فأذهب عنها حزنها وبكاءها , واذهب عنها المفهوم الذي دعاها للشعور بالنقص أو القلة!

 

 



 

احترام الرسول صلى الله عليه وسلم

 
مقدمة:

تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم واحترامه، هو ما يقتضيه مقام النبوة والرسالة من كمال الأدب وتمام التوقير، وهو من أعظم مظاهر حبه، ومن آكد حقوقه صلى الله عليه وسلم على أمته، كما أنه من أهم واجبات الدين.

وهذا التعظيم مثل المحبة من حيث كونه تابعا للمعرفة، فعلى قدر المعرفة يكون التعظيم وتكون المحبة.

لذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم أكثر الناس حبا وتعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمعايشتهم له وقربهم منه.

 

 

بم يكون احترامه وتعظيمه صلى الله عليه وسلم؟

وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم يكون بالقلب، واللسان والجوارح، فالتعظيم بالقلب هو ما يستلزم اعتقاد كونه رسولا اصطفاه الله برسالته، وخصه بنبوته، وأعلى قدره، ورفع ذكره، وفضله على سائر الخلق أجمعين، كما يستلزم تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين.

أما التعظيم باللسان فيكون بالثناء عليه بما هو أهله، مما أثنى به على نفسه، أو أثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير، ويدخل في ذلك الصلاة والسلام عليه، كما يشمل الأدب في الخطاب معه والحديث عنه صلى الله عليه وسلم.

وأما التعظيم بالجوارح فيشمل العمل بطاعته، وتجديد متابعته، وموافقته في حب ما يحبه، وبغض ما يبغضه والسعي في إظهار دينه، ونصرة شريعته، والذب عنه وصون حرمته.

وعلى ذلك فأساس التعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم وقاعدته التي ينبني عليها هو تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما عنه نهي وزجر، وعبادة الله بما شرع. فمن فقد هذا الأساس أو أخلَّ به فقد أخل بتعظيمه وتوقيره واحترامه صلى الله عليه وسلم.

وكيف يكون الإخلال بواجب توقير الرسول صلى الله عليه وسلم واحترامه؟

هذا الإخلال يأتي من أمرين، كليهما على طرفي نقيض:
أولهما: الجفاء والتفريط في حقوقه صلى الله عليه وسلم.

والثاني: الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم ورفعه فوق مرتبته التي وضعه الله عليها.

 

 

(المظهر الأول من مظاهر عدم الاحترام):
الجفاء والتفريط في حقوقه صلى الله عليه وسلم:

وذلك كنسبته إلى ما لا يليق بمقام النبوة كالطعن في صدقه أو أمانته وعدالته وذلك كصنيع ذي الخويصرة التميمي الذي طعن في قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم للغنائم كما روي ذلك البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماه أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله اعدل فقال: ويلك. ومن يعدل إذ لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه. فقال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية». . . .) (1) الحديث.

ويشبه هذا الصنيع صنيع المنافقين ومن انطمست بصائرهم فلم يعرفوا للنبي صلى الله عليه وسلم قدره ولم يحفظوا حرمته.

ومما يلحق بالجفاء عدم التأدب في الحديث والكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم كصنيع بعض الشعراء والكتاب في تشبيه بعض الولاة والحكام أو وصفهم بصفات الرسول صلى الله عليه وسلم الخاصة به. كقول المعري مثلا.

لولا انقطاع الوحي بعد محمد    قلنا محمد عن أبيه بديل

هو مثله في الفضل إلا أنه          لم يأته برسالة جبريل

وقد نقل القاضي عياض أمثلة من هذا القبيل من أقوال بعض الجفاة والمنافقين.

ومما يلحق بالجفاء ترك الصلاة والسلام عليه لفظا وخطا، أو الاستهانة بهديه وسنته وقلة المبالاة بها أو التعظيم لشأن المفكرين والكتاب والقادة بما يغض من شأنه صلى الله عليه وسلم، مع أن هؤلاء مهما بلغوا لن يصلوا إلى مرتبة واحد من عامة الصحابة.

وقد كثر الجفاء في زماننا هذا بكثرة المارقين والمنهزمين من الكتاب والأدباء الذين سودوا الصحائف بالاستهزاء بتعاليم الإسلام وقيمه وربما بالتطاول على مقام النبوة. كما عزف كثير من المسلمين عن مطالعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومذاكرة سنته وكثرة الصلاة والسلام عليه. مما أدى إلى الجفاء للنبي صلى الله عليه وسلم وعدم توقيره.

ولقد كان سلفنا الصالح إذا ذكر عندهم النبي صلى الله عليه وسلم أو حديثا من أحاديثه ظهر عليهم من الهيبة والإجلال والتأدب كما لو كان النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم حتى إن بعضهم كان يبكي عند ذكره صلى الله عليه وسلم فكان محمد بن المنكدر إذا سئل عن حديث بكى حتى يرحمه الجالسون، وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحاضرين بالسكوت وقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] (3) ويتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب عند سماع قوله صلى الله عليه وسلم.

هكذا كان أدب سلفنا الصالح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته فأين منا هذا الأدب وذلك التوقير؟ كما نسأل الله العافية.

(المظهر الثاني من مظاهر عدم الاحترام)

غلو في النبي صلى الله عليه وسلم ورفعه فوق مرتبته التي وضعه الله عليها:

وذلك كاعتقاد أنه يعلم الغيب مطلقا أو أن وجوده سابق لهذا العالم وأن من نوره خلق الكون كله إلى غير ذلك من الاعتقادات الباطلة التي لم ترد في سنة.

 

 

وجوب احترام الرسول صلّى الله عليه وسلم:

وقد أوجب الله على الأمة كلها تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره فقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 8 - 9] .

فالتسبيح لله عز وجل والتعزير والتوقير للنبي صلى الله عليه وسلم وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]  والتعزير بمعنى التعظيم.

قال ابن جرير في تفسير الآية الأولى:

"معنى التعزير في هذا الموضع: التقوية والنصرة والمعونة ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال" .

ويعرف ابن تيمية التعزير بأنه:

"اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار".

 

 

وجوه الأدب والاحترام للنبي صلى الله عليه وسلم:

وقد أبان الله في كتابه عن وجوه الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وما ينبغي على المسلم أن يتأدب به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في آيات شتى وبأساليب متنوعة، وقد اشتملت سورة الحجرات في صدرها على مجموعة من التوجيهات التربوية للمسلمين في كيفية تعاملهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأدب معه.

فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ - إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ - إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ - وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 1 - 5] فقد أشارت هذه الآيات إلى بعض وجوه الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم منها:

عدم التقدم بين يدي الله ورسوله بقول أو فعل أو إذن أو تصرف:

كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1].

قال ابن جرير في تفسير هذه الآية:

" لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم، قبل أن يقضي الله لكم فيه، ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله (3).

وهذا الأمر فرض باق على الأمة إلى يوم القيامة- مثل طاعته صلى الله عليه وسلم حيا وميتا- فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كالتقدم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند ذوي العقول السليمة، فالأدب كل الأدب معه صلى الله عليه وسلم تقديم سنته وأقواله على كل قول أو رأي.

 

 

ومنها عدم رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم:

وعدم الجهر له بالقول مخافة حبوط العمل. فالأدب معه في حياته غض الصوت عنده مع الهيبة والإجلال له، وأن يكون مجلس علم وحلم ووقار وسكينة، وأن يكون الحديث معه بتأدب وتلطف.

وإذا كان الله قد حرم رفع الأصوات فوق صوت نبيه، وحرم الجهر له بالقول لما في ذلك من الجفاء والإيذاء لنبيه صلى الله عليه وسلم، فكذلك رفع الأصوات عند قبره صلى الله عليه وسلم في حكم رفع الصوت عنده في حياته من حيث التحريم لأن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا.

