أنت هنا

المراد بالكتابي الذي تحل ذبيحته
2 شعبان 1432
اللجنة العلمية

اختلفوا في المراد بالكتابي الذي تحل ذبيحته، وينطبق عليه هذا الوصف على قولين:
الأول: أنه من تدين بدين اليهودية أو النصرانية.
وهو قول جماهير الأمة.
لقوله تعالى: (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا) (الأنعام: من الآية156)، فلو كانوا أكثر من طائفتين لما خصهم بذلك ونقل ابن عطية الإجماع على أن المراد بذلك اليهود والنصارى فقط(8).
وعلى هذا دل عرف القرآن والسنة في أهل الكتاب وفهمه الصحابة ومن بعدهم.
الثاني: أنه كل من اعتقد ديناً سماوياً له كتاب منزل فيشمل إضافة لما سبق من آمن بصحف إبراهيم وزبور داود.
وبهذا قال الحنفية ونص عليه الشافعي(9)، ولعلهم نظروا إلى طبيعة اللفظ اللغوية(10).
ورجح الجصاص قول الجمهور وقال: "الآية صريحة في أن أهل الكتاب في عرف القرآن هم اليهود والنصارى دون غيرهم"(11).
وهو الراجح وتدل عليه الحقيقة العرفية.

 

واشترط بعض العلماء التزام الكتابي بأحكام دينه وعمله به فإذا تركه ونبذه وراء ظهره كبعض المنتسبين للنصرانية في عصرنا فلا يعد كتابياً.
والصحيح أنه إذا كان إنكاره للدين بمعنى جحوده وإلحاده فهذا لا يعد كتابياً، أما إذا التزم بعقيدتهم ونسب نفسه إليهم فإن هذا كاف في اعتباره منهم فإن الله تعالى نادى أهل الكتاب بذلك مع عدم تمسكهم بأحكامه وتحريفهم وتبديلهم له كما في قوله سبحانه: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (المائدة: من الآية68)، وحل ذبائحهم هو باعتبار أصل دينهم لا باعتبار ما ابتدعوه.

 

وقد اشترط بعض العلماء أيضاً لكونه كتابياً أن يكون هو أو آباؤه قد دخلوا في ذلك الدين قبل النسخ والتبديل، قال شيخ الإسلام: "وهذا قول ضعيف لا دليل عليه بل المقطوع به أن كون الرجل كتابياً أو غير كتابي هو حكم يستفيده بنفسه لا بنسبه.... وهو المنصوص الصريح عن جمهور الفقهاء والثابت بين الصحابة بلا نزاع بينهم.... وذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم"(12).
والمتدين بدين أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن وافقهم في أصول دياناتهم من فرقهم المختلفة قد يكون حربياً أو ذمياً ومن العرب أو غيرهم وقد يكون أبواه كتابيان أو غير كتابيين أو أحدهما كتابي دون الآخر.
فاتفقوا أنه لا فرق بين الحربي والذمي منهم(13).

 

واختلفوا في نصارى العرب على قولين:
الأول: حلها، وهو قول الحنفية والمالكية، وآخر الروايتين عن أحمد(14).
الثاني: تحريم ذبائحهم، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه(15)، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد(16).
وسبب الخلاف: "هل يتناول العرب المتنصرين اسم الذين أوتوا الكتاب كما يتناول ذلك الأمم المختصة بالكتاب وهم بنوا إسرائيل والروم"(17).

 

واستدل أصحاب القول الأول:
بدخولهم في عموم قوله سبحانه: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) (المائدة: من الآية5)، ولأنهم أهل كتاب يقرون على دينهم ببذل المال فتحل ذبائحهم ونساؤهم كبني إسرائيل؛ ولأنه قول جماهير الصحابة(18).
واستدل أصحاب القول الثاني:
بأنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر؛ ولأنهم لم يقوموا بالشروط التي اشترطها عليهم عثمان، ومن كان منتحلاً ملة هو غير متمسك منها بشيء فهو إلى البراءة منها أقرب منه إلى اللحاق بها وبأهلها(19)، واستدل علي(20) على ذلك بقوله سبحانه: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ) (البقرة: من الآية78).

 

والراجح القول الأول؛ لقوة أدلتهم، وكون هؤلاء من العرب لا يخرجهم عن عموم الآية وتساهلهم في بعض الواجبات والمحظورات من دين أهل الكتاب لا يخرجهم كذلك(21).
والآية السابقة دليل لنا؛ لأن (من) للتبعيض أي من أهل الكتاب(22).
واتفق أهل العلم على أن من كان أبواه كتابيين فإنه تحل ذبيحته واختلفوا فيما إذا كانا غير كتابيين أو أحدهما كذلك دون الآخر(23).

