قراءة في تطورات موقف المجلس العسكري الأخيرة
18 شعبان 1432
د. خالد صقر

في الأسابيع الأخيرة حدثت تطورات يراها الكثيرون جذرية وعميقة في موقف المجلس العسكري من سيناريو انتقال السلطة في مصر ، وهذا السيناريو المعد لانتقال السلطة كان المجلس العسكري قد قام برسمه بدقة من خلال الاستفتاء والإعلان الدستوريين منذ عدة شهور ، وقام المجلس خلال كل تلك الفترة بالدفاع بشكل مستميت عن هذا السيناريو الذي يتلخص في إجراء الانتخابات البرلمانية في سبتمبر يتبعها تشكيل لجنة لصياغة الدستور المصري الجديد ، ثم انتخاب ئيس للجمهورية بعد ذلك ، وقد صمد المجلس بشكل صلب للغاية للمحاولات المختلفة لتغيير هذا السيناريو حتي الأسبوع الماضي ، عندما تخلي المجلس العسكري – بدون أي مقدمات – عن بعض العناصر الهامة في هذا السيناريو الإنتقالي مثل فرض مبادئ أساسية محددة علي الدستور الجديد واحتمالية تأجيل الانتخابات ، وأُعلن ذلك التخلي في بيان المجلس العسكري الأخير ، فما هي أسباب هذه التطورات المفاجئة ؟ وهل تخلي المجلس العسكري بالفعل عن سيناريو (الانتخابات أولاً) الذي كان يدافع عنه طيلة الفترة الأخيرة ؟ ما هي موازين القوي الحقيقية التي تؤثر في مواقف المجلس العسكري السياسية منذ توليه أمور البلاد ؟ هذا المقال يسعي لتقديم بعض الإجابات عن هذه الأسئلة التي باتت تؤرق العديد من المهتمين بمستقبل النظام السياسي في مصر.

 

 

في وقت مبكر من هذا العام ، وقبل خلع مبارك من سدة الحكم بيومين ، صرح روبرت هنتر المستشار بمؤسسة راند RAND للدراسات الإستراتيجية الأمريكية والسفير السابق للولايات المتحدة لدي حلف الناتو لوكالة الأنباء البريطانية بي-بي-سي [1] أن السبيل الوحيد للحفاظ علي المصالح الأمريكية في مصر في حالة انهيار نظام مبارك هو الإبقاء علي المساعدات العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة للجيش المصري ، فقال : "بينما تتطور الأزمة في مصر يبرز الجيش كأهم عنصر من عناصر تحديد المستقبل العاجل للبلاد ، وتبرز أيضاً العلاقات الأمريكية مع المؤسسة العسكرية المصرية كالعنصر الأهم والأكثر حساسية للولايات المتحدة في توجيه ما سيحدث في الأيام القادمة ، فاستمرار المساعدات للجيش المصري سيكون أمراً حرجاً لاستمرار التأثير الأمريكي ولحدوث تطور في مصر بما يتوافق مع المصالح الأمريكية" واستطرد هنتر قائلاً : "...بالصدفة وعند بدئ الأحداث في مصر كان رئيس الأركان المصري مع أكثر من عشرين من كبار ضباط القوات المسلحة المصرية في لقائهم السنوي بقادة الجيش الأمريكي في البانتجون ، وأتاحت هذه الصدفة أن يتبادل الطرفان الحديث حول أهمية بقاء الجيش في ثكانته والتزام ضبط النفس ، كما شدد المضيفون الأمريكيون علي أهمية الإبقاء علي العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة" أ.هــ ، وتحدث روبرت هنتر في بقية مقاله عن حجم وأهمية المساعدة العسكرية الأمريكية التي تبلغ 1.3 مليار دولار سنوياً للجيش المصري ، وتناول العديد من النقاط ذات الأهمية التي تجعل مقاله يستحق القراءة والإستيعاب بحق ، لكن ما يعنينا في سياق هذا المقال هو معرفة واحد من أهم موازين القوي التي توجه موقف المجلس العسكري ألا وهي المعونة العسكرية الأمريكية التي تعتبر أهم عناصر التوازن للجيش المصري في مواجهة مثيله الإسرائيلي ، بالرغم من وجود اتفاقية السلام التي يفترض بها الحيلولة دون أي مواجهة عسكرية محتملة بين الجانبين – علي الأقل علي المدي القريب.