وقد شدد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه النكير على رجلين رفعا أصواتهما في المسجد النبوي وذلك فيما رواه البخاري بسنده عن السائب بن يزيد قال:

(كنت قائما في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فاتني بهذين، فجئته بهما. قال: من أنتما- أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما. ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم!).

فإذا تقرر هذا علمنا أن ما يحدث من كثير من الناس عند قبره صلى الله عليه وسلم من رفع الأصوات واختلاطها، وصنيع من يسمون " بالمزوِّرين " من رفع الأصوات عند القبر والتشويش في المسجد النبوي، كلُّ هذا من الأمور المحرَّمة لما فيها من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وانتهاك حرمة المسجد.

ومن مخالفة الأدب في هذا الباب رفع آراء بعض البشر وأقوالهم ومذاهبهم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحاولة إسكات صوت السنة والداعين إليها وفي هذا من الإيذاء والجفاء ما هو أكبر بكثير من مجرد رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم .

 

 

قال أبو بكر بن العربي:

(حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر أن لا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]. وكلام النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي، وله من الحرمة مثل ما للقرآن إلا معاني مستثناة بيانها في كتب الفقه والله أعلم).

 

 

ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم عدم جعل دعائه كدعاء الناس بعضهم بعضا:

كما قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] وللمفسرين في معنى هذه الآية قولان:

- أحدهما: معناه أن لا تجعلوا دعاءكم ونداءكم للرسول صلى الله عليه وسلم كما ينادي بعضكم بعضا باسمه المجرد فنهاهم الله أن ينادوا رسوله صلى الله عليه وسلم بيا محمد. بل الأدب معه صلى الله عليه وسلم أن ينادوه: بيا رسول الله، ويا نبي الله، مع خفض الصوت احتراما

وتوقيرا له.

الثاني: أن لا تجعلوا دعاء الرسول لكم من جنس دعاء بعضكم بعضا إذا شاء أجاب وإن لم يشأ لم يجب. بل الأدب معه أنه إذا دعاكم لم يسعكم إلا إجابته والسمع والطاعة له.

ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أن أصحابه إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه:

كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62].

قال ابن القيم:

"ومن الأدب معه: أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع- من خطة أو جهاد أو رباط- لم يذهب أحدهم مذهبا في حاجته حتى يستأذنه. . . فإذا كان هذا مذهبا مقيدا بحاجة عارضة، لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله، وفروعه، دقيقة، وجليله؟ هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ومن الأدب معه. أن لا يستشكل قوله. بل تستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا، نعم هو مجهول وعن الصواب معزول.

ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم وهو عين الجرأة".

 

 

ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه: التأدبُ في الحديث معه والحديث عنه:

وذلك باختيار أحسن الألفاظ وأعذبها، وأرق المعالي وألطفها، وتجنب كل ما فيه جفاء أو إساءة أدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وتنزيه مقام النبوة والرسالة من كل عيب أو نقص ينافي عصمته صلى الله عليه وسلم.

لأجل هذا نهى الله المؤمنين عن الجهر بالقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نهاهم عن مخاطبته كما يخاطب بعضهم بعضا كما سبق آنفا. لما فيه من الجفاء والإيذاء له. ومن هذا الباب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104].

فنهى الله المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم (راعنا) لما فيها من احتمال معنى: ارعنا نرعاك على سبيل المقابلة كما يقال حادثنا وجالسنا، نحادثك ونجالسك. فكأنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم. بل حقه صلى الله عليه وسلم أن يرعى على كل حال، أو يكون معناها: ارعنا معك حتى نفهمك وتفهم عنا وكلا المعنيين فيه جفاء لا يليق بمقام النبوة.

وقيل نهوا عن ذلك لما فيه من التشبه باليهود لأنهم كانوا يورون بهذه الكلمة عن الرعونة فنهي المسلمون عن قولها قطعا للذريعة، ومنعا للتشبه بهم في قولهم .

وعلى ذلك فكل كلام يشعر بالجفاء وإن لم يقصده المتكلم- لا يجوز أن يخاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم أو يتحدث به عنه لما في ذلك من إيذائه صلى الله عليه وسلم وإذهاب هيبته من النفوس.

 

 

ومن تعظيمه صلى الله عليه وسلم الثناء عليه بما هو أهله:

مما أثنى به على نفسه، أو أثنى به عليه ربه سبحانه وتعالى من غير غلو ولا تقصير، ومن أعظم الثناء عليه: الصلاة والسلام عليه في مواطنها، وعند ورود ذكره الشريف على المسامع واللسان وعند الخط بالبنان.

ويتضمن معنى الصلاة عليه: ثناء الله عليه والإشارة برفع ذكره، والطلب من الله أن يعلى ذكره، ويزيده تعظيما وتشريفا، والمراد بالطلب هنا هو طلب الزكاة- زيادة الثناء والتشريف- لا طلب أصل الصلاة. أما السلام فيتضمن سلامته أي من كل آفة وعيب.

أورد البخاري تعليقا عن أبي العالية قال: "صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء".

قال ابن عباس: يُصلون: يبركون.

وقد أخبر الله أنه وملائكته يصلون على النبي وأمر المؤمنين بالصلاة والسلام عليه فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية:

والمقصود من هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والسلام عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا".

كما رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة والسلام عليه في أحاديث عدة: منها ما أخرجه مسلم بسنده عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى عليَّ واحدة، صلى الله عليه عشراً).

وأخرج أبو داود بسنده عن أوس بن أوس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه قُبض وفيه النَّفخة وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي قالوا يا رسول الله: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟! يقولون: بليت. قال: إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).

وأخرج الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي» الحديث.

وأخرج الترمذي أيضا بسنده عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البخيل من ذكرتُ عندهُ فلم يُصَلِّ عليَّ).

وأخرج أبو داود بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلُّوا عليَّ فإنَّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم).

وقد علَّم الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته كيف يصلون عليه في الصلاة وغيرها وذلك فيما أخرجه البخاري ومسلم بسنديهما عند عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية، إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا، فقال يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك فقال: قولوا اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد).

وأخرجا أيضا بسنديهما عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: «يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: (اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما، صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد).

إلى غير ذلك من الصيغ التي علمهم النبي صلى الله عليه وسلم إياها وأرشدهم إليها.

وهذه الصيغ التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته من بعدهم هي أفضل كيفيات الصلاة والسلام عليه لأنها صادرة من مشكاة النبوة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يختار لهم ولنفسه إلا الأشرف والأفضل والأكمل من الأعمال والكيفيات.

فإذا تبين هذا علمنا أن ما ابتدعه كثير من مشايخ الصوفية من صيغ في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم زاعمين لها من الفضل والثواب الشيء الكثير، هذه الصلوات لا ترتقي إلى مرتبة الصيغ التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته في كيفية الصلاة والسلام عليه. هذا إن سلمت تلك الصلوات من الغلو وضروب البدع. كما يلاحظ أنه لم يرد في شيء من صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لفظ السيادة (سيدنا). فدل عدم ورودها على أنها ليست مشروعة أو خلاف الأولى.

 

 

وصفه بالسيادة في صيغة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم:

وقد سئل الحافظ ابن حجر عن صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة أو خارج الصلاة سواء قيل بوجوبها أو ندبيتها، هل يشترط فيها أن يصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة. كأن يقول مثلا. اللهم صل على سيدنا محمد أو على سيد الخلق، وعلى سيد ولد آدم؟ أو يقتصر على قوله: اللهم صل على محمد؟ وأيهما أفضل، الإتيان بلفظ السيادة لكونها صفة ثابتة له صلى الله عليه وسلم، أو عدم الإتيان بها لعدم ورود ذلك في الآثار؟.

