تركيا .. ليست انتخابات محلية
26 رجب 1432
ربيع الحافظ

عندما تنتخب تركيا حزب العدالة والتنمية لفترة حكم ثالثة فهي تؤكد على أن بقاء هذه المدرسة السياسية على هرم السلطة هو ضرورة لتركيا؛ سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية، وهي ضرورات أفاضت في بيانها الحملات الانتخابية حتى تحولت إلى قناعة لدى الناخب التركي، ولكن ليس كل ناخب.

 

 

ثمة ضرورة أخرى لبقاء هذه المدرسة السياسية على دفة الحكم تمس مصلحة استراتيجية ارتكازية لتركيا لا تتطرق إليه حملات الانتخابات.

 

 

لم تعرف تركيا قبل حكومة حزب العدالة والتنمية لغة للتحدث مع محيطها العربي الذي عادت إليه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وصار ركناً في أمنها الاستراتيجي كما كان قبل تسعة عقود. من جهته، لا يجد المحيط العربي مقدرة على التفاهم ـ فضلاً عن الطمأنينة ـ مع تركيا بوجود غير المدرسة السياسية الحاكمة في أنقرة اليوم.

 

 

قد يأتي من الأطياف السياسية الأخرى من يقلد نجاحات حزب العدالة والتنمية في إدارة الاقتصاد وقد يتقن ذلك، أو يأتي من يتبنى إصلاحاته الاجتماعية مثلما بدأ يظهر، وهذه هي صفة العمل السياسي لما بعد الحقبة الآيديولوجية التي انقلبت فيها أحزاب اشتراكية إلى رأسمالية واستبدادية إلى ديمقراطية ويسار إلى يمين. لكن لن يأتي من الأطياف الأخرى من يتقن مسار الإلتئام الإقليمي الذي شرع به حزب العدالة والتنمية ونظّر له وحظي بقبول المحيط العربي، وهي معادلة بأرقام صعبة.

 

 

إذا كانت السياسة هي فن الممكن فهذه هي حدود الممكن للأطياف الآيديويولجية التركية الأخرى، إلا إذا ارتدت عن معتقداتها واعتنقت الآيديولوجية الإقليمية بجذورها الإسلامية التي انحدر منها حزب العدالة والتنمية لتصبح تركيا أحادية اللون الآيديولوجي، وقد تكون هذه هي صورة تركيا الإقليمية القادمة أمام تفاقم التحديات الإقليمية وعودة الملفات الإقليمية التاريخية من جديد، والحاجة إلى جبهة داخلية صلدة. هذا ليس إقصاء لحرية الفكر، وإنما التفاف حول المصلحة الاستراتيجية التي يُعبث بها اليوم تحت لافتات ومسميات متعددة.

 

 

هذا في داخل تركيا. أما في المحيط فلن تحظى مدرسة آيديولوجية مناهضة للمسار التركي الراهن أو غير قادرة على المضي به وإتمامه بثقة المحيط العربي، بل لن تصمد الثقة الإقليمية التي اكتسبتها تركيا في العقد الأخير طويلاً، ولن يجد المحيط العربي ـ دولاً وشعوباً ـ القدرة على العمل مع تركيا تحت إدارة آيديولوجية مختلفة بعد أن تحولت بثوبها الحالي إلى بيت سياسي واقتصادي واجتماعي وأمني ثانٍ له، وهو تحول له مقوماته وشخصيته ولغته وجميعها أمور غير خاضعة للتصويت.

 

 

عندما يحاط الناخب التركي بخصائص المدرسة التي فتحت أمامه أبواب المحيط والرخاء، وأعادته ـ فرداً ودولة ـ إلى الخريطة الإقليمية، فإنه لن يمنح صوته لمن يفتقر إلى مؤهلات إتمام هذا المسار حال فوزه، فضلاً عن من قطع العهد على وضع العثرات في طريقه وهو في خندق المعارضة، فمثله لن يكون خياراً وطنياً. ولن يقف طموح هذا الناخب عند انتخاب حكومة جديدة لإدارة شؤونه المحلية، فهذا لم يعد كافياً، وإنما يريد ترسيخ مقومات المسار الإقليمي الذي لا يسعه التفريط به، مدركاً أنه إذا كان في الشؤون المحلية مساحات رمادية فإن الأمر في المسألة الإقليمية بين أبيض وأسود.