 

 

وبالفعل التزم الجيش بالموقف الذي نقله روبرت هنتر ، فكان انخراط الجيش في التغيرات السياسية التالية لخلع مبارك محدوداً للغاية ، واقتصر علي حفظ النظام في الشارع المصري الثائر ، وصياغة سيناريو لانتقال السلطة بشكل ديمقراطي يتضمن ثلاث عناصر رئيسية هي انتخابات برلمانية ثم صياغة دستور جديد ثم انتخابات رئاسية ، وعبرت الأوساط الأمريكية السياسية عن ارتياحها العميق آنذاك لهذا الموقف الداعم للديمقراطية من المؤسسة العسكرية ، حتي بدأت الولايات المتحدة في استشراف حقيقة حجم التيارات الإسلامية وتأثيرها في الشارع المصري ، فنقلت وسائل الإعلام الأمريكية بطرفيها الجمهوري والديمقراطي حجم المفاجأة من تغير صبغة الثورة المصرية ، وقد تلت هذه المفاجأة – بشكل محدد – الاستفتاء علي التعديلات الدستورية في مارس ، عندما تكتلت أصوات التيارات الإسلامية مجتمعة خلف خيار قبول هذه التعديلات ، فبمجرد حسم الإستفتاء لصالح هذه التيارات كتب باري روبين مدير مركز أبحاث العلاقات الدولية ‏GLORIA‏ ورئيس تحرير دورية الشرق الأوسط للعلاقات الدولية ‏MERIA‏ مقالاً ‏بمجلة فري ريبابلك Free Republic بتاريخ 23 مارس الماضي [2] ‏قال فيه : "بحلول نهاية عام 2011 فسيصل – في أغلب الأحوال - إلي سدة الحكم في مصر رئيس ذو توجه أصولي معادي لأمريكا ، ‏والأمر من ذلك أنه سيكون معادي لإسرائيل أكثر من أي سياسي في عهد مبارك ، ومن المرجح أيضاً أن يحتوي البرلمان ‏الجديد علي 30% من الأعضاء من الإسلاميين و أكثر من 30% من القوميين اليساريين ، هذا البرلمان سوف يصيغ ‏دستوراً جديداً لمصر ، وأثناء صياغة هذا الدستور فإن ليبراليّ الفيسبوك سيكونون معدومي الأهمية تقريباً ، سيتم إهمال أي ‏رأي للمسيحين الذين يشكلون 10% من تعداد السكان بمصر في صياغة هذا الدستور. إن الدستور الجديد في مصر سوف ‏يُعرّف الدولة أنها دولة مسلمة وأن الإسلام هو المصدر الرئيسي – إن لم يكن الوحيد – للتشريع" وأضاف باري روبين في ‏نفس المقال : "إن الأصوات المعادية لأمريكا والمعادية لإسرائيل في مصر أكثر عمقاً واتساعاً مما يمكن للمراقبين الغربيين أن ‏يتخيلوه ، وكذلك فإن الفجوة بين الإسلاميين والقوميين واليساريين أقل اتساعاً بكثير مما يفترض بها أن تكون. إنه لا يزال من الممكن لمستخدمي الفيسبوك أن يفضلوا دولة قائمة علي مرجعية الشريعة علي أي حال" أ.هــ

 

 

 

إذن فعند تأمل المعطيات السابقة ، يمكن القول أن الولايات المتحدة كانت تريد من المؤسسة العسكرية أن تدعم انتقال سلمي وديمقراطي للسلطة اعتماداً علي فكرة مفادها أن الثورة المصرية قائمة علي التيارات الليبرالية والعلمانية المؤيدة للولايات المتحدة بشكل عام ، وهذا ما ظهر في الأيام الأولي للثورة ، فكان الأمريكيون يظنون أن الانتقال السلمي للسلطة في مصر – بشكل سريع – سيحمي التيارات الليبرالية والعلمانية وسيضمن وصولها لسدة الحكم بشكل سريع وقاطع ، وعندما ظهر دور الإسلاميين في الثورة منذ الثامن والعشرين من يناير ، وتبلور ذلك الدور تماماً وظهرت حقيقة التواجد الإسلامي في الشارع المصري تغيرت وجهة النظر الأمريكية إلي النقيض ، فبعد أن كانت الولايات المتحدة تري في الانتقال السريع السلمي للسلطة في مصر ضماناً لاستقرار مصالحها في البلاد ، وكانت تحث المجلس العسكري علي ضمان ذلك الانتقال السريع ، باتت الولايات المتحدة تري في سيناريو انتقال السلطة خطراً داهماً يهدد مصالحها العديدة في مصر ، وذلك لتضخم وتأكد احتمال فوز التيار الإسلامي بنسبة كبيرة في مقاعد البرلمان الجديد ، ومن ثم المشاركة الفاعلة في صياغة دستور قد يحمل مبادئ معادية لسياسات الولايات المتحدة وخططها الاستراتيجية في المنطقة.