فأجاب رحمه الله:

(نعم، اتباع الألفاظ المأثورة أرجح، ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعا منه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول عند ذكره صلى الله عليه وسلم: صلى الله عليه وسلم وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك كلما ذكر. لأنا نقول: لو كان ذلك راجحا لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين. ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين لهم قال: ذلك مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك) (1).

 

 

من مواطن الصَّلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

وللصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مواطن يتأكد وجوبها أو استحبابها فيها: منها: التشهد الأخير في الصلاة، واختلف في وجوبه واستحبابه على قولين . ومنها عند دخول المساجد والخروج منها، وبين يدي الدعاء.

وعند ذكره صلى الله عليه وسلم، وروود اسمه الشريف وكتابته وفي الخطب وعند رواية الحديث وتعليم الناس العلم إلى غير ذلك من المواطن.

 

 

وجوب تعظيمه صلى الله عليه وسلم نصرته والذب عنه:

وقد أوجب الله على الأمة تعزير نبيه صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وسبق أن بينا أن تعزيره صلى الله عليه وسلم يتضمن معنى النصرة والتعظيم. فواجب على الأمة أن تنصر الله ورسوله، وأن تنتصر لله ورسوله، وإذا كان نصر آحاد المسلمين واجبا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)

وقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته).

فكيف لا يكون نصر الرسول صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات، بل حقه أن يفدى بالأنفس والأموال وأن يؤثر بكل عزيز وغال.

قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120]  الآية.

فحرم الله على المؤمنين التخلف عن نصرة نبيه والرغبة بالأنفس عنه، وأوجب على المؤمنين نصرته، وذلك في آيات عدة من القرآن منها:

قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] .

وقال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40]  الآية.

 

 

الفرق بين التعظيم/الاحترام المشروع وغير المشروع:

ينبغي على المسلم أن يعلم أن التعظيم الذي أوجبه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم هو التعظيم المشروع اللائق بمقام النبوة والرسالة.

ومدار هذا التعظيم وأساسه هو الاتباع والاقتداء به صلى الله عليه وسلم فمن كان اتباعا واقتداء كان أكثر محبة وتعظيما، وأبعد عن الغلو والبدع. وليس كل ما يظن أنه من باب التعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو في الحقيقة تعظيما مشروعا في حقه.

قال ابن عبد الهادي
فالتعظيم نوعان:

أحدهما: ما يحبه المعظم ويرضاه ويأمر به ويثنى على فاعله، فهذا هو التعظيم في الحقيقة.

والثاني: ما يكرهه ويبغضه ويذم فاعله، فهذا ليس بتعظيم، بل هو غلو مناف للتعظيم، ولهذا لم يكن الرافضة معظمين لعلي بدعواهم الإلهية والنبوة أو العصمة ونحو ذلك، ولم يكن النصارى معظمين للمسيح بدعواهم فيه ما ادعوا، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر على من عظمه بما لم يشرعه، فأنكر على معاذ سجوده له، وهو محض التعظيم.

وفي المسند بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك: «أن رجلا قال: (يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا، وابن خيرنا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله).

وكان يكره من أصحابه أن يقوموا له إذا رأوه، ونهاهم أن يصلوا خلفه قياما. وقال: (إنَّ كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم)، وكلُّ هذا من التعظيم الذي يبغضه ويكرهه!

وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من قال له: ما شاء الله وشئت أخرج الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنَّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال أجعلتني والله عدلا. بل ما شاء الله وحده).

وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى أن يقولوا- إذا أرادوا- ما شاء الله ثم شاء مد. كما في سنن الدارمي وابن ماجه بسنديهما عن الطفيل بن سخبرة أخى عائشة لأمها قال: (قال رجل من المشركين لرجل من المسلمين نعم القوم أنتم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد).

فيجب على المسلم أن يفرق بين المشروع وبين غيره في هذا الجانب وعدم التفرقة بينهما هو الذي أوقع المبتدعة في الغلو الذي ذمه الله ورسوله وذلك كالاستغاثة به وطلب الحاجات منه ودعائه من دون الله واعتقاد أنه خلق من نور وأن الكون كله قد خلق من نوره، وأنه يتصرف في الأكوان، ويعلم الغيب مطلقا إلى غير ذلك من العقائد الباطلة، وابتداع أنواع كثيرة من الصلوات عليه. فكل هذا من الغلو والشرك الذي نهى الله عنه، وفاعل هذا مضاد لتعظيمه صلى الله عليه وسلم.

 

 

و من توقيره و بره صلى الله عليه و سلم ـ توقيرُ أصحابه و برهم:

و معرفة حقهم و الاقتداء بهم و حسن الثناء عليهم و الاستغفار لهم و الإمساك لهم و الإمساك عما شجر بينهم و معاداة من عاداهم و الإضراب عن أخبار المؤرخين و جهلة الرواة و ضلال الشيعة و المبتدعين القادحة في أحد منهم و أن يلتمس لهم فيما نقل عنهم من مثل ذلك فيما كان بينهم من الفتن أحسن التأويلات و يخرج لهم أصواب المخارج: إذ هم أهل ذلك و لا يذكر أحد منهم بسوء و لا يغمص عليه أمر بل تذكر حسناتهم و فضائلهم و حميد سيرتهم و يسكت عما وراء ذلك كما قال صلى الله عليه و سلم: [إذا ذكر أصحابي فأمسكوا]

 

 

 
احترام العلماء
 

من القيم الكبيرة التي ينبغي أن يتعلمها المسلم الصائم في هذا الشهر الفضيل، قيمة احترام العلماء:

يقول الله تعالى {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} سورة الزمر 9?

وقال سبحانه {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} فاطر28

وقال سبحانه {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} المجادلة11

وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال النبي (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم وإن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت يصلون على معلم الناس الخير) (رواه الترمذي وصححه الألباني)!

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

(العلماء ورثة الأنبياء , وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم , فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر) (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني).

وقال عُمَرُ رضي الله عنه: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ -صلى الله عليه وسلم-: قَدْ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ». (رواه مسلم.)

 

 

 

والعلماء هم الذين بذلوا أوقاتهم وأفنوا أعمارهم وشابت لحاهم في نشر العلم وتعليمه، الذين شهدت لهم الأمة بالعدالة والإمامة والتبحر في علوم الشريعة وصدر الناس عن رأيهم فهم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى , وأهل الرحمة والرضا , بهم يُقتدى , وبعلمهم يُهتدى , كم من جاهلٍ علَّموا، وتائهٍ أرشدوا، وحائرٍ بصَّروا، وعلى طريق الجنة دلوا، وكم من مهموم ومكروب لكربته فرجوا، وقد أمر الشرع بتوقيرهم وإجلالهم!

وعن أَبِى مُوسَى الأشعري قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-

(إن من إجلال الله تعالى إكرامَ ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط) (رواه أبو داود وحسنه الألباني)

 

 

 

ومن أصول منهج السلف احترام العلماء وتوقيرهم والتأدب معهم غاية الأدب.

ومن توقير العلماء , الدعاء لهم والثناء عليهم , والسؤال عنهم وتفقد أحوالهم وأخذ العلم عنهم ونشر فتواهم، ومن توقيرهم ستر عيوبهم والذب عنهم , والنصح لهم, وإعانتهم على البر والتقوى، ومن عظمت الشريعة في نفسه أحب حملتها وعلماءها وعظم ما يحملونه من علم الكتاب والسنة , وحرص على التأدب معهم , وطاعتهم إذا أمروا أو نهوا لأن طاعتهم من طاعة الله ,

وسؤالهم عما أمر الله عز وجل به قال سبحانه {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} النحل43

فكان السلف على هذه الطريقة من توقير للعلماء ومعرفة حقهم.

