حينما كان الإصلاحيون يقرعون أجراس التنبيه في البلدان العربية بأنها لم تحصل أبداً على استقلالها المدونة في تاريخها والتي يجري الاحتفال بها سنوياً في مهرجانات "أعياد" الاستقلال الزائفة، كان البعض يستنكر هذه النظرة "التشاؤمية" التي يوصم بها حصاد "نضال" وجهاد شعوب بلداننا العربية ضد الاحتلال، وتعتبر أن شيئاً ما على الأقل قد تحقق لتلك الدول يدفعها لتصور استقلالها عن دول الاحتلال الغربية.
وبعيداً عن الشواهد التي ظل المثقفون الغيورون يسوقونها للتدليل على مدى تبعية دولهم للغرب والكم الهائل من الدلائل التي وضعها الباحثون للتأكيد على تلك الحقيقة خلال العقود الماضية، فإن كما هائلاً من الأحداث التي واكبت الثورات العربية الأخيرة قد برهنت بما لا يدع مجالاً لشك أن معظم الدول العربية مما تدور في فلك الولايات المتحدة وأوروبا أو في فلك إيران وروسيا هي لم تبرح مرحلة الاحتلال بعد، وأن حكامها وحكوماتها لا يملكون أي ارتباط حقيقي بشعوبهم وهوياتها..
لقد فوجئ البسطاء من المصريين في أوج ثورتهم بالصهاينة يتحدثون عن رئيسهم كـ"كنز استراتيجي لإسرائيل" لا يمكنهم تعويضه، وبنسبة تصل إلى 65% من الصهاينة يتمنون بقاءه في سدة الحكم بمصر، وبجيش من "المسؤولين" المصريين يتنصلون من أوطانهم عندما طالهم سيف القانون.
نائب رئيس الوزراء المصري السابق رشيد محمد رشيد ترددت أنباء قوية عن أنه قد تنازل بكل بساطة عن جنسيته المصرية مفضلاً عليها البريطانية، وكذلك يسعى وزير الاقتصاد المصري السابق يوسف بطرس غالي أن يفعل، للاحتفاظ بالأمريكية وحدها (أو اللبنانية)، ومثله زميل مبارك الطيار العسكري السابق حسين سالم صاحب فضيحة قضية الغاز المصري المصدر للكيان الصهيوني يسعى لذلك ـ أو ربما فعل ـ وكذلك سيفعل كل من كانوا يدرسون للمصريين أصول الوطنية والانتماء للوطن في خطبهم المصنوعة الجوفاء، وذلك من أجل النجاة من ملاحقة قضائية!!
لقد شعر كل من كان يحسن الظن بالنظام السوري من بسطاء سوريا الذين دغدغت مشاعرهم عبارات العداء الظاهري للكيان الصهيوني ـ بغصة شديدة عندما بدا مدى تمسك الأمريكان والأوروبيين ببقاء الأسد بعد ارتكاب مذابح مسحت رصيد "الممانعة" المزعوم، واصطدم المخدوعون بتصريحات مخلوف عن أهمية نظام بشار لـ"إسرائيل"، وتحذيرات كلينتون الضمنية للرئيس السوري بأن الولايات المتحدة بوسعها أن تستغني عن خدمات الأسد لها، هذا بالطبع بعد أن قطعت المذابح الرعيبة في كل أنحاء البلاد باستثناء الجولان وحدها التي تحتلها "إسرائيل"، قول كل خطيب عن المقاومة والممانعة والصمود والتصدي.
وعندما بدأ الأمريكيون والبريطانيون يتدخلون أكثر وأكثر في المشكلة الداخلية اليمنية، شعر اليمنيون كم للغرب من أوراق داخل بلادهم.
وإذ وجد الليبيون والسوريون والمصريون والتونسيون أن أموالهم المنهوبة من قبل حكامهم قد وضعت في بنوك أوروبية وأمريكية سواء منهم من اصطف في جانب "الممانعة" أو محور "الاعتدال"؛ فإنهم أيقنوا أن أنظمتهم كانت تمثل الوجه العربي المألوف للاحتلال الغربي، والذي طال أمد بقائه بشكل غير مباشر أكثر مما كان في صدارة المشهد المحلي قبل "الاستقلال"، ثم لما أجرى سياسيون واقتصاديون وأكاديميون مقارنة سريعة بين عهدي ما قبل وما بعد "الاستقلال" بدا أن الكفة لم تكن أبداً في صالح الاحتلالات غير المباشرة، وانجاب الغشاء فإذا الأنظمة المحلية أكثر بعداً عن "الوطنية" عن الغرباء فضلاً عن الدين والهوية.
ومع فضائح هؤلاء في "الربيع العربي"، تبرز أهمية تكوين الوعي الجمعي العربي على نحو يمكنه من النجاة من الوقوع في المنزلق ذاته الذي وقع فيه الآباء والأجداد حين كانوا يندفعون بكل كيانهم إلى شوارع الثورات يمنحونها كل تأييد وامتنان فيما انكشف الغطاء عن فترة من أسوأ فترات الأمة اغتراباً عن هويتها وحضارتها وقيمها، ومع المعلومات التي تكشف أركان الجريمة بحق شعوبنا العربية يصبح لزاماً على تلك الشعوب أن تباشر استقلالاً حقيقياً ينبت من تربة إسلامية وعربية أصيلة؛ فلا تلدغ من الجحر ذاته مرات ومرات.