 

 

أما المؤسسة العسكرية المصرية ، فيمكن تحليل موقفها بشئ من التأمل للموقف الأمريكي مع الوضع في الاعتبار حجم الاعتماد المصري علي المعونة العسكرية الأمريكية وأهمية ذلك الاعتماد كما تراه الولايات المتحدة كما ذكرنا سابقاً ، فالجيش حريص تماماً علي الإبقاء علي تلك المعونة العسكرية الضخمة التي تضمن توازن القوي الخارجية مع اسرائيل ، وهذا إن عبر عن شئ فيعبر عن مدي هشاشة اتفاقية السلام ، وأن أكثر من ثلاثين عاماً من السلام بين مصر واسرائيل لم تنجح في تخليص الجيش المصري من التقيد بسباق التسليح المتسارع حتي مع وجود قوات مراقبين دوليين في سيناء لضمان التزام الطرفين بنصوص تلك المعاهدة ، وهذا الحرص التام علي بقاء المعونة العسكرية الأمريكية يدفع صناع القرار في المؤسسة العسكرية للإبقاء علي قدر معين من التنسيق مع نظرائهم في البانتجون الذين يقدمون الـ1.3 مليار دولار للمؤسسة العسكرية سنوياً ، لهذا تغير موقف المجلس العسكري من سيناريو انتقال السلطة الذي كان يدعمه – وتدعمه الولايات المتحدة – حتي وقت قريب جداً ، يقول دافيد كيركباتريك في مقال له نشر في صحيفة نيويورك تايمز يوم 16 يوليو [3] : "إن المجلس العسكري يتحرك الآن في مصر لإرساء قواعد أساسية للدستور المصري الجديد ، تضمن بشكل رئيسي توسيع دائرة صلاحياته بشكل كبير ، بل وربما تضمن له التدخل في السلطة فوق النظام السياسي المنتخب مستقبلاً" ، ويضيف الكاتب المتخصص في شئون الشرق الأوسط في مقاله قائلاً : " لقد أعلن الجيش يوم الثلاثاء الماضي أنه سيتبني إعلاناً للمبادئ الأساسية للدستور التي ستحكم صياغة الدستور المصري الجديد ، وقد رحب الليبراليون المصريون مبدئياً بهذه المبادرة من المجلس العسكري والتي ستضمن لهم حصانة نسبية في حالة فوز الإسلاميين بأغلبية في الانتخابات البرلمانية المقبلة" أ.هـ

 

 

فمن الواضح تماماً أن موقف المجلس العسكري - الذي كان صلباً للغاية - تجاه سيناريو قصير الأمد لانتقال السلطة يتضمن انتخابات برلمانية في سبتمبر يتلوها صياغة الدستور الجديد ، قد تغير إلي إعطاء الأولوية لصياغة "مبادئ دستورية رئيسية" تشكل مانعاً أمام الإسلاميين قبل تنفيذ ذلك السناريو ، وأيضاً التلميح إلي احتمال تأجيل الانتخابات شهر أو شهرين حتي يتم الاستعداد لها من قبل التيارات الليبرالية ، وبات من الجليّ أن ذلك التغير الجذري في موقف المجلس العسكري – بكونه متزامناً مع تغير الموقف الأمريكي– متعلق بشكل كبير باستمرار المعونة العسكرية الأمريكية الضخمة للجيش ، والتي تدور حول جدواها الحقيقية علامات استفهام كبيرة لاسيما مع كون قادة المجلس العسكري الحاليين من الجيل المؤيد والداعم لاتفاقية السلام بين مصر واسرائيل كما هو معلوم ، وبالطبع فغنيٌ عن الذكر أن تلك المعونة العسكرية الأمريكية مرهونة بالحفاظ علي "المصالح الأمريكية" في مصر والتي تحددها الإدارة الأمريكية بشكلٍ حصريّ ، لذلك فإنه من المستحيل تقريباً أن يستطيع أحد التنبؤ بموقف المؤسسة العسكرية من استمرار سيناريو انتقال السلطة الحالي – أو الذي تم تعديله مؤخراً – مالم يستطع التنبؤ بالموقف الأمريكي تجاه ما يستجد من أحداث علي الساحة المصرية.

 

ــــــــ

الهوامش

[1] http://www.cnn.com/2011/OPINION/02/09/hunter.egypt.aid/

[2

] http://www.freerepublic.com/focus/f-news/2693804/posts

[3

] http://www.nytimes.com/2011/07/17/world/middleeast/17egypt.html?_r=1&pagewanted=all

*باحث

زائر – جامعة ماليزيا التكنولوجية

[email protected]

المصدر/ المصريون