 

 



 
احترام ولاة الأمر
 
من هو وليُّ الأمر؟

كلُّ عملٍ يقومُ به المسلم فهو ذو ولايةٍ شرعيَّةٍ عليه:

ليس من أحدٍ إلا وهو مُسترعىً من الله رعيَّةً، وقائماً بولاية أمرٍ مَّا، مِصداقاً لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم: (ألا كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته: فالأميرُ الذي على النَّاس راعٍ، وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والرجلُ راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤولٌ عنهم، والمرأة راعيةٌ على بيت بعلها وولده، وهي مسئولةٌ عنهم، والعبدُ راعٍ على مال سيِّده، وهو مسؤولٌ عنه، ألا فكلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته)، وهذا الحديث يُشير إلى نوعي الولاية المعروفَين، وهما الولاية السياسية والولاية الاجتماعية.

فالولاية السياسية دلّ عليها قوله صلى الله عليه وسلم: (فالأميرُ الذي على النَّاس راعٍ، وهو مسؤولٌ عن رعيَّته)، ومن البدهيِّ أنّ الأمير يقومُ بتفويض بعض سلطاته إلى أمراء آخرين يكونون تحت مسؤوليّته، فكلٌّ منهم وليُّ أمرٍ في حدود ولايته، ومسؤولٌ عنها لدى من ولاه أمرها.

 

 

ودلَّ على الولاية الاجتماعية التي تقوم في إطار مؤسسة الأسرة، قوله صلى الله عليه وسلم: (والرجلُ راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤولٌ عنهم، والمرأة راعيةٌ على بيت بعلها وولده، وهي مسئولةٌ عنهم، والعبدُ راعٍ على مال سيِّده، وهو مسؤولٌ عنه)، وهكذا يمكن أن نقول: الابن الكبير راعٍ على إخوانه في غياب والده، وهو مسؤولٌ عنهم، ... الخ، فالحديث يضعُ في بدئه وختامه قاعدةً عامّةً: (فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيّته).

وبناءً على القاعدة العامّة التي يقرّرها الحديث، يُمكن أن تتأسَّس كلُّ صور الولايات الأخرى، وبناءً على ذلك، فالطالب راعٍ فيما هو مفرّغٌ له من طلبه للعلم، وهو مسؤولٌ عنه، وحارس الأمن راعٍ على ما كُلّف به من عملٍ، وهو مسؤول عنه، والموظف راعٍ في شأن وظيفته، ... وهكذا لا يخرج عملٌ في دائرة المجتمع عن أن يكون مسؤوليةً وولايةً دينيَّةً وشرعيّة، بالمعنى العامّ للولاية الدينيّة، معنى كون المكلّف بها مسؤولاً أمام وليِّ الأمر الأعلى، كما هو مسؤولٌ عنها يوم القيامة بين يدي الله عزّ وجلّ.

 

 

ما بين الرّاعي والرّعية:

اعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، واجتهدوا في إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة للدين، واحذروا النزاع وأسباب التفرق، وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46].

واعلموا أن الله أمر ولاة أمور المسلمين بأن يؤدوا ما بأعناقهم من الأمانة للرعية، وأن يحكموا بالعدل، فيقيموا الحدود والتعزيرات، ويردعوا العصاة عن المعاصي، وأن يرفقوا بهم، فلا يكلفوهم ما يشقُّ عليهم، قال تعالى: وَ?خْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ?تَّبَعَكَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215].

وأمر الرعية بأن يسمعوا لهم، يطيعوهم فيما أمروهم أو نهوهم، ما لم يكن في معصية الخالق، قال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ ذ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59].

 

 

وجوب طاعة وليِّ الأمر واحترامه:

فوجوب طاعة ولي أمر المسلمين عقيدة دينية، يدين بها المسلم لربه، فإن أمره أميره أو مديره بأمر، وجب عليه تنفيذه، ما لم يكن معصية لله، وإن نهاه عن فعل شيء وجب الانتهاء عنه، فطاعة هؤلاء فيها مصلحة الدين والدنيا، ومخالفتهم فيها فساد الدين والدنيا، فوليُّ الأمر جُنَّة ـ أي: ستر وحجاب ـ ونعمة على المجتمع الإسلامي يقودهم للجهاد في سبيل الله والدفاع عن الأعراض والأموال، ويقودهم من له الولاية على الحرمين في الحج، ويولي من هو أهل للولاية على مصالح قطع الطريق والتعرض للمسلمين ويأخذ أموالهم أو يقتلهم أو ينتهك أعراضهم، ويضرب على يد من يريد الإخلال بالأمن.

فلهذه المصالح وغيرها قال العلماء: تجب طاعة الأمير ولو كان فاسقًا بنفسه، فإن صلَّى بالناس إمامًا وجب أن يصلُّوا معه.

وكما تجب طاعة ولاة الأمور يجب النصح لهم، وإظهار محاسنهم وإخفاء مساوئهم، ويحرم الكلام بما يوقع بغضهم في القلوب، أو ينفروا عنهم، ومن لم يقدر على النصح دعا لهم.

قال الأمام أحمد: لو علمت أن لي دعوة مستجابة لصرفتها لولي الأمر؛ لأن في صلاح ولي الأمر صلاح الرعية. وهذا من فقه الإمام أحمد، وثبت في الحديث: (إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تجتمعوا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم) [مسلم].

ويقول الشاعر:
نصحُ الإمام على الأنام فريضة ولأهله كفارة وطهور

ويُشترط لنصح ولي الأمر صلاح نية الناصح وصدقها، ويعرف ذلك بألا يرى منه الافتخار بأنه يصل إلى الأمراء والحكام، بل يخفي نصيحته، فإن صادفت قبولاً كان دالاً على الخير، والدال على الخير كفاعله، وإن صادفت ردًا فقد برئت ذمته، ففي احترام ولاة الأمور من الأمراء والعلماء عز المجتمع. فوحدة الكلمة لها روعتها، وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، فلا يوقع بهم في الكلام ولاسيما مع الصغار والعوام، والذين لا يعرفون العواقب، فالكتاب والسنة مملوءان بهذا المعنى، وإليكم قول بعض العلماء في تفسير الآية الكريمة: أطيعوا السلطان في ضرب الدراهم والدنانير والمكاييل والموازين والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد.

 

 

وجوه طاعة وليِّ الأمر:

ومن أمثلة ما يُطاعون به سائر الأنظمة، التي فيها مصلحة للمجتمع ولا تخالف نصًا من الكتاب والسنة، ... فمن خالف ما التزم به من الشروط، أو أعان على المخالفة، فهو عاص لولاة الأمور، ففي الحديث الشريف: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني) [متفق عليه]، وفي الحديث الآخر: (أن سَلَمة بن يزيد سأل رسول الله قال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، حتى سأله الثانية والثالثة، فجذبه الأشعت بن قيس، فقال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم) [مسلم].

وفي الحديث الآخر: (إنها ستكون بعدي أثرة، وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله! كيف تأمر من أدرك ذلك منا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم) [متفق عليه]، وفي الحديث الآخر: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قالوا: يا رسول الله! ألا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. لا ما أقاموا فيكم الصلاة)) [مسلم].

وفي الحديث الآخر: (ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدًا من طاعة) [مسلم].

وفي الحديث الآخر: (على المرء السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) [صحيح، الإمام أحمد]، أي: لا ينفذ ما أمر به من المعصية، أما ما أمر به من الطاعات فعليه تنفيذه.

 

 

لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء واحترموهم!

ولهذه النصوص ولغيرها قال بعض العلماء: لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء. فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، ومن تعظيم العلماء والحكام ألا ينشر الإنسان أو يذيع أمرًا أو حدثًا رآه، بل يرده لهاتين الفئتين، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ?لاْمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ?لشَّيْطَـ?نَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:83].

قال القرطبي في أحكام القرآن (5/ 291): "والمعنى أنهم إذا سمعوا شيئًا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم، أَوِ ?لْخَوْفِ، وهو ضد هذا أَذَاعُواْ بِهِ، أي: أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته".

ولا يصدر هذا من أقوياء المسلمين وأهل العقول السليمة؛ ولهذا قال بعض المفسرين: "إنه يصدر من ضعفة المسلمين؛ لأنهم كانوا يفشون أمر النبي ويظنون أنهم لا شيء عليهم في ذلك". ذكره القرطبي في أحكام القرآن (5/ 291).

كما نقل عن الضحاك: أنهم المنافقون، فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب في الإرجاف. وقال القرطبي أيضًا: قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْهُمْ} [النساء:8]، أي: لم يُحدِّثوا به ولم يُفشوه، حتى يكون النبي هو الذي يحدث به ويفشيه، أو أولو الأمر وهم أهل العلم والفقه.

كما نقل عن بعض التابعين: أن المراد بولي الأمر: الولاة، وقيل أمراء السرايا، ولا يمنع أن تشمل الآية العلماء، وولاة المؤمنين العاملين بشرع الله.

ولا مانع أن يكون الإخبار للمسؤول المباشر أو المسؤول العام حسب الحال والمصلحة. قوله تعالى: لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، قال القرطبي: (أي: لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه، وما ينبغي أن يكتم)، فلو تأدب المسلمون بآداب القرآن، وتخلقوا بأخلاقه؛ لسلمت صدورهم، واجتمعت كلمتهم، وانتصروا على عدوهم.

ولولاة الأمور والرعايا الأسوة الحسنة في رسول الله وأصحابه حينما جاءه خبر بني قريظة بنقضهم للعهد، بعد انهزام الأحزاب في غزوة الخندق، ندب أحد الصحابة ليتثبت عن نقض بني قريظة، ثم قال له: إذا وجدتهم لم ينقضوا فارفع صوتك بالخبر إذا أقبلت علينا، وإن وجدتهم قد نقضوا فأعطني الإشارة من دون أن يسمع الصحابة [سيرة ابن هشام].

فالرسول أراد منه أن يرفع صوته بعدم نقضهم العهد؛ لما في ذلك من تقوية لنفوس المسلمين ورفع لمعنوياتهم.

وكذا الإشارة حالة نقضهم العهد؛ لما في ذلك من تشجيع للمنافقين، وليكون الإخبار من جهة الرسول حسب الطريقة التي يراها.

ولهذا خطب الرسول بالصحابة بعد صلاة الظهر، وأمرهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فما كان منهم رضي الله عنهم إلا السمع والطاعة.

فالمسلم حقًا يعمل بما سمع من كتاب الله سنة نبيه، ولو خالفهما الكثير من الناس.

 

 



 
احترام الوالدين
 
مقدمة:
يقول ابن الجوزيّ:

"وغير خافٍ على عاقلٍ حقُّ المنعم، ولا منعمَ بعد الحقِّ تعالى على العبد كالوالدين:

فقد تحملَّت الأم بحمله أثقالاً كثيرة، ولقيت وقتَ وضعه مزعجات مثيرة، وبالغت في تربيته، وسهرت في مداراته، وأعرضت عن جميع شهواتها، وقدمته على نفسها في كل حال.

وقد ضم الأب إلى التسبب في إيجاده محبته بعد وجوده، وشفقته، وتربيته بالكسب له والإنفاق عليه.

والعاقل يعرف حق المحسن، ويجتهد في مكافأته، وجهل الإنسان بحقوق المنعم من أخسِّ صفاته، لا سيَّما إذا أضاف إلى جحد الحقِّ المقابلةَ بسوء المنقلب.

 

 

ذكر ما أمر الله به من بر الوالدين وصلة الرحم:

قال الله تبارك وتعالى: (وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدُوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوَلِدَينِ إِحساناً إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولاً كَريماً وَاِخفِض لَهُما جَناحَ الذُلِّ مِنَ الرَحمَةِ وَقُل رَبِّ اِرحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيراً).

قال أبو بكر بن الأنباري: هذا القضاء ليس من باب الحكم، إنما هو من باب الأمر والفرض. وأصل القضاء في اللغة: قطع الشيء بإحكام وإتقان.

وقوله: (وَبِالوَلِدَينِ إِحساناً) هو: البر والإكرام، قال ابن عباس: (لا تنفض ثوبك أمامهما فيصيبهما الغبار).

(فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ) في معنى أف خمسة أقوال: أحدهما: وسخ الظفر، قاله الخليل. والثاني: وسخ الأذن، قاله الأصمعي. والثالث: قلامة الظفر، قاله ثعلب. والرابع: الاحتقار والاستصغار، من الأفي، والأفي عند العرب: القلة، ذكره ابن الأنباري. والخامس: ما رفعته من الأرض من عود أو قصبة، حكاه ابن فارس.

وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي أن معنى الأف: النتن، وأصله نفخك الشيء يسقط عليك من تراب وغيره، فقيل لكل ما يستقل.

وقوله: (وَلا تَنهَرهُما) أي: لا تكلمهما ضجراً صائحاً في وجههما.

وقال عطاء بن أبي رباح: لا تنفض يدك عليهما.

(وَقُل لَهُما قَولاً كَريماً) أي: لطيفاً، أحسن ما تجد. وقال سعيد بن المسيب: كقول العبد المذنب للسيد الفظ.

(وَاِخفِض لَهُما جَناحَ الذُلِّ)، من رحمتك إياهما.

ومن بيان حق الوالدين قوله تعالى: (أَنِ اشَكُر لي وَلِوَالِدَيكَ).

فقرن شكره بشكرهما.
ذكر ما أمرت به السنة من بر الوالدين:

عن معاذ بن جبل، قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا تعق والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك).

قال أحمد: حدثني يحيى، عن ابن أبي ذئب، عن خاله الحارث، عن ضمرة، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: (كانت تحتي امرأة كان عمر يكرهها، فقال: طلقها، فأبيت. فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: (أطع أباك).

وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تعص والديك، وإن أمراك أن تخرج من دنياك فاخرج منها).

وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم).

وقال زيد بن علي بن الحسين لابنه يحيى: (أن الله تبارك وتعالى لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فلم يوصيني بك).

 

 

تقديم بر الوالدين على الجهاد والهجرة:

عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: (أحي والداك؟) قال: نعم. قال: (ففيهما فجاهد).

عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي يبايعه، فقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان، قال: (فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما).

وعن أبي سعيد الخدري، قال: هاجر رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل باليمن أبواك). قال: نعم. قال: (أأذنا لك)؟ قال: لا. قال: (ارجع إلى أبويك فأستأذنهما فإن أذنا لك وإلا فبرهما).

وعن ابن عباس، قال: جاءت امرأة ومعها ابن لها، وهو يريد الجهاد، وهي تمنعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقم عندهما، فإن لك من الأجر مثل الذي يريد).

وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال: (هل من والديك أحد حي؟ قال: أمي قال: انطلق فبرهما). فانطلق يحل الركاب. فقال: (أن رضى الرب عز وجل في رضى الوالدين).

 

 

أحبُّ الأعمال إلى الله بر الوالدين:

عن أبي عمرو الشيباني، قال: حدثنا صاحب هذه الدار وأشار إلى دار عبد الله بن مسعود - قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة لوقتها). قلت: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين). قلت: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله).