 

 

عندما يخاطب الحس الإقليمي للناخب التركي ويغذى بمفاهيم الإنجاز الإقليمي لا بعناوينه، وكيف أن بلاده استعادت في عقد واحد ما فقدته في تسعة عقود من التقهقر الإقليمي، تنقلب الانتخابات في حساباته إلى شأن إقليمي، وتتجاوز نسبة فوز حزب العدالة والتنمية حد الـ 50%، وتتلاشى الجيوب الحمراء على خارطة النتائج الانتخابية، فهي ألوان محلية لا مكان لها على لوحة إقليمية، وعناصر خاملة ليس بينها وبين المحيط كيمياء.

 

 

الأصوات الجديدة التي ستذهب إلى جعبة حزب العدالة والتنمية لن تكون بالضرورة انحيازاً إلى خطه الآيديولوجي وإنما انحياز لشيء جديد بالنسبة للمواطن التركي والمواطن العربي في المحيط على حد سواء، هو الحساب الإقليمي.

 

 

هذه صورة واقعية وماثلة في مشاهد سياسية في العالم، فالشيوعية لا محل لها على خارطة الانتخابات الأمريكية، ولون لا يقع عليه اختيار الناخب الأمريكي رغم مذاقه السياسي الساذج، إنها خيار غير وطني في حاسة اللاشعور عنده لتعارضها مع الخصوصية الرأسمالية لأمريكا، ومع مصالحها الخارجية وريادتها لنادي الرأسمالية العالمي، كما أنها من جهة ثانية لون يرفضه أعضاء النادي ويحاصرونه كما في إيطاليا التي نشطت فيها الشيوعية في النصف الثاني من القرن الماضي.

 

 

بل إن أوربا تشعر بالقرب والحنو من أمريكا الجمهورية اليمينية أكثر منها إلى أمريكا الديمقراطية باللوثة اليسارية، ومغامرات الأوربيين والأمريكان ذات الطابع الاستعماري وحروبهم مع الأمم الأخرى تحدث تحت جناح أمريكا الجمهورية اللصيقة بالتراث البروتستانتي الأنكلوسكسوني الأبيض. إن وصْم الشيوعية باللاوطنية في الشارع الرأسمالي هو نتاج عمل إعلامي وفكري دؤوب.

 

 

عندما تتحقق صورة التآزر الآيديولوجي الإقليمي هذه في منطقتنا، تحت وقع الوعي الإقليمي للناخب التركي من جهة، وانحياز المحيط العربي إلى مدرسة سياسية بذاتها على المشهد التركي من جهة أخرى، يصبح العربي ناخباً في انتخابات الدولة الإقليمية بشكل غير مباشر ولكن بشكل فاعل يضع بصمة على الخريطة السياسية للدولة الإقليمية.

 

 

وجه آخر لدور المحيط في انتخابات الدولة الإقليمية هو دخوله طرفاً في سجالاتها الفكرية، ومؤازرة طرف فيها على حساب آخر، ومنحه الثقة الإقليمية وسحبها من غيره، والاستبشار الإقليمي به دون سواه، على شاكلة استباق حركات اليسار العالمي لانتصار الديمقراطيين على الجمهوريين في أمريكا واستبشارهم بذلك، أو فوز الاشتراكيين في فرنسا الذي يعدونه مؤشراً على عودتهم إلى المسرح السياسي العالمي.

 

 

الإقليمية سمة ثابتة للكيان السياسي على رقعة الأناضول منذ وصول المسلمين الأتراك إليه، لم ولن يدار أمنه الاستراتيجي بأوراق محلية فقط. قسم من مسؤولية أقلمة الانتخابات التركية يقع عاتق الآلة الدعاية لحزب العدالة والتنمية ومخاطبتها للحس الإقليمي للناخب التركي، ليس في موسم الانتخابات فقط وإنما في المواسم الأربعة، وهو فن يختص به الحزب، لكنه فن لا زال بحاجة إثراء وإلى مفردات جديدة بل إلى قاموس جديد. وقسم الآخر يقع على عواتق منظومات المجتمع المدني التركية والعربية التي تتحرك خارج مساحات العمل الحزبي، وعملها رجع صدى لدعاية الحزب.

 

 

يمكن التوغل مسافة إضافية في الاستنتاج والقول: ما يحدث في المنطقة هو: دولة إقليمية انتخبت طريق العودة إلى الذات والإصلاح، ومحيط مأزوم سياسياً وأمنياً يرى في طريقها مفترجاً له، ينحاز إلى مدرستها الإصلاحية ويعزل خصوماً لها يفسدون المصلحة الإقليمية، ويقيل العثرات أمام دستور جديد لها يرفع زخم الالتئام الإقليمي، وهي صورة متقدمة لنهوض إقليمي مشترك.

[email protected]

 

المصدر/ المصريون