 

فالقول الأول: حل ذبيحته.
وهو قول الحنفية والمالكية وقول للشافعي إذا كان الأب كتابياً، ورواية عن أحمد(24).
والقول الثاني: تحريمها.
وهو قول مالك – إن كانا غير كتابيين(25) – والشافعي، ورواية عن أحمد وعليها أصحابه(26).

 

 

الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول:
بأن الاعتبار بدين الذابح لا بدين أبيه بدليل أن الاعتبار في قبول الجزية بذلك، ولعموم النص والقياس فهو كتابي يُقِرُّ على دينه فتحل ذبيحته كما لو كان ابن كتابيين؛ ولأن جعل الولد تبعاً للكتابي منهما أولى لأنه خيرهما ديناً(27).
واستدل أصحاب القول الثاني:
بأنه وجد ما يقتضي التحريم والإباحة فَغُلِّبَ ما يقتضي التحريم كما لو جرحه مسلم ومجوسي، وبيان وجود ما يقتضي التحريم: أن كونه ابن مجوسي أو وثني يقتضي تحريم ذبيحته(28).

المناقشة والترجيح:
قال ابن القيم رحمه الله: "حِلُّ ذبائحهم ومناكحتهم مرتب على أديانهم لا على أنسابهم فلا يكشف عن آبائهم هل دخلوا في الدين قبل المبعث أو بعده.. فإن الله سبحانه أمرهم بالجزية ولم يشترط ذلك وأباح ذبائحهم وأطعمتهم ولم يشترط ذلك في حلها"(29).
وعليه فالراجح حلها مطلقاً ولعموم النصوص والقياس كما تقدم.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8) المحرر الوجيز (5/404).
(9) ينظر: تبيين الحقائق (3/110)، والأم (4/281)، وبه قال أبو يعلى من الحنابلة.
(10) ينظر: فقه الأقليات، خالد عبد القادر، ص (20)، وأحكام الأطعمة، أبو سريع، ص(196).
(11) أحكام القرآن (2/327).
(12) دقائق التفسير (3/19).
(13) المصادر السابقة، والإجماع، لابن المنذر، ص (58).
(14) ينظر: بدائع الصنائع، للكاساني (5/75)، وحاشية ابن عابدين (9/428)، وبداية المجتهد، لابن رشد (2/262)، والمنتقى، للباجي (3/112)، والمغني، لابن قدامة (13/228-229)، وأحكام أهل الذمة، لابن القيم (1/513).
(15) ومنه دخلت الشبهة على الشيعة – كما قال ابن القيم – فانفردوا بتحريم ذبائح أهل الكتاب وهذا القول مخالف للكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم فلا يلتفت إليه، كما قال ابن القيم حيث بين بطلانه في أحكام أهل الذمة (1/506- وما بعدها).
(16) ينظر: المصادر السابقة، والمجموع، للنووي (9/52-53)، ومغني المحتاج، للشربيني (4/266)، وروضة الطالبين، للنووي (3/237).
(17) بداية المجتهد، لابن رشد (2/263).
(18) "قال الأثرم: وما علمت أحداً كرهه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا علياً"، المغني، لابن قدامة (13/228).
(19) ينظر: المصدر السابق، وتفسير ابن جرير الطبري (6/102).
(20) ينظر: بدائع الصنائع، للكاساني (5/75).
(21) ينظر: الأطعمة، لصالح الفوزان، ص 107، وأحكام الأطعمة، أبو سريع، ص (193).
(22) ينظر: بدائع الصنائع، للكاساني (5/75).
(23) ينظر: المصدر السابق، وبداية المجتهد، لابن رشد (2/264)، والمدونة (1/573)، وشرح خليل، للخرشي (3/6)، والمجموع، للنووي (9/52-53)، ومغني المحتاج، للشربيني (4/266)، وروضة الطالبين، للنووي (3/237)، والمغني، لابن قدامة (13/228)، وأحكام أهل الذمة، لابن القيم (506).
(24) ينظر: المصادر السابقة.
(25) المصادر السابقة، وقد قال ابن قدامة في المغني (13/294): (إن كان ابن وثنيين أو مجوسيين فمقتضى مذهب الأئمة الثلاثة تحريمه ومقتضى مذهب أبي حنيفة حله) ورد عليه شيخ الإسلام بقوله: (حكي ذلك عن مالك وغالب ظني أن هذا غلط على مالك فإني لم أجده في كتب أصحابه)، مجموع الفتاوى (35/221).
(26) المصادر السابقة.
(27) ينظر: بدائع الصنائع، للكاساني (5/75)، والمغني، لابن قدامة (13/294).
(28) المصادر السابقة.
(29) أحكام أهل الذمة، لابن القيم (1/506).