البر يزيد في العمر

عن سهل بن معاذ، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن برَّ والديه طوبى له وزاد الله في عمره).

وعن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا بن آدم، بر والديك، وصل رحمك، ييسر لك أمرك، ويمد لك في عمرك، وأطع ربك تسمى عاقلاً، ولا تعصمه تسمى جاهلاً).

وعن سلمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزيد في العمر إلا البر).

وعن ثوبان نحوه.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يمد الله في عمره، ويزيد في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه).

 

 

كيفية بر الوالدين:

برهما يكون بطاعتهما فيما يأمران به ما لم يكن بمحظور، وتقديم أمرهما على فعل النافلة، والاجتناب لما نهيا عنه، والإنفاق عليهما، والتوخي لشهواتهما، والمبالغة في خدمتهما، واستعمال الأدب والهيبة لهما، فلا يرفع الولد صوته، ولا يحدق إليهما، ولا يدعوهما باسمهما، ويمشي وراءهما، ويصبر على ما يكره مما يصدر منهما.

سمعت طلق بن علي، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أدركت والدي أو أحدهما وقد افتتحت الصلاة، فقرأت فاتحد الكتاب؛ فقال: يا محمد، لقلت: لبيك).

وعن أبي غسان الضبي أنه خرج يمشي بظهر الحرة وأبوه يمشي خلفه، فلحقه أبو هريرة، فقال: من هذا الذي يمشي خلفك؟ قلت: أبي قال:

"أخطأت الحق ولم توافق السنة، لا تمش بين يدي أبيك، ولكن أمشي خلفه أو عن يمينه، ولا تدع أحداً يقطع بينك وبينه، ولا تأخذ عرقاً (أي: لحماً مختلطاً بعظم) نظر إليه أبوك، فلعله قد اشتهاه، ولا تحد النظر إلى أبيك، ولا تقعد حتى يقعد، ولا تنم حتى ينام".

وعن أبي هريرة، أنه أبصر رجلين، فقال لأحدهما: هذا منك؟ قال: أبي قال: "لا تسمه باسمه، ولا تمشي أمامه، ولا تجلس قبله).

وعن طيلة، قال: قلت لابن عمر: عندي أمي، قال: (والله لو ألفت لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر).

وعن هشام بن عروة، عن أبيه، في قوله تعالى: (وَاَخفِض لَهُما جَناحَ الذُلِّ مِنَ الرَحمَةِ). قال: لا تمتنع من شيء أحباه.

وعن الحسن أنه سئل عن بر الوالدين فقال: (أن تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما ما لم يكن معصية).

وعن عمر رضي الله عنه، قال: (إبكاء الوالدين من العقوق).

وعن سلام بن مسكين، قال: سألت الحسن، قلت: الرجل يأمر والديه بالمعروف وينهاهما عن المنكر؟ قال: (إن قبلا، وإن كرها فدعهما).

وعن العوام، قال: قلت لمجاهد: ينادي المنادي بالصلاة، ويناديني رسول أبي. قال: (أحب أباك) وعن ابن المنكدر، قال: (إذا دعاك أبوك وأنت تصلي فأجب).

وعن عبد الصمد، قال: سمعت وهب يقول: (في الإنجيل: رأس البر للوالدين أن توفر عليهما أموالهما. وأن تطعمهما من مالك).

وعن عبد الله بن عون، قال: (انظر إلى الوالدين عبادة).

 

 

تقديم الأم في البرِّ:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رجل: يا رسول الله، أي الناس أحق مني بحسن الصحبة؟ قال: (أمك). قال: ثم من؟ قال: (أمك). قال: ثم من؟ قال: (أمك). قال: ثم من؟ قال: (أبوك).

وعن المقدام بن معد يكربن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب).

وعن خداش بن سلامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوصي الرجل بأمه، أوصي الرجل بأمه، أوصي الرجل بأمه، أوصي الرجل بأبيه، وأوصيه بمولاه الذي يليه).

وعن الأوزاعي، عن مكحول، قال: (إذا دعتك والدتك وأنت في الصلاة فأجبها، وإن دعاك أبوك فلا تجبه حتى تفرغ).

وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجنة تحت أقدام الأمهات).

وعن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: جاء رجل أبا الدرداء، فقال: أن امرأتي بنت عمر وأنا أحبها، وأن أمي تأمرني بطلاقها. فقال: (لا آمرك أن تطلقها ولا آمرك أن تعصي أمك، ولكن أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الوالدة أوسط أبواب الجنة).

فإن شئت فأمسك وإن شئت فدع.

وعن جاهمة السلمي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن في الجهاد، فقال: (ألك والدة؟ قال: نعم، قال: فالزمها فإن عند رجليها الجنة).

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قبل عيني أمه كان له ستراً من النار).

وعن أنس، قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه. فقال: (هل بقي من والديك أحد؟). قال: أمي. قال: (إن الله عز وجل عذراً في برها، فإنك إذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد إذا رضيت عنك أمك، فاتق الله وبرها).

وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل ينظر إلى أمه نظر رحمة لها إلا كانت له حجة مقبولة مبرورة، قيل: يا رسول الله وإن نظر إليها في اليوم مائة مرة؟ قال: وإن نظر إليها في اليوم مائة ألف مرة، فإن الله عز وجل أكثر وأطيب).

وعنه أنه أتاه رجل، فقال: أني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمك حية؟ قال: لا. قال: تب إلى الله وتقرَّب إليه ما استطعت.

فقال رجل لابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ قال: "إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة".

وعن أبي نوفل، قال: جاء رجل إلى عمر رضي الله عنه، فقال: أني قتلت نفساً، فقال: (ويحك، خطأ أم عمد؟) قال: خطأ. قال: هل من والديك أحد؟). قال: نعم، قال: (أمك). قال: أنه أبي. قال: (انطلق فبره وأحسن إليه)!

 

 

وليعلم البار بالوالدين أنه مهما بالغ في برهما لم يف بشكرهما:

عن زرعة بن إبراهيم، أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه، فقال: إن لي أماً بلغ بها الكبر، وأنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها، وأوضئها، وأصرف وجهي عنها، فهل أديت حقها؟ قال: لا.

قال: أليس قد حملتها على ظهري، وحبست نفي عليها؟ قال: (إنها كانت تصنع ذلك بك، وهي تتمنى بقاءك، وأنت تتمنى فراقها).

ورأى عمر - رضي الله عنه - رجلاً يحمل أمه، وقد جعل لها مثل الحوية على ظهره، يطوف بها حول البيت وهو يقول:

أَحمِلُ أُمي وَهِيَ الحَمالَة ... تُرضِعُني الدِرَةَ وَالعَلالَة

فقال عمر: (لَأن أكونَ أدركتُ أمّي، فوليتُ منها مثل ما وليتَ، أحبُّ إليَّ من حمر النعم).

وقال رجل لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: حملت أمي على رقبتي من خراسان حتى قضيت بها المناسك، أتراني جزيتها؟ قال: (لا، ولا طلقة من طلقاتها).

 

 



 
احترام الكبير
 

ومن القيم الكبيرة التي ينبغي أن يجتهد الصائم في التحلي بها، في هذا الشهر الفاضل، قيمةُ احترام الكبير:

شريعةُ الإسلام جاءت بما يقوِّي الروابطَ بين أفراد المجتمَعِ صغيرِه وكبيره، غنيِّه وفقيره، عالِمِه وجاهِله. جاءت بما يقوِّي تلك الأواصرَ حتى يكون المجتمع المسلِم مجتمعًا مثاليًّا في فضائلِه وقِيَمه، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس:57]. وما أحرانا، ونحن نتفيؤ ظلال الشهر الكريم، أن نجتهد في الالتزام بهذه القيم والآداب الشرعية:

ومن تِلكُم الآدابِ العظيمة ما جاءت به الشريعةُ مِن حثِّ الصغار على احترامِ الكِبار وأمرِ الصّغار بإجلالِ الكِبارِ وتعظيمِهِم والرِّفقِ بهم وعَدمِ التّطاوُل عليهم أقوالاً وأفعالاً. فشريعةُ الإسلام تدعو المسلمَ إلى أن يكرِمَ أخاه المسلمَ الذي تقدَّمَه سِنًّا وسبقه في هذه الحياةِ، تدعوه إلى أن يحترمَه ويكرِمَه ويراعيَ له كِبَرَه وسابِقَتَه في الإسلام، فيجِلّ الكبيرَ ويحترمه، ويعرِف له قدرَه ومكانته، والكبيرُ مأمورٌ برحمةِ الصِّغار والعطفِ عليهم والرِّفق بهم والإحسانِ إليهم. هذه المنافعُ المتبادَلَة بين أفرادِ المجتمَعِ المسلِم تثبِّت أواصِرَ الحبِّ والوئام بين الجماعةِ المسلمة.

أيّها المسلم، إنَّ نبيَّنا محمَّدًا حثَّنا على هذا الخلقِ الكريم ورَغَّبنا فيه، فأوّلاً: يبيِّن لنا نبيُّنا أنَّ مَن أحسن إلى الكبيرِ في الدنيا هيَّأ الله لذلك المحسِنِ عند كِبَر سنِّه ورقَّةِ عَظمه من يجازيه بهذا العمَلِ الصّالح، فيقول: (مَا مِن مسلمٍ يكرِم ذا الشَّيبةِ إلاَّ قيَّض الله له من يكرِمه في سِنِّه) [1]، فإذا أكرمتَ ذا الكِبَر لسنِّه قيَّض الله لك في حياتِكَ من يجازيك بمثلِ ما عمِلتَ، فيكرمُك ويحسِن إليك.

ونبيُّنا يخبرنا أنّ إكرامَنا لمن هو أقدمُنا سِنًّا أنّ ذلك من تعظيمنا لربِّنا وإجلالنا لربِّنا، يقول: (إنَّ مِن إجلالِ الله إكرامَ ذي الشَّيبةِ من المسلمين وحامِلِ القرآن غيرِ الغالي فيه والجافي عنه وذي السلطانِ المقسِط) [2]، فمن إجلال الله أن تكرمَ هؤلاء الثلاثة: ذو الشيبةِ من أهل الإسلام، تكرِمه، ترحَم كِبَره، تخاطبه بخطابٍ ليِّن، تقضي حاجتَه، تعينه على نوائِبِ الدنيا، تعرِف له كِبَره وضعفَ قوّته وعجزه عن التصرُّف، فكلُّ هذه الأمور تكون في فِكرِك، فتعامِل ذا الشّيبةِ المعاملةَ الطيّبة التي تنمّ عن رحمةٍ وأدَب حسَن. ثانيًا: من كان حامِلاً لكتابِ الله الحملّ الشرعيَّ، ليس غاليًا فيه، فإنّ الغالي في القرآنِ يخرج به غلوُّه عن المنهَج والطريق السويِّ كما خرج بفرقةِ الخوارج الذين ساءَ فهمُهم للقرآن وقَلَّ وعيُهم وإدراكهم حتى استحلّوا دِماءَ المسلمين، كفَّروهم واستحلّوا دماءَهم وأموالهم، والغالي في القرآن تراه متكبِّرًا على غيره مكفِّرًا لغيره معتقِدًا ضلالَ غيره بلا فِكرٍ ولا رَأي مُصيب، أو الجافي عنه الذي حمَله فعطَّل العملَ به ولم يقم بحقوقِه، عافانا الله وإيّاكم من ذلك. وذو السلطان المقسِط العادِل تكرمه لإمامتِه وقيامِه بشأن رعيَّته.

أيّها الشابّ المسلم، في شبابِك حيويّة وقوّةٌ شبابيّة، ترى نفسَك وأنت ممتَّع بسمعك وبصرِك وسائرِ قوَّتك، يمرُّ بك ذو الشّيبة من المسلمين فما ترعى له حقًّه، لا تسلِّم عليه أحيانًا، ولا تقدِّر له قدرَه، وربما ضايقتَه في الطريق، وربما سخِرتَ منه، وربما استهزأتَ به، وربما عِبتَه، وربما قلتَ وقلت.

أيّها الشابّ المسلم، ولئن كنتَ ممتَّعًا الآن بقوَّتك فتذكَّر بعد سنين وقد ضعُفت تلك القوّة وعُدتَ إلى ضعفِك القديم، (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم:54]، لئن كان هذا المارُّ بك شيبةً قد أمضى سنينَ عديدة فاعلم أنّك بمضيِّ السنين ستكون حالُك مثلَ حالِه. إذًا فأكرِم ذا الشيبةِ، واعرف له قيمتَه ومكانته، إيّاك أن تستطيلَ عليه بلسانك احتقارًا له وسخريّةً به، إيّاك أن تترفَّع عليه لكونِك ذا علمٍ وفِقه وثقافة فترى ذا الشيبةِ أقلَّ شأنًا من ذلك، بل تزدريه وتحتقِره لعلمك وحيويَّتك ولكِبَره وقد يكون لجهله، إيّاك أن يغُرَّك جاهك أو يخدعَك منصِبك أو يغرّك كثرةُ مالك، فارفق بمن هو أكبرُ منك سنًّا ليدلَّ على الأدبِ الرفيع في نفسك.

الأدبُ إخوتي الشباب، الأدب الإسلاميّ خُلُق يتخلَّق به المسلم، يقودُه لكلِّ فضيلة، وينأى به عن كلِّ رذيلة.

أيّها الشاب المسلم، إنَّ نبيَّنا يروَى عنه أنّه أخبر أنّ إهانةَ الشيخ الكبيرِ والعالِمِ وذِي السلطان أنَّ إهانتَهم وعدَمَ احترامهم دليلٌ على ما في القلبِ من نفاق، فارفق بذي السِّنّ أيّها الشابّ المسلم، وأكرم ذا السّنّ، أكرمه واحترِمه وأعطِه قدرَه، ألا ترى اللهَ جلّ وعلا يرغِّبك في أبويك عند كِبَر سنِّهما فيقول لك: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:23، 24]؟! كم من شيخٍ كبيرٍ إن تحدَّث في مجلِسٍ نظر إليه الشّباب نظرةَ الازدِراء والاحتقارِ، يرَونَ كلامَه غيرَ صحيح، ويرَونَ رأيَه غيرَ صائب، ويعدّونه عِبئًا وثُقلاً عليهم، وما علِموا أنَّ هذا الذي أمضى عمرًا في طاعةِ الله وفي القيامِ بما أوجب الله أنّه أفضلُ وأعلى منهم منزلةً.

أيّها الشابّ المسلم، نبيّنا يقول لنا: "ليس منَّا من لم يوقِّر كبيرَنا ويرحَم صغيرَنا" [4]، ونبيّنا إذا تحدّث عنده اثنان في أمرٍ ما يبدَأ بأكبَرهما بالحديث ويقول: "كبِّر كبِّر" [5]، يبدأ الأكبرُ قبلَ أن يبدأَ الأصغر. هكذا خلُق الإسلام، وهكذا رُبِّي المسلمون على هذه التربيةِ العظيمة، أن يحترِمَ صغارهم كبارَهم، وأن يرحَمَ كبارهم صغارَهم، وأن تتبادلَ المنافع بين الجميع ليكون المجتمع المسلم مجتمعًا مترابِطًا متعاونًا على الخير والتقوى.

أيّها المسلم، لا سيّما رحمك، فالرّحِم لهم حقُّ الصِّلة، فكبارهم يجب أن تحترِمَه لرَحمِه أوّلاً ثم لكِبَر سِنّه ثانيًا، تقدِّره وتقدِّمُه وتربِّي الصغارَ على احترامِ الكبار، لا تدَع الصغيرَ يتخطَّى حدَّه، ولا تدع الصغيرَ يبسط لسانَه بالبذاءةِ أو السخرية، ولا تدع الصغيرَ يتقدَّم على الكبير، بل ألزِمهم الأدبَ الحسَن ليعرفَ بعضهم قدرَ بعض، وهكذا الأبناءُ أيضًا، أبناؤُك تربِّيهم على هذَا، ليكونَ صغيرهُم محترِمًا لكبيرهم، وليكن كبيرهم رفيقًا بصغيرهم، فإذا علِم الأبناء منك أنَّك تقدِّم الأكبرَ فالأكبر وتربّيهم على هذا الخُلُق نشؤوا وقد ألِفوا تلكمُ الأخلاقَ العالية، لكن مصيبتُنا للأسفِ الشّديد أنَّ كثيرًا من مجالِسِنا نرى صِغارًا في صدورِ المجالس وكِبارًا في أقصاها، ونرى شبابًا تستطيلُ ألسنتهم على الكبار، ونرى شبابًا لا يعرِف للكبير أيَّ قدرٍ ولا أيَّ مكانة، لا يرى له قدرًا، قد يلمِزه بجهله، وقد يلزمه بضَعف رأيه، وقد يلمزه بقِلّة علمه، وقد يلمِزه بعدَم نظافةِ ملبَسه، وقد وقد .. كلُّ هذه التّرَّهات لا يجب أن تحمِلك على إهانةِ الكبير، بل قدِّر الكبير وعظِّمه وأظهر لأولادك عندما يزورون معك رحِمًا أنّك تقدِّم الأكبرَ فالأكبر. وكم سلك هذا المسلكَ بعضُ من أريدَ لهم خيرٌ مِن أُسَرٍ كريمة، فلا تكاد تعرِف أعمارهم إلاَّ إذا رأيتَ الكبير متقدِّمًا على من دونه ولو كان الكبير أقلَّ مرتبةً ممن هو دونه، لكن يعرِفون للكِبَر حقَّه، ويجلّون الكبيرَ، ويتربَّى النشءُ على هذه الفضائلِ العظيمة.

فكونوا ـ إخوتي ـ على هذا الأدبِ العظيم، ربُّوا أولادَهم على احترام الكبار، سواء من ذوي الرحم أو من ذي غَيرهم، وعلِّموهم الأدَبَ الحسن والقولَ الطيِّب في التعامل مع الآخرين، فتلك أخلاقُ الإسلام التي إن اعتنينا بها حقًّا نِلنا السعادةَ في الدنيا والآخرة.

 

 



 
احترام الأماكن والأزمنة والأشياء
 
مقدمة:

لا يقتصر الاحترام في الشريعة الإسلامية على بني آدم، وإنما يمتدّ ليشمل بعض الأمكنة والأزمنة والأشياء، وكلّ ما اصطفاه الله عزّ وجلّ على أفراد جنسه، فقد استحقّ من المسلم أن يُعظمه ويحترمه!

ابن القيّم:

{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}

"فَكَمَا أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ فَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالِاخْتِيَارِ مِنْهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْلُقَ وَلَا أَنْ يَخْتَارَ سِوَاهُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعِ اخْتِيَارِهِ، وَمَحَالِّ رِضَاهُ، وَمَا يَصْلُحُ لِلِاخْتِيَارِ مِمَّا لَا يَصْلُحُ لَهُ، وَغَيْرُهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ".

"وَإِذَا تَأَمَّلْتَ أَحْوَالَ هَذَا الْخَلْقِ، رَأَيْتَ هَذَا الِاخْتِيَارَ وَالتَّخْصِيصَ فِيهِ دَالًّا عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَلَا شَرِيكَ لَهُ يَخْلُقُ كَخَلْقِهِ، وَيَخْتَارُ كَاخْتِيَارِهِ، وَيُدَبِّرُ كَتَدْبِيرِهِ، فَهَذَا الِاخْتِيَارُ وَالتَّدْبِيرُ وَالتَّخْصِيصُ الْمَشْهُودُ أَثَرُهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَأَكْبَرِ شَوَاهِدِ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ.".

 

 

احترام الأماكن:

"فَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ سَبْعًا فَاخْتَارَ الْعُلْيَا مِنْهَا فَجَعَلَهَا مُسْتَقَرَّ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، وَاخْتَصَّهَا بِالْقُرْبِ مِنْ كُرْسِيِّهِ وَمِنْ عَرْشِهِ، وَأَسْكَنَهَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، فَلَهَا مَزِيَّةٌ وَفَضْلٌ عَلَى سَائِرِ السَّمَاوَاتِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا قُرْبُهَا مِنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى".

"وَمِنْ هَذَا اخْتِيَارُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ الْأَمَاكِنِ وَالْبِلَادِ خَيْرَهَا وَأَشْرَفَهَا، وَهِيَ الْبَلَدُ الْحَرَامُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اخْتَارَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَهُ مَنَاسِكَ لِعِبَادِهِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِتْيَانَ إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، فَلَا يَدْخُلُونَهُ إِلَّا مُتَوَاضِعِينَ مُتَخَشِّعِينَ مُتَذَلِّلِينَ كَاشِفِي رُءُوسِهِمْ مُتَجَرِّدِينَ عَنْ لِبَاسِ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَجَعَلَهُ حَرَمًا آمِنًا"

احترام الأزمنة:

"وَمِنْ هَذَا تَفْضِيلُهُ بَعْضَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ عَلَى بَعْضٍ، فَخَيْرُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، ... وَمِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ، وَتَفْضِيلُ عَشْرِهِ الْأَخِيرِ عَلَى سَائِرِ اللَّيَالِي، وَتَفْضِيلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى أَلْفِ شَهْرٍ".

 

 

احترام الأشخاص:

"وَمِنْ هَذَا اخْتِيَارُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُصْطَفَيْنَ مِنْهُمْ عَلَى سَائِرِهِمْ، كَجِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: («اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".

"وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُهُ سُبْحَانَهُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ وَلَدِ آدَمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَاخْتِيَارُهُ الرُّسُلَ مِنْهُمْ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أبي ذر الَّذِي رَوَاهُ أحمد، وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ "، وَاخْتِيَارُهُ أُولِي الْعَزْمِ مِنْهُمْ، وَهُمْ خَمْسَةٌ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ (الْأَحْزَابِ) وَ (الشُّورَى) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] [الْأَحْزَابِ: 7]، وَقَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] [الشُّورَى: 13]، وَاخْتَارَ مِنْهُمُ الْخَلِيلَيْنِ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَآلِهِمَا وَسَلَّمَ.

وَمِنْ هَذَا اخْتِيَارُهُ سُبْحَانَهُ وَلَدَ إِسْمَاعِيلَ مِنْ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ، ثُمَّ اخْتَارَ مِنْهُمْ بَنِي كِنَانَةَ مِنْ خُزَيْمَةَ، ثُمَّ اخْتَارَ مِنْ وَلَدِ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، ثُمَّ اخْتَارَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ اخْتَارَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".

احترام الأشياء والأعمال:

"وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اخْتَارَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ أَطْيَبَهُ، وَاخْتَصَّهُ لِنَفْسِهِ وَارْتَضَاهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يُحِبُّ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَلَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ وَالْكَلَامِ وَالصَّدَقَةِ إِلَّا الطَّيِّبَ، فَالطَّيِّبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ مُخْتَارُهُ تَعَالَى."