قبل أسبوعين كانت الحكومة التركية قد رفعت سقف احتجاجها على همجية النظام السوري ضد شعبه،وبخاصة عقب اجتياح مدينة جسر الشغور ومحيطها وتهجير أهاليها، الذين تدفقوا على الحدود السورية التركية،ففتح الأتراك أراضيهم وقلوبهم لاستقبال هؤلاء الهاربين من آلة القتل الأسدية المفترسة.
وامتعض النظام المستبد في سوريا من احتضان تركيا الألوف من مواطنيه الفارّين من جحيمه،وسعى –عبثاً-لإعادتهم بالإكراه،وبدأ يشن حملة افتراء على حكومة رجب طيب أردوجان بلغت من السفاهة اتهام تركيا بتهريب أسلحة مختلق لعصابات مزعومة لا وجود لها إلا في أبواق النظام وآلته الدعائية التي احترفت الكذب والتضليل.
وأصر الأتراك على الاحتفاء بالمهجرين السوريين، حتى إنها أطلقت عليهم وصف(الضيوف).
بيد أن البركان التركي المرشح لمزيد من التصعيد المتوقع،سرعان ما أخذ يخمد بصورة تدفع إلى التساؤل حول مواقف أنقرا أهي مبدئية أخلاقياً وإستراتيجية سياسياً أم هي نفعية إلى درجة مهينة؟
وكيف تخلت حكومة العدالة والتنمية بعد فوزها الثالث في الانتخابات البرلمانية حتى عن نقدها الهادئ لممارسات نظام القمع السوري التي ازدادت بشاعة وقبحاً؟ بل إن المهجرين الذين اختارت تسميتهم ضيوفاً باتوا يحتجون على معاملتهم كأنهم معتقلون أو سجناء،يُمْنع عليهم التواصل بين مخيم وآخر، ويُحظر على وسائل الإعلام الدخول إلى مخيماتهم والحوار معهم،كما ترفض أنقرا السماح للمنظمات الحقوقية والإنسانية بالحضور إلى المخيمات وتوثيق شهادات ساكنيها عن معاناتهم التي اضطرتهم إلى مغادرة بيوتهم والتشرد في البراري قبل بلوغ الأراضي التركية!!!
هذه الأسئلة المشروعة تحظى بوجاهة مضاعفة،من ملاحظة الفرق الشاسع بين رفع المتظاهرين في المدن السورية للأعلام التركية، وبين لافتات ظهرت الجمعة الماضية لا تخفي خيبة الأمل بالموقف التركي المنقلب خلال فترة قصيرة انقلاباً جذرياً.حتى إن الأتراك الذين أعلنوا من قبل عن تحريك جيشهم السادس إلى الحدود مع سوريا، سرّبوا أنباء عن نيتهم منع جيش النظام السوري من ملاحقة النازحين المدنيين في اتجاه الأراضي التركية،ولا سيما أن اتفاق أضنة 1998م بين البلدين يمنع الجيش السوري من الاقتراب من الحدود المشتركة مسافة تتراوح بين 5و25كيلومتراً!!
التفسير الوحيد الذي يبدو معقولاً يتلخص في معارضة أمريكا للاندفاع التركي في وجه النظام السوري أفضل حامٍ للكيان الصهيوني، إذ ما زال العم سام يكرر أسطوانته المشروخة عن تخيير النظام بين الإصلاح والرحيل، مع يقينه أن الإصلاح في ظل هذا النظام من رابع المستحيلات!!
وهنا برز على السطح فجأة،التباين الشديد في موقف السفير الأمريكي لدى سوريا بين سياحته المفاجئة في مناطق سورية في ذروة ثورة شعبها، ثم زيارته والسفير الفرنسي لمدينة حماة وكأنها طوق نجاة يتلهف النظام المأزوم للتشبث به فالزيارة تمت بطلب رسمي تقدمت به سفارة واشنطن إلى الخارجية السورية،كما أن المسافة بين دمشق وحماة تبلغ نحو200كيلومتر، حيث يعج كل كيلومتر منها بحاجز أمني رهيب،فكيف يصطنع النظام أن السفيرين وصلا إلى حماة من وراء ظهره!!!
بالطبع يمكن قراءة الزيارة الغريبة للسفيرين إلى حماة في اتجاهين متنافرين،أحدهما:أنها خدمة إضافية من الأمريكيين للنظام باستخدام مخزونه الضخم من شتم الجموع الثائرة وتقديم قرينة مفتعلة على اتهامه لها بالعمالة للغرب!!
والثاني: أن الفرص التي منحتْها واشنطن للأسد لإخماد ثورة السوريين قد نفدت، وأن اجتياح حماة عسكرياً خط أحمر،ليس حرصاً على دماء لطالما سمحت إدارة أوباما للنظام بإراقتها،وإنما لأن من شأن مذبحة جديدة في حماة على غرار مذبحة الأسد الأب في 1982م تأجيج الأغلبية الصامتة أو المترددة، ونكأ جروح لما تندمل في ذاكرة الشعب السوري كله.
وفي كلتا الحالتين يبقى سيل من الأسئلة حول الزيارة وتوقيتها وسببها الحقيقي،فالمدن السورية الأخرى تشهد مجازر رهيبة منذ نحو أربعة أشهر،فلماذا لم يتحرك السفير الأمريكي إلى مواقعها؟ بل إن الأدهى أن هذا السفير لم يكلف نفسه عناء مواكبة أي تظاهرة في العاصمة دمشق،التي تنطلق فيها عدة مظاهرات بعد كل صلاة جمعة؟ولماذا يذهب السفير بنفسه بدلاً من إيفاد دبلوماسي أقل رتبة؟
أما السؤال الذي يفضح حقيقة النظام السوري في موضوع زيارة السفير الأمريكي،فهو اقتصار الرد الرسمي على الهراء الإعلامي،في حين يفترض في أي حكومة صادقة في اعتراضها أن تعتبر السفير شخصاً غير مرغوب فيه!!ويواكبه سؤال آخر لصيق به،حول التركيز على زيارة السفير الأمريكي وتجاهل زيارة السفير الفرنسي،علماً بأن الأول أبلغ الخارجية السورية بأمر زيارته لحماة؟